الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عن الجن وعلبة الكبريت..التلفزيونية

عن الجن وعلبة الكبريت..التلفزيونية
15 ديسمبر 2011 00:38
a.thani@live.com لعلّ من أهم إنجازاتي لهذا العام الكف وبشكل نهائي عن إحضار الصحف إلى البيت، وعن شراء الصحف واقتنائها، مكتفياً بمتابعتها على النت، وبتصفحها، كلما انتابني حنين في مكاتب الزملاء. ولعل عادة اقتنائي للصحف، واحتفاظي ببعض أعدادها تعود إلى سنين طويلة لم أعدم فيها اختلاق المبررات للاحتفاظ بهذه الصحيفة أو تلك، فهنالك مادة دوماً مرّت عليَّ وأريد قراءتها على مهل في وقت لاحق. واللاحق هذا قد يمتد، أو هو يمتد في الغالب إلى سنوات حتى تكدَّست الصحف في مسكني، بل كنت أحملُ هذه الأكداس وأنا أتنقل بين البيوت والشقق حتى ضاقت عائلتي والأدراج ونواحي المنزل و”الكراتين” بأوراق الصحف الطويلة والهشّة. وصار مرآها حتى بالنسبة لي عبئاً نفسياً ثقيلاً. إذن فقراري “التصحيحي” بعدم اقتناء الصحف كان قرار مجيداً، أو ما زلت أظنه كذلك حتى الآن. ولتعزية نفسي وتدريبها على الوضع الجديد صرت أقنعها بأن تصفح ما جمعت طوال السنوات الماضية قد يعوض فقداني للتصفح اليومي الحاد، ثم ماذا في الصحف غير المواد الهزيلة والسطحية. إنها مضيعة للوقت، فبدلاً من قضاء ساعة أو ساعتين مع أوراق الصحف التي تضخمت بشكل مفزع في السنين الأخيرة، اقرأ كتاباً يا أخي، فللكتاب لذة قراءة لا تثيرها الصحف، والجيد الذي تقرؤه في الصحف أقرب إلى المزق أو الكِسر أو الوجبات السريعة. مقنع جداً هذا الكلام، مقنع بنسبة ما، فالصحيفة كانت على الأقل من تجربتي، دخول إلى حقل صُدف، فقد تُصادف مادة لكاتب تحبه، أو تعثر على موضوعة تشغلك، هذا غير ما تثيره من غموض وأسئلة حبكة بعض الأحداث، ثم من أكثر ما أحب قراءته في الصحف تلك الحكايات الغريبة التي ينتجها العالم كل يوم والتي تُنشر دوماً فيما يُسمى بالمنوعات، إنها حكايات تشبه قصص غاليانو القصيرة، أو على الأرجح فإن قصص غاليانو هي التي تتشابه مع تلك الحكايات. ولأسباب كثيرة ارتضت نفسي بهذا التعويض، وصرت أضع أمامي بشكل شبه يومي كمية من الصحف القديمة التي جمعتها وأقوم بتصفيتها، حقاً أفتقد إلى حرارة الصحف الطازجة (وهي حرارة منخفضة جداً في صحافتنا على العموم)، ولكني أعثر أحياناً على ما يثيرني في ذلك الركام. ففي هذا المساء مثلاً عثرت على خبر يتحدث عن شخص من الجزيرة العربية (من منطقة يُقال لها مهد الذهب غربي السعودية) رفع دعوى قضائية في المحكمة ضد جماعة من الجن بدعوى أنها تقوم بإزعاجه وإيذائه هو وعائلته وبشكل يومي. المحكمة وحسب الخبر الذي نشر في يونيو من عام 2007 كان من المحتمل أن ترد الدعوى باعتبار أنها متخصصة في التعامل مع الإنس، ولا يوجد في قوانينها وتشريعاتها ما ينطبق على هذه الحالة، وحتى لو ثبتت فعلاً التهمة الجنائية ضد الجن، فمن سيقوم بتنفيذ ذلك الأمر القضائي، فمن المعلوم أنه وحتى في السعودية لا توجد شرطة للقبض على الجن. إن العدالة حقاً مطلوبة في العالم، ولكن القوانين وأجهزة الأمن مهما كان لديها من إمكانيات لا تستطيع التحكم بكل تجليات الكون، إنه فشل معقول جداً، أو هذا تقريباً ما كان يقوله إعلاميون ومعقبون على ذلك الخبر قرأت موادهم على النت، فما أثارني هنا أثار آخرين قبلي، بل وجدت بأن الكثير من المفتين الجدد قد وجدوا في هذا الخبر سانحة لممارسة الإفتاء وطرح أسئلة جوهرية من نوع: هل يجوز مقاضاة الجن، ووفق أي نصوص: شرعية أم مدنية؟ وهل يحل للأمن والشرطة التحقيق في هذه الأمر أم اللجوء إلى “ذوي العلم منكم”.. إلى آخر ديباجات مثل هكذا فتاوي. وبينما كان تفكيري منشغل بالخبر، رنّ تليفوني فإذا به صديق زائر لم أره منذ سنوات، اتفقنا على لقاء قريب، ولكنه قال لي قبل أن ينهي المكالمة: - أرأيت ماذا حدث في العالم العربي؟ فقلت له بشكل عفوي: - كأن الجن استيقظوا أخيراً، وقرروا التدخل.. - الجن..!! قال مصدوماً، وأغلق الهاتف. أنا كذلك تركت خبر “السعودي”، وواصلت “التصفية” حتى عثرت على مقال نشرته مجلة “لوفيجارو” الفرنسية في أحد أعدادها الصادرة في نوفمبر 2001 عن قناة “الجزيرة”. وفي المقال يتساءل الكاتب عن سر نجاح هذه القناة، فهل هي “القناة الناطقة باسم الارهابيين؟ أم أنها قناة البث الحرة التي طالما انتظرها العالم العربي؟”. وفي سياق هذه التساؤلات روى المقال هذه الحكاية: “.. لدى زيارته لدولة قطر في التاسع عشر من ديسمبر (كانون الأول) العام 1999، نزل الرئيس المصري حسني مبارك ضيفاً على الأمير حمد بن خليفة آل خليفة، فدعاه سموه للقيام بجولة في مبنى قناة الجزيرة تلك المحطة التي شغلت العالم منذ لحظة انطلاقها. بعد دقائق كان الرئيس مبارك والأمير حمد في قاعة التحرير حيث توجد عشر شاشات تنقل صوراً من مختلف أنحاء العالم، يتحدث عنها العرب في كل بقاع الأرض، آنذاك وصف الرئيس مبارك القاعة بأنها تشبه “علبة الكبريت”. الـ”لوفيجارو” أوردت هذه الحكاية من أجل ذلك التشبيه قارئة بعض أبعاده الرمزية. فما وصفه مبارك بعلبة الكبريت “استطاعت منذ افتتاحها العام 1996 أن تقدم برامج ومعلومات في قالب جديد على كل محطات الشرق الأوسط. وفي قاعات فائقة التطور يعمل موظفون وصحافيون لا يعيرون اهتماماً للأمزجة المختلفة حولهم لدرجة أن بعضهم مُنع من الإقامة في موطنه الأصلي”. وفي قراءة المجلة الفرنسية لهذا البُعد لا تعرف هل هي تقدِّر في التشبيه كون “الجزيرة” (وبالتالي قطر) صغيرة إلا أن تأثيرها كبيراً كما علبة الكبريت، أم مجرد الانتظام كانتظام أعواد الكبريت في العلب هو ما رآه مبارك فحسب في غرفة التحرير تلك. ثم تواصل المجلة وتكتب: “ومبنى ـ الجزيرة ـ يتميز بشكله المستطيل والمسطح الذي يبعث رائحة الكبريت في أنوف البعض، ويُلهب أفكار البعض الآخر: من نواكشوط إلى الرياض، ومن تونس إلى طهران” (لاحظ هنا حضور تونس وغياب القاهرة). والمجلة هنا بلاشك تميل إلى دلالة التأثير في ذلك التشبيه، الذي لم يكن بإمكانها حقيقة، ولا بإمكان أحد تخيل أنه سيكون كبريتاً فعلياً يساهم مساهمة رئيسية في إحراق نظام مبارك القشي ويطيح به في السجون. فـ”الجزيرة” وقتها كانت - كما تكتب المجلة - بالنسبة لقطر “محطة صغيرة ثائرة ترمز للطموحات العصرية” أما بالنسبة لفرنسا، فـ”الجزيرة” توصف بأنها “قناة صغيرة صاعدة”. مَنْ اخترع “الجزيرة”؟ مَنْ فكَّر بها؟. ومن يجعلها قادرة على التجدد، تجدد المتابعة باستمرار منذ تغطيتها لمرحلة تحطيم تماثيل بوذا في باهميان، ولقائها الأول مع أسامة بن لادن، عدو “العالم” المحظور حتى الجُمع الأخيرة من عام 2011 حيث يرفع المتظاهرون المسحوقون في سوريا لافتات تحايا خاصة لهذه القناة وما يشبهها. “الجزيرة” كقناة دائماً تدّعي المهنية، ولكن خطابها التحريضي واضح، وتحريضها ذاك متعدد الميول، إلا أن ثم ميل سرعان ما يلتهم ادعاء الاحتفاظ بالحساسية نفسها والشفافية تجاه مختلف الميول، والعلاقة مع السلطة ما زالت من أكثر الأمور إثارة للأسئلة بشأن “الجزيرة”، فهل هي خاصة أم حكومية، والجزيرة العربية (بما في ذلك توقيت مكة الذي ابتدعته “الجزيرة”) ألا تبدو بعيدة جداً، وبأسئلتها الشائكة عن قناة “ثائرة ترمز للطموحات العصرية” كما يريدها القطريون، وحسب المجلة الفرنسية. من حق “الجزيرة” ادعاء المهنية، بل والسؤال: من الذي فكّر وأنجب هذه المهنية الإعلامية العالية في “الجزيرة”؟ مراسلون متواجدون في أغلب مناطق الأحداث في العالم، وكثيراً من الأوقات في أخطرها (أفغانستان، العراق، غزة، الصومال، وميادين ما سمي بـ “الربيع العربي”). فقبل “الجزيرة” لم يكن لأي من القنوات العربية هذه الشبكة الهائلة والمدربة من المراسلين. وحتى لو كان فإن على ذلك المراسل أن يفسر الخبر المصاغ سلفاً في المكتب الرئيسي، أما عند “الجزيرة” أو صار مع “الجزيرة”، الخبر يُصاغ بناء على شهادة المراسل (..واستطراداً المدون، وشاهد العيان). وفيما عدا الأخبار المحلية التي يصيغها عادة المدّاحون فإن جلّ ما كانت تذيعه القنوات العربية هو إعادة صياغة لم توفره لهم وكالات الأنباء العالمية. ومع “الجزيرة” صارت القناة التلفزيونية هي وكالة أنباء، أو لم يعد لوكالات الأنباء ذلك الدور الذي كانت تقوم به، خاصة وكالات الأنباء المحلية التي توفيت، أو هي على وشك. وغير المراسلين، فإن القناة تستضيف طيفاً واسعاً من أصحاب القرار والمعلقين والمثقفين، وبما أن هنالك غرفة تحرير جيدة، فإنه كان على المذيعين والمذيعات، الحديثيين كلياً على هذا النمط الإعلامي، التحلي بالجرأة لتحويل سؤال التحرير الجامد إلى سؤال حي، وإبقاء المقابلة في الحيز الذي تقدره غرفة التحرير، واعتبار ذلك مصدر من مصادر الخبر المهمة. إنتاج الخبر بشكل فوري جديد كلياً على التلفزيون العربي، وإذا ما كنت تريده دقيقاً نسبياً وذا مصداقية فإن ذلك لن يتأتى إلا بجهد ومعرفة، وممارسي تقنية من طراز خاص. من هنا صارت لمفردات تلفزيونية كـ “عاجل” مثلاً وقعاً فريداً ومؤثراً، عاجل ومباشر، فغير المادة الواسعة المصورة سلفاً والتي تزود بها القناة تلك الطائفة الكبيرة من المراسلين، هنالك مادة مباشرة. الصورة هي إعطاء مدى أوسع للصورة مقارنة بالكلام، الصورة الحية التي حدثت قبل قليل أو التي تحدث الآن هي ما يجعل لمشاهدة قناة ما مثل هذه الحيوية، هو ما يحبس الأنفاس، ما يشدها، يا إلهي، يا لهذا المصري العظيم الذي يقف الآن هناك، في ميدان التحرير كي يمنع تقدم دبابة، المباشرة في مثل هكذا صورة تحدث أكثر من التأثر، تُحدث النشيد: الشعب يريد.. الصورة الحية تجعل الصوت صوتاً حقيقياً تماماً كصوت نبضك تحت ذاك القفص. مثل هكذا مهنية توفرت ولحد كبير في قناة “الجزيرة” التي أنتجت ولأول مرة عربياً صفحة تلفزيونية. كانت الشاشة العربية مائعة، غير محددة فجاءت قناة كـ”الجزيرة” وحوّلتها إلى صفحة. أنت مع “الجزيرة” تقرأ التلفزيون: في الأسفل خط أخبار، تعلوه معلومات عن المادة المصورة المذاعة، “اللوجو” الذي غدا شهيراً في الأعلى، تحته: “مباشر” أو “إعادة”. قبل “الجزيرة” وإخوانها، هذا إذا كان لها أخوات، لم تكن هنالك ما أسميه هُنا بالصفحة التلفزيونية بتعددها: قد أرى على الصفحة صوراً منقولة من نواح مختلفة في العالم، وفي الآن نفسه، فيا ترى من سعى لمثل هذه المهنية العالية، من احتفظ بها وطوَّرها منذ 1996؟ ليس عندي جواب محدد على مثل هكذا أسئلة، ولكن ربما فعلتها الجن التي طاردها العمران الحديث في الدوحة فبقي مختبئاً في البيوت المهجورة، وعندما هدمت هذه البيوت لم ير أمامه إلا الظهور العلني، والتفكير بإنشاء مثل هكذا قناة. هنا رنَّ تليفوني من جديد، فخشيت من الرد، إذ لو كان صاحبي الذي اتصل بي قبل قليل، وقلت له آخر استنتاجاتي عن قناة “الجزيرة” فإنه سيجن، أو يعتبرني مجنوناً، ولن يتصل بي مرة أخرى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©