السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عطش الشعر.. الدائم

عطش الشعر.. الدائم
15 ديسمبر 2011 00:39
تكتب الشاعرة الإماراتية خلود المعلا قصيدتها بماء القلب وخفق الروح، وهي توسع بأجنحة الضوء فضاء النفس وحدود العالم مسكونة بعطش الكشف وأسئلة الذات والوجود والأشياء، وكأنها تواصل مغامرة الطفولة في اكتشاف ما وراء جغرافية الحواس وسجف الزمن هذه المرة، ما يجعل تلك العلاقة القائمة على التوحد المشبع بالمحبة تغمرها بفيض من النور وسلام الروح وهي تحاول في لعبة المرايا أن تخلق معادلا من الجمال لشعورها تعوض به على عدمية الحياة، لكنها تبقى تنوس بين حدّي البحث والمغامرة من جهة والشعور بالوحشة والفقد وانتظار الحب الذي لا يأتي. تضم المختارات الشعرية الصادرة حديثا لخلود المعلا بعناون “دون أن أرتوي” قصائد من أربعة أعمال شعرية هي “هنا ضيّعت الزمن” صدر عام 1997، وديوان “وحدك” 1999، وديوان “هاء الغائب” 2002، وديوان “ربما هنا” 2008، حيث يجري ترتيب تلك القصائد وفق الأحدث فالأقدم باعتبار أن قصائد ديوانها الأخير تمثل تجربتها الأنضج والأكثر تعبيرا عن التطور الذي بلغته تلك التجربة عبر عقد ونيف من الزمن، وهو ما نلحظه من خلال عدد القصائد الكبير الذي تختاره من هذا الديوان، في حين تكتفي باختيار عدد محدد من القصائد من بعض أعمالها الأخرى كديوان هاء الغائب. من العنوان إلى المتن ثمة علاقة جدلية تقوم بين العنوان والقصيدة سواء أكان عنوانا رئيسا أو عنوانا فرعيا للقصائد، وتتجلى تلك العلاقة على المستوى اللغوي بالاقتصاد الشديد والتكثيف في اللغة. إن تلك العناوين تتألف في الغالب من كلمة واحدة أو كلمتين، أما على المستوى النحوي فالعنوان يتألف من جملة اسمية أو شبه جملة، وفي أغلب الأحيان ينطوي في بنيته على الحذف الذي يولّد الغموض، بينما تتميز القصائد باقتصادها اللغوي الملحوظ، بل هي في قصائد الديوان الأخير تتألف من ثلاثة أو أربعة أسطر فقط، وتتميز ببنيتها المحكمة عبر ما يعرف بقصيدة الومضة أو الفكرة. وتستكمل الشاعرة تلك العلاقة الجدلية بين العنوان والنص على صعيد البنية الدلالية ذات البعد الإيحائي الذي يقوم عليه العنوان، إذ هو ينطوي غالبا على معنى الشك وعدم اليقين والتمني أوالنفي أو الوصف، فهو يشكل المحور الذي تدور حوله أو تستغرقه القصيدة، ويقوم على التكثيف واختزال مضمونها، ما يجعله يؤدي وظيفة التعيين والوصف والإيحاء والإغراء كما هو الحال في العنوان الذي اختارته لهذه المختارات والدال على حالة العطش التي تعاني منها الذات الشاعرة. ولعل الحذف الظاهر في بنية العنوان يجعل المعنى المقصود ملتبسا وغامضا، الأمر الذي يجعل وظيفته الدلالية مفتوحة على تأويلات المتلقي المختلفة وما يمكن أن يوحي به العنوان له من معاني ودلالات مختلفة. تهدي الشاعرة هذه المختارات إلى والدتها التي علمتها أبجدية الكلام التي كانت فاتحة دخولها إلى عالم الشعر والجمال ومكابداته وإشراقاته وشغفه. المكان ودلالاته تنبني الصورة الشعرية في المكان لتعبر عن حرة الشعور، وبالتالي العلاقة مع العالم والأشياء المحيطة أو الرؤية إليهما، ومما يلاحظ أولا أن الحركة في المكان تكون من المكان الضيق لاسيما المكان المتمثل بالبيوت والغرف باتجاه المكان الواسع والرحب الذي تنفتح عليه رؤية الشاعرة، حيث تستحوذ تلك العلاقة على حالة من الثراء والغنى، سواء على المستوى الشعوري للذات المتجسد بالإحساس بالحرية وبالتحرر التام، أو على مستوى اختراق حدود المعطى الحسي للأشياء واستجلاء أسرارها، ما يجعل تلك العلاقة مع المكان تنعكس على طرف المعادلة الوجودي لها عبر علاقتها بالزمن ومت تحمله من شعور باللذة التي تنتشي بها وهي تدخل في عمق كينونة الأشياء التي تحيط بها في هذا العالم: “هكذا حرّة تماما/ أنظر من نافذتي الضيقة/ فأرى الكون كاملا/ تتجلى أسراره الكبرى/ هكذا تماما/ ألوّن تفاصيلي الصغيرة بلون الثلج، أتصالح مع اللحظة التي تدخلني لذّة الأشياء”. يتكرر ظهور جدلية هذه العلاقة القائمة بين المكان الضيق والمكان المفتوح الواسع في عدد من قصائد الشاعرة حاملة معنى الانفتاح والتوحد وكأنها كناية عن الخروج من عالم الذات الضيق عبر نافذة حاسة الرؤية باتجاه العالم الخارجي بكل ما يحتشد به من صور ومظاهر وأسرار تروم أغوارها بصيرة الشاعرة لتبني علاقة من الحب والفرح ونشوة الإيغال في دفء أعماقها السحرية. وإذا كانت هذه العلاقة مع المكان تحمل في مضمونها ذلك الشعور بلذة الكشف والاندماج، فإن ثمة بعد درامي تقوم عليه تلك العلاقة أيضا بما تحمله من شعور آخر بالفقد والوحدة والوحشة وحصار الزمن ومحاولة الفاشلة بجناح واحد خارج حدود المكان: “استلقي وحيدة/ عطشى ينابيعي/ تمنيت لو أن وابلا من محبة ينهمر على أرضي/ ترى/ كم قصيدة ما زلت أنتظر؟/ أم أنني رفرفة خافتة/ لعصفور بجناح واحد”. الذات واللغة تكمن تلك الرغبة العارمة بالكشف واختراق حدود المكان في التعبير عن روح متمردة تعلن خروجها على المألوف والتسليم بما هو موروث، لأنها بذلك تحقق الولادة الجديدة للحياة، وتحرر ذاتها من الاستسلام والإذعان لشرطها المنجز الذي يصادر حريتها ورغبتها في التعرف إلى العالم والأشياء بحواسها ويقينها وشعورها الممتلئ بنعمة الحب والتوهج: “لن أتمدد على فراش اللاشيء/ لن أبقى عالقة بما يرثه الآخرون/ لن أبالي بأطباق يقدّمها الحظ/ لن أصدق طالعي أبدأ”. تقوم بنية النص على تكرار حرف النصب لن الذي يتضمن معنى النفي، حيث يهدف هذا الاستخدام للتكرار إلى تأكيد فكرة التمرد والثورة على معطى الواقع عند الشاعرة. ولعل الميزة التي تنفرد بها تلك النصوص في الغالب هي عنصر المفارقة التي تنطوي عليها نهاية القصيدة والمولدة للدهشة والتوتر من خلال ما يحمله العنوان في بنيته من معنى مفارق ومناقض لمسار الحالة التي يريد النص التعبيرعنها: “في ليلة أخرى/ لمع/ لم يكن نورا/ كان انطفاء محضا”. إن الحب عند الشاعرة هو فعل تحرير وانطلاق وليس فعل امتلاك وتقييد وشعور بالأنانية، ما يحرّره من قيوده التي طالما ارتبطت به، بحيث يصبح الحب مصدرا للتوهج والحرية والتضحية من أجل سعادة الآخر وفرحه: “ما زلت أحبه/ ولأنني كذلك/ أطلقت طيوره للفضاء/ واكتفيت بالفراغ الذي خلفته”. تتميز لغة نصوص الشاعرة بالبساطة والسلاسة والتكثيف الدال والموحي، لكن تلك الميزة تختلف بين نصوص أعمالها المختلفة، في حين تظل تجربتها تدور في حدود عالم الذات والأشياء الحميمة التي تحيط بتلك الذات. إن هذه الميزة التي ارتبطت بتجربة قصيدة النثر يبرز فيها طغيان الجانب الحسي لاسيما منه البصري دون أن يستغرقها كاملة نظرا لمحاولة الشاعرة تعميق أبعاد تلك التجربة عبر انفتاحها على جوانية النفس وعلى علاقتها بالأشياء والعالم، ومحاولة إدراك ما يختزنه من أسرار دون أن تغيب عنها مكابدة الروح التي تنوء تحت ثقل أوجاعها ولوعتها في وحشة شعورها بالوحدة المغلفة بالصمت والخوف: “كلما سقطت دمعة في الذاكرة/ توجع القلب/ توجسا/ مما سيسقط غدا”. تتباين مستويات اللغة بين قصائد أعمالها كما تتباين مناخاتها وصورها وانشغالاتها لكنها في جميعها ترسم مسارا صاعدا لتجربة تنحت لغتها المتوهجة برؤياها وصوغها لمعادلها الشعري مع سعي للتوغل في دفء انكشافه داخل ذاتها المتوحدة به، أو خارجها عبر علاقة استعارية تحيكها قصيدتها بحس مفعم بالحب والدهشة دون أن تشعر بالارتواء من البحث عن الحرية والجمال.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©