الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ريشة الشارع..

ريشة الشارع..
15 ديسمبر 2011 00:39
تُظهر التجارب الإبداعية العالمية عموما، في الآداب والفنون، ومنها التجارب العربية بالطبع، مستوى عمق العلاقة وتداخلها وتفاعلها بين الإبداع والثورة، بين الفن والتغيير. تجارب إبداعية بشّرت بالثورة والتغيير قبل وقوعهما، وتجارب تابعتهما ووثّقتهما في أعمال فنية خالدة، أعمال عكست مشاعر فنان ما وأحاسيسه ووعيه ورؤيته لما جرى، فتقدم الواقع في صور تتعدد بحسب تعدد وجهات النظر والرؤى المتعددة. وكما تتعدد الرؤى تتعدد الأساليب والتقنيات. في مصر وتونس وليبيا تابعنا، عبر الإعلام ووسائله، كيف واكب الفنانون ما جرى في هذه الدول الثلاث من ثورات ومتغيرات، وكانت الظاهرة الأبرز التي شاهدنا نماذج منها في بعض الفضائيات، هي ظاهرة الرسم على الجدران، فن الغرافيتي الذي شاهدنا نماذج منه على جدران القاهرة وتونس وطرابلس، هذا الفن الذي بقدر ما يأخذ من الثورة والشارع، فهو يتفاعل معها ومع جمهورها بصور مختلفة، وغالبا ما تكون السخرية السوداء الكاريكاتورية، أو التراجيدية القاسية في تصوير حوادث الثورة. مشهد الثورة معرض “حدوتة مصرية” الذي احتضنته غاليري “موجو” في دبي يلخص جوانب من المشهد، ثلاثة فنانين مصريين يرسمون المشهد بوسائل وأساليب مختلفة في جانب، وتلتقي في جوانب أخرى. الفنانون محمد عبلة وهاني راشد وجرجس لطفي يقدمون هذه “الحدوتة” في هذا المعرض المتميز. فمنذ اللحظة الأولى لدخول المعرض، وجدنا أنفسنا محاطين بمشهد الثورة ومظاهرها المتنوعة. معرض يجسد انفعال الفنانين وإحساسهم ورؤيتهم الخاصة التي عايشوها بالميدان، وسجلوها بريشتهم كلمحة عامة لهذه الثورة الفريدة، وهي تجسد جمهور الثورة وحشودها. أعمال فنية تعرض لحظات من حياة المصريين التي عاشوها في هذه الثورة من خلال منظور لكل شيء في ميدان التحرير الذي اعتبره البعض كنزا للعمل الفني، حيث أن الصور تُظهر الماجريات من خلال الازدحام والعبارات المكتوبة في كل مكان بلا نهاية والإحساس القوي بالتمرد، ومزج كل هذه العناصر معا من منظور خاص، يهدف إلى نشر أحداث الثورة في كل العالم من خلال العمل الفني، وكل قطعة من هذه القطع الفنية تعكس إحدى اللحظات العظيمة التي عاشها المصريون لتكون اللوحة وسيلة لإحياء ذكرى وقت بارز في تاريخ المصريين، لكن القليل منها يذهب ليعكس ما يجري في العالم تحت مسمى “الحرب على الإرهاب”. الصورة الفوتوغرافية الفنان محمد عبلة المولود في العام 1953 هو، كما يبدو من أعماله في هذا المعرض، صاحب التجربة الفنية الأكثر مباشرة في التعبير، تعبيرا فنيا، عما جرى ويجري في الشارع المصري، في القاهرة، أثناء فترة التغيير وقبلها، باستخدام أدوات وتقنيات تعكس ما جرى في ميدان التحرير تحديدا، وما سبق للفنان أن قدمه في انطباعاته وتفاعله مع أضواء هذه المدينة، حيث يتجاوز الفنان التوثيقية التسجيلية المباشرة إلى التقاط النور المنطلق ليلا من مدينة مغرية للإبداع، فقد نجح في نقل مشاعره بتمكن وسلاسة. هي أعمال تصويرية لفنان لديه وعي كبير بفكره وإيمان عال بموهبته مع شجاعة أدائية تستحق التقدير. إنه يشتغل على الصورة الفوتوغرافية بأسلوب مختلف من خلال المواد التي يستخدمها، والموضوع الرئيس للعمل الفني هو “الإنسان” الذي يملأ المشهد وغالبية مساحة العمل. وإضافة إلى الحشود البشرية، تحضر في المشهد معالم المكان بعيدا عن الميدان: كوبري قصرالنيل، مبنى اتحاد الإذاعة والتليفزيون، الفنادق الشهيرة، مباني ميادين طلعت حرب ومصطفى كامل ومدخل شارع عماد الدين كلها تبدو في اللوحات غائمة طافية على سطح تأثيرات الضوء، فيما تنطق كتل الألوان الممثلة لأعمدة الإنارة والمصابيح بوضوح في مقدمة اللوحة وقلبها، ويبدو كل شيء أخر في الخلفية. وأعمال الفنان تبرز معايشة الفنان لبيئته وجمهوره، معايشة تجعله أكثر ارتباطاً بهم حين يبدع، فهو يبحث في أعماله الفنية عن طريقة للتواصل مع الجمهور الأوسع، لا أن يتقوقع في دائرة النقاد والمختصين بالفن التشكيلي. الوجوه والحي الشعبي أعمال جرجس لطفي، المولود في الاسكندرية عام 1955، تنطوي على تشابه مع عمل محمد عبلة من حيث الاعتماد على الجموع، لكنه يختلف عنه في تصوير الجموع، وفي ميل واضح إلى السخرية، ومحاولة الابتعاد في اتجاه المجاميع “الاجتماعية” لا السياسية، كما هو الحال في أحد أعماله بعنوان “البحر” الذي يقدم مشاهد لمسبح يجمع حشدا مختلطا بأوصاف مختلفة، رجالا وأطفالا ونساء، لكنه يقدم وجوها في حالات تعبيرية متميزة، حيث تختلف المشاعر التي يعبر عنها كل وجه، ولكنها في الغالب وجوه بعيون تحمل مقدارا من الدهشة أو الخوف أو الانتظار. فالوجوه والعيون هي أكثر ما يملأ اللوحة المشغولة بمواد مختلفة على الخشب، وتحمل عناوين تشير إلى عالم مألوف، عالم الشارع الذي نعرفه، سواء كان مجتمعا، أو في صورة “جيران” كما في إحدى اللوحات التي تحمل هذا العنوان، حيث يطل الجيران من نوافذهم المتقاربة، نوافذ تشبه الأطر أو شاشات التلفزة، لكنها تمثل الحارة المصرية البسيطة والفقيرة، وخصوصا النسوة في صورهن المألوفة، والأطفال الحفاة العراة، وسواها من مشاهد البؤس، لكن ذلك لا يمنع حضور مشهد العرس كما نراه في العالم الشعبي وبما ينطوي عليه من مفردات التقليد المصري بتفاصيل دقيقة تعطي انطباعا بالتصوير الفوتوغرافي الذي يستخدمه الفنان في بعض أعماله. فهو إذن يستحضر الثورة من دون مباشرة كما هي الحال مع الفنان محمد عبلة، بل من خلال مسبباتها أساسا، والواقع الاجتماعي الذي أنتجها. أزياء وإرهاب تجربة الفنان هاني راشد، وهو أصغر الفنانين الثلاثة (ولد في القاهرة 1975) تنحو نحوا مختلفا، وذلك كما نراه متمثلا في ستة أعمال يشارك بها في هذا المعرض، إنها تتجه نحو منطقة تمزج السخرية بالواقعية والاستعراض، في أعمال يستخدم فيها مواد مختلطة على الكانفاس، بأحجام كبيرة غالبا، ليقدم الفنان مشاهد بعناوين واضحة. ففي لوحتين تحملان عنوان “أزياء” ثمة استعراض لتجارب من عروض الأزياء والصورة التي تظهر بها العارضات، بأجسادهن الفارهة ولكن بلا ملامح، تعبيرا عن غياب هوية هؤلاء العارضات، وتداخل الوجوه في هذه التجربة. وهنا نجد ألوانا زاهية دافئة وحميمة، وتكوينات أفرب إلى الرسومات الكرتونية. وفي أعمال أخرى، وفي اتجاه آخر مختلف كليا نتوقف مع عمل بعنوان “بن لادن”، الذي يصور رجلا عسكريا ضخما يقف بين صورتين لوجه بن لادن، في محاولة للتعبير عن العلاقة مع العالم المسمى بـ”الإرهاب” المشار إليه في صورة بن لادن. وتختلط هنا في اللوحة الكتابة (عن الموسيقى) بالرسم شبه الكاريكاتوري لشخوص اللوحة، واستخدام للألوان الهادئة والخطوط الرفيعة وما يقارب العمل الطباعي. وكذلك الأمر في لوحة تحمل عنوان “العمل”، حيث يستخدم الفنان اللغتين العربية حيث يكتب (مش معقول) والإنجليزية فيكتب (أنا قادم)، وهنا أيضا تبدو الشخوص في حالة حراك في اتجاهات مختلفة. وفي عمل أخير يقدم الفنان صورة شخصين، وربما شخص ينقسم إلى قسمين، يتحركان على مفترق طرق غير آمن، وبصورة كاريكاتورية أيضا، ولغة وكلمات ساخرة (احترس من القهوة، الشاي، الشطة). وهكذا فنحن أما عالم ومشهد متنوع الزوايا، ما بين المباشر والرمزي والتعبيري والساخر، بين من يصور فوتوغرافيا مع شيء من اللعب بالصورة، ومن يرسم قريبا من العمل الفوتوغرافي الذي يلتقط مفردات محددة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©