الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القتل .. عشقاً

القتل .. عشقاً
15 ديسمبر 2011 20:29
(القاهرة) - قضت المحكمة حضوريا بمعاقبة المتهم «رمضان» بالسجن المؤبد خمس وعشرين سنة، لاتهامه بقتل «هبة» عمدا مع سبق الإصرار والترصد، بعد أن اشترى سلاحا آليا وأعد لها كمينا في الصباح الباكر أثناء توجهها إلى عملها، وأطلق عليها الرصاص فأرداها قتيلة في الحال، سقطت جثة هامدة في موقف الباصات بين المنتظرين الذين أذهلهم الموقف، وهي غارقة في دمائها، وتفرق جمعهم من هول ما ترى عيونهم، إلا القليل منهم اقتربوا منها وهم يرتعدون خوفاً وكانوا يأملون أن ينقذوها، إلا أنهم فوجئوا بأنها فارقت الحياة ولفظت آخر أنفاسها. سمع «رمضان» الحكم وهو داخل قفص الاتهام وراء القضبان، فجلس في مكانه على الأرض، وقد حاول أن يقاوم الدموع التي تدفقت رغم أنفه وغلبت تماسكه، إلا أنه أخفاها حتى لا يراها أحد من الحضور ولا أقاربه ولا أسرة القتيلة، وبعد لحظات قليلة زاغ فيها بصره ودس رأسه بين كفيه وركبتيه، مستغرقاً في تفكير مشوش غير محدد، فهو مقبل على قضبان السجن وقيود الحبس خلال كل هذه السنوات التي قضت بها المحكمة عليه، ولم يكن نادماً على الاعترافات التفصيلية التي كانت من أسباب هذا الحكم المشدد، فاجأه الشرطي وهو يسحبه من يديه ليقوم بترحيله إلى محبسه الطويل الذي لا يرى له آخر ولا نهاية، فالسنوات طويلة، وإن كتب له البقاء وعاشها فسوف يخرج بعدها وقد شاب شعره ووهنت قواه، لكن كل هذا لا يهم بعد أن فقد ماهو أهم من ذلك. بعد أقل من ساعة في سيارة الترحيلات وصل إلى السجن، تم تسليمه الأغراض الخاصة من ملابس زرقاء ومفروشات وأغطية، ثم دخل زنزانته الخاصة وألقى بهذه الأشياء على الأرض وألقى بجسده عليها دون أن يقوم بترتيبها، ثم أخرج حافظة نقوده وفيها صورة القتيلة التي ما زال يحتفظ بها حتى الآن بعد مرور أشهر عدة من وقوع الجريمة التي اقترفتها يداه، طبع قبلات عدة على الصورة، لكنه ترك لدموعه هذه المرة العنان، فسالت بغزارة، وبكى بحرقة ونحيب، هنا هو وحيد لا يسمعه أحد، ولا يعرف أي مخلوق على ظهر الأرض ما يشعر به ولا حتى إن كانت الأسباب معروفة، إلا أن الإحساس يخصه وحده. تذكر «رمضان» ما حدث من البداية، عندما تعرف إليها في هذا المكان الذي شهد لقاءهما الأول وأيضاً الأخير والوداع الدامي، عندما رآها، هام بها حباً، فهي زهرة متفتحة في الثانية والعشرين من عمرها، جميلة بطبيعتها بلا أي مساحيق أو مستحضرات تجميل، يتوج ذلك أخلاق والتزام، لم يقاوم نفسه بعد أن اهتز قلبه وارتجف بشدة، وتكرر اللقاء في المكان نفسه، لكن صبره الذي لم يدم طويلاً قد نفد، إلا أنه لا يعرف كيف يبدأ الخطوة الأولى نحوها، لكن لا يريد أن يخسر المزيد من الوقت، وقرر المجازفة واقترب منها يلقي عليها التحية ويدخل في الموضوع مباشرة حتى لا تسيء فهمه، والفتاة بمشاعرها البكر وبكل حياء الأنثى أجابته بكلمات معدودة، أولاً أنها لا تعرفه وثانياً عليه أن يأتي البيوت من أبوابها. بسرعة قدم لها نفسه على أنه عامل بسيط يكبرها بعامين، لكنه مستعد لأن يقدم لها حياته كلها من دون تردد، تم الاتفاق على أن يكون اللقاء في بيت أبيها والاتفاق معه على أي تفاصيل قبل أي كلام بينهما، لأنها تحرص على سمعتها ولن تقبل أي علاقة إلا بالطرق المعلنة للجميع، ما جعله يهيم بها حباً بشكل أكبر، ويهرول إلى بيت أسرتها بأسرع ما يمكن، رغم أنه لا يملك أي مقومات للزواج، لكنه قوبل بالترحاب والموافقة، فيكفي أنه شاب طموح وعلى خلق وسيحافظ على ابنتهم ويحترمها، فلم يصدق أنه وضع قدمه على أول طريق السعادة، واصطحب أسرته إلى بيت عروسه لتتم الخطبة والتعارف بين الأسرتين. بدأت «هبة» ومن خلال عملها في مصنع بالقطاع الخاص تدخر من راتبها المعقول للمساهمة في بناء وتأثيث عش الزوجية، تدعمها أمها بالتوجيه والتدبير وشراء بعض المستلزمات كلما توفر لديها مبلغ معقول، ومع مرور الأشهر وأيضاً السنين، اقتربت من الانتهاء من شراء كل احتياجاتها، فقد مرت ثلاث سنوات منذ يوم الخطبة، إلا أنه هو من جانبه ما زال في موقعه نفسه لم يتقدم خطوة واحدة نحو التنفيذ والالتزامات الملقاة على عاتقه، خاصة الشقة التي هي الأساس وأكبر مشكلة وعقبة أمام أي اثنين مقبلين على الزواج، وفترة الخطبة طالت وزادت على حدها. اضطرت الأم إلى أن تفتح معه الموضوع، لأن ابنتها لن تقيم في بيت من الخيال ولن تتناول طعامها من الحب والغرام ولن تجد احتياجاتها في العشق والهيام، وكأن كلامها كان صدمة له، إلا انه واقعي ولا يستطيع أن يرد عليه، واعترف بصحته وأيضاً قلة حيلته في عدم التقدم خطوة طوال هذه السنين، ووعدها بأن يبدأ بالفعل خطوات جادة، لكنها لم تتركه هكذا وقيدته بمهلة ثلاثة أشهر لا أكثر حتى يتم الزواج، وإلا فليمض كل منهما إلى طريق وينتهي الأمر بالمعروف. وجد «رمضان» نفسه في أزمة غير مسبوقة وغير هينة تكاد تعصف بكل أحلامه وتضيع محبوبته من بين يديه، وهو على استعداد لأن يفقد أي شيء في الدنيا حتى حياته ولا يفقدها، وأصر على ألا يحدث ذلك وسيبذل قصارى جهده لكي لا يصل إلى الضياع، لكن الأيام تمر بسرعة وتتلاحق ولم يستطع أن يفعل ما تعهد به، انتهت المهلة، واستدعته أم خطيبته التي لم تصبح حماته رسمياً بعد، لكن هذه المرة لم يكن هناك تهاون أو أي نوع من التفاوض أو حتى تمديد المهلة السابقة، وإنما فقط لتبلغه بالقرار النهائي وتلقي في وجهه بالقنبلة التي فجرت كيانه ومزقت قلبه، وهو فسخ الخطبة وإنهاء ما بينهم. خرج «رمضان» وقد ضاع من قدمه الطريق وتشوشت أفكاره وتوقف عقله، ولم يجد إلا أن يتصل هاتفياً بخطيبته التي يعرف أنها تبادله المشاعر ولن تفرط فيه بسهولة، لعلهما يهتديان إلى مخرج من هذا الضيق، لكن تفكيرهما لم يصل إلى حل غير الموت حباً وحالاً معاً لأنهما غير قادرين على العيش بعيداً عن بعضهما، وقد يكون الموت أفضل من الحياة، خاصة أنهما سيكونان معاً ويرحلان معاً، وبلا تردد قام بشراء سم الفئران ووضعاه في كوبي عصير وتناولاه، أصيبا بتسمم لكن تم نقلهما إلى المستشفى وعلاجهما. أمام هذا الإصرار على الارتباط، وافقت الأسرة على منحه فرصة أخرى لكن ليست طويلة، لمدة شهرين فقط، لكن كانت مثل المهلة السابقة انتهت من غير أي إنجاز يذكر، فكان القرار النهائي الذي لا رجعة فيه، وبلا إنذار آخر جاءت النهاية المؤلمة التي جعلت «رمضان» يفقد عقله ويصيبه الجنون، ولم يكن أمامه إلا هدف واحد، ألا تكون هبة لغيره مهما كانت الظروف والتضحيات وحتى الوسائل التي تبررها الغاية والهدف، وهو الآن عاجز عن تدبير نفقات الزواج، وقد تتم خطبتها لغيره ويخسر الفرصة الأخيرة. في الصباح توجه «رمضان» إلى السوق وقام ببيع الدراجة النارية التي يعتمد عليها في تنقلاته وعمله، واشترى بثمنها مسدساً، وجلس على المقهى ينفث دخان سجائره، ويفكر كيف سينفذ ما عقد العزم عليه، إنه سيقتلها كي لا تكون لغيره وبذلك ينتهي الأمر، فموتها من وجهة نظره أهون عليه من أن تكون لرجل آخر، ولن يستطيع أن يتحمل ذلك ولا حتى يسمعه، وفي المساء أغلق على نفسه باب حجرته وهو يستمع لأغاني الهجر والفراق والوداع، لم ينم وهو يفكر في الصباح الجديد، إلى أن انتهى المؤذن من أذان الفجر، فوضع مسدسه في خصره، وتوجه إلى مكان لقائهما الأول، الذي تستقل منه الباص إلى عملها في السادسة صباحاً، انتظر وهو يترقب حضورها، ولم يفكر أبداً في التراجع، فلديه قناعة تامة بما هو مقدم عليه وأنه الحل الأمثل من وجهة نظره الشيطانية القاصرة التي منح فيها عقله إجازة، بل ألغاه تماماً وتعامل مع الموقف بالعواطف المجردة. جاءت «هبة» كعادتها في موعدها قبل أن تشرق الشمس، فهي لا يمكن أن تتأخر بلا عذر مهما كانت الظروف، وقفت تقريباً في المكان اليومي، لم تمر سوى دقيقة حتى صوب «رمضان» مسدسه إلى صدرها وأطلق رصاصة واحدة إلى قلبها، كانت كافية لأن تودي بحياتها في الحال، هنا انتفض «رمضان» من رقدته وكأن الرصاصة أصابته هو الآن في قلبه، لدرجة أنه أمسك صدره بيده وصرخ بصوت مكتوم، حاول كثيراً أن يهرب من تذكر هذه اللحظة الأكثر قسوة في حياته على الإطلاق، لكنها تلازمه في نومه وفي يقظته، ومن يومها لم يهنأ بنومه ولم يهدأ له ليل. وفي اعترافاته لم ينكر ولم يحاول المراوغة ولم يبد الندم، إنما طالب بإعدامه حتى يلحق بمحبوبته، فإن كان استراح واطمأن إلى أنها لن تكون لغيره، إلا أنه افتقدها إلى الأبد ويريد أن يكون معها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©