السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السينما.. شعر خارج القصيدة

السينما.. شعر خارج القصيدة
24 مارس 2016 13:17
1 يعتقد الكثيرون أن الطاقة الشعرية موجودة حصرياً في القصيدة فقط، رغم أننا نجد المئات من القصائد التي تفتقر إلى الشعرية. في حين أننا نكتشف طاقة شعرية هائلة في نصوص نثرية وأعمال تشكيلية وموسيقية وسينمائية. ألم يعلن نرفال ذات يوم «أن الشعر يهرب من القصيدة، ويستطيع أن يوجد بدونها». في الواقع، الشعر لا يكمن في أي شكل محدّد سلفاً، ليس له مفهوم واحد أو لغة واحدة، وليس قالباً لأي شيء موجود. الشعر، في جوهره، يفلت من أي قياس ومعيار. إذا كانت القصيدة هوية شكلية، أي مجرد شكل محدد ينهض على عناصر الشعر، فإن تحديد جوهر الشعر، ماهيته وشكله، هو أمر صعب، إن لم يكن مستحيلاً. الشعر ليس له وجود ثابت ومستقل وقائم بذاته، ليس مجموعة من القوانين والقواعد والمقاييس والقيم والأشكال والأنظمة، وهو غير محدّد وغير مرتبط بشكل ما، إنه يوجد في كل مكان، أشبه بأفق مفتوح. لقد اتسع مفهوم الشعر وأصبح كل شيء مادةً للشعر. الشعر يتجلى في كل مظهر، في كل شكل، في التعبير كما في الرؤية، والروح الشعرية توجد في كل الأشكال الفنية. الشعر رؤية شاملة للحياة والوجود، موقف من العالم والوضع البشري، تعبير عن التجربة الحياتية والروحية، طريقة خاصة في المعرفة وفي الاتصال بالواقع. الشعر يمدّد تخومه وراء حدود الاتصال اللفظي ليشمل أشكالا وطرائق من التعبير الفني. بالنسبة للسينما، هي تملك سلطة داخلية تتركّز داخل الصورة وتعبر إلى الجمهور في شكل مشاعر، محدثةً توتراً في استجابة مباشرة إلى المنطق السردي للمؤلف. وهو المنهج الذي بواسطته يرغم الفنان الجمهور على أن يبني من الأجزاء المنفصلة وحدة كاملة. في حديثه عن مفهوم «السينما الشعرية» يشير تاركوفسكي إلى أن هذا التعبير أصبح مألوفاً وشائعاً، وهو يعني السينما التي تبتعد بجسارة، في صورها، عما هو واقعي ومادي ومتماسك، كما يتجلى في الحياة الواقعية، وفي الوقت نفسه تؤكد السينما وحدتها التركيبية الخاصة في رصدها للحياة على نحو خالص وصاف ودقيق. 2 في مقالته «الروح الجديدة للشعر»، تنبأ الشاعر أبولينير بأن مملكة شاعر المستقبل ستكون في السينما، حيث إن الشاشة (وأي فضاء مرئي) سوف تحل محل الصفحة البيضاء، وتصير ساحة لقاء أكثر ملاءمة للمشهد الداخلي والمنظر الطبيعي، للفعل الفيزيائي والطاقة النفسية، لتداعيات الواقع، وتكون ناقلاً - أكثر مصداقية - للزمن والمكان. في عام 1916 عبّر أبولينير عن آرائه في السينما، وقال: «اليوم هناك فن بوسعه أن يلد نوعاً من الوجدان الملحمي من خلال عشق الشعراء للغنائية، وعبر الحقيقة الدرامية للأوضاع والحالات.. ذلك هو فن السينما. الشاعر الملحمي سوف يعبّر عن نفسه بوساطة السينما». هكذا، بدأ الشعراء والرسامون في الالتفات إلى السينما، كطريقة في التعبير ذات فتنة بصرية بارزة، تشجع على انبثاق تداعيات لا يتعيّن عليها أن تكون عقلانية أو منطقية. إن اهتمام السورياليين بالسينما كان مبكراً، ففي عام 1917 كتب الشاعر لوي أراغون عن الديكور السينمائي مدركاً لقوة الكاميرا السينمائية وقدرتها على الذهاب إلى قلب الأشياء، لإضفاء قيمة وسموّاً على الأشياء العامة الشائعة التي تصورها. للسينما - كما يعبّر أنتونان أرتو - جانب غامض وغير متوقّع لم يوجد في أي شكل فني آخر. حتى الصورة الأكثر جفافاً وابتذالاً وعاديةً تتغير حين عرضها على الشاشة. أتفه التفاصيل، وأكثر الأشياء ضآلة، تنتحل معنى وحياةً تخصها وحدها، مستقلةً عن مدلول الصور نفسها، والفكرة التي تترجمها، والرمز الذي تشكله. ولكونها معزولة، فإن الأشياء تكتسب حياة بذاتها والتي تصبح مستقلة أكثر فأكثر بحيث تحرّر الأشياء من معناها المألوف.. جوهرياً، السينما تكشف حياة مستترة وسحرية كاملة، وتجعلنا نتصل بها على نحو مباشر. لذلك طالب أراغون بضرورة أن يكون صانع الفيلم شاعراً: «إذا كانت السينما اليوم لا تكشف عن حقيقة كينونتها، أو ما ينبغي أن تكونه، بوصفها استحضاراً قوياً؛ فذلك لأن الفيلم لا يدرك خاصياته الفلسفية رغم أنه أحياناً يمتلك وعياً حاداً بجماله. كنت أتمنى أن يكون صانع الفيلم شاعراً أو فيلسوفاً». هذه الأمنية تحققت بعد سنوات قليلة مع توافد الشعراء إلى الوسط السينمائي، ليعبّروا من خلالها، وبواسطة لغة بصرية طرية، عن رؤاهم الجديدة. هم لم يكتفوا بعشق السينما، بل كتبوا عن الأفلام، وكتبوا السيناريوهات، وبعضهم أخرج أفلاماً. السينما، بإمكانياتها الجلية والكامنة، بما تحققه من تجاورات بصرية فجائية غير متوقعة، وتداعيات حرّة، بما تمتلكه من قدرة على تنظيم الصور المادية الملموسة في نظام غريب على نظام الواقع المكاني، هذه السينما تتجاوز مسألة محاكاة الحياة لتخلق عوالم جديدة تتصل بالواقع لكنها تظل مرتبطة بمملكة الخيال حيث للعجيب والمدهش سيادة عليا. إن خاصيات السينما التي جذبت الشعراء وأثارت اهتمامهم، نجدها في قدرة السينما على تحرير الخيال من القيود المبتذلة التي كانت تكبّله، قدرتها على تحرير الفرد من عادية ورتابة مشاهد الحياة اليومية، قدرتها على إثارة وتعزيز الإحساس باللغز والغموض والتشويق، قدرتها على المضي وراء الحدود المألوفة للوجود الإنساني، بلوغ الشخصيات السينمائية مرتبة الكائنات الخارقة والعجيبة. إن شِعْر السينما ينبع من القدرة، التي لا يملكها وسط آخر بالدرجة نفسها، على إتمام وتوسيع الواقع المادي الملموس.. هذا الواقع الخاضع لإعادة التقييم باستمرار، الذي لا يظهر في ذلك الشكل من التماسك والمتانة والتناغم الذي يعتقده المرء أو بالصورة التي يتمناها المرء، بل يبدو مفككاً أو متشظياً. كما في الشعر اللفظي، نجد أن تأثير الشعر البصري ينجم عن التعارض أو التضارب بين عناصر منتزَعة من بيئتها أو محيطها الطبيعي، ومقدمة في علاقة غير مألوفة مع عناصر أخرى هي بدورها مزاحة ومرحّلة من محيطها، ومن خلال هذه العلاقة تحلّ لغة اتصال جديدة محل تلك اللغة البالية، المبتذلة، التي لا يعود المرء يحتاج إليها في اتصاله بالعالم. إن شعرية السينما تكمن في الانطلاق من الواقع نحو ما لا يمكن توقعه أو التنبؤ به، نحو المجهول، بل وحتى نحو ما لا يمكن معرفته. تكمن في الرغبة في خلق عالم ينشأ من تحوّلٍ متخيّلٍ لعناصر يوفرها واقع موضوعي، في السعي لفتح الواقع على اللاواقع. الشعراء الذين كرّسوا أنفسهم لتشييد ومدّ الجسور نحو عالم كامن وراء حدود الواقع اليومي، ركّزوا آمالهم بشأن السينما على الإيمان بأن الفيلم قادر شعرياً على تجسير المسافة التي تفصل التأمل عن الواقع، الرغبة عن التحقق. أرادوا صوراً سينمائية حرة، لا تعتمد على الحبكة المسرحية، وتكون محفّزة للمخيلة.. صوراً تتجنب الادعاء الجمالي، ولا تمتثل لمبادئ الواقع. عندما حقق الأسباني لوي بونويل فيلمه الأول «كلب أندلسي»، مع سلفادور دالي، صرّح بأن فيلمه يتلقى إلهامه ويستقي إيحاءاته من الشعر، متحرراً من المنطق والأخلاقية التقليدية. هدفه أن يثير لدى المتفرج استجابات غريزية من الانجذاب والنفور. 3 الذين كانوا مفتونين بالمقوّمات الحصرية للوسط الجديد، شعروا بالإحباط إزاء المحاولات الدؤوبة، من قِبل صانعي الأفلام، لتسخير الأفلام لخدمة الأشكال السردية التقليدية في الرواية والمسرحية. إن كثافة الأحاسيس التي خلقتها الأفلام هي التي أدت إلى تعصب الشعراء لفن الفيلم. لقد اهتموا بتطوّر الفيلم ليس كأداة نقل لفنون أخرى بل كوسط مستقل بحكم حقه الشخصي. مع هيمنة الأفلام ذات المنحى التقليدي، بدأت الشكوك تثار بشأن قابلية الفيلم للحياة وللنمو كوسط شعري حقيقي. إن تيسّر الوسيلة التقنية، من أجل تحويل الأفلام إلى مسرحيات مصورة سينمائياً، سوف يفضي إلى إخضاع السينما أو تبعيتها لطموحات خاصة بتقاليد الدراما، وسوف يفضي أيضاً إلى التضحية بالسينما في سبيل تحقيق أهداف كتّاب ومخرجي المسرح، وتحقيق المكاسب المادية لتجار السينما، ومن ثم تعريض الحرية المدهشة التي تمتعت بها السينما، حتى ذلك الوقت، لخطر الزوال. لقد لاحظ الشعراء تقصير السينما أو عجزها عن منحهم ما كانوا يتوقعونه منها، ورأوا غالبية الأفلام تحابي العالم المنظور وتحتكم إلى الجانب التجاري الاستهلاكي. وقد عبّر الشاعر بنجامان بيريه عن خيبة الأمل في السينما، قائلاً: «أبداً لم يسبق لأي وسيلة تعبير أن أشارت إلى الكثير من الأمل مثلما فعلت السينما. من خلالها، ليس فقط كل شيء ممكن، لكن العجيب نفسه يكون قريباً جداً وفي متناول اليد. مع ذلك، لم يحدث قط أن شهدنا مثل هذا التفاوت وعدم التجانس بين الممكن والمنجز، بين الاحتمالات الهائلة للوسط والنتائج الباعثة على السخرية». أندريه بروتون أيضا عبّر عن استيائه قائلاً: «إننا نعرف الآن أن الشعر يجب أن يقودنا إلى مكان ما.. هذا ما قلته ذات مرّة.. السينما كان لديها كل ما تحتاج إليه لكي تشترك في تحقيق ذلك الهدف، لكن عندما نتأمل فعاليتها الخاضعة للمراقبة والتوجيه، ندرك أنها لم تتحرك خطوة واحدة في ذلك الاتجاه». أنتونان أرتو أيضاً وجّه نقداً قاسياً للسينما في قوله: «السينما الفجّة، المقبولة كما هي، تفرز القليل من هذا المناخ الشبيه بالغيبوبة، الواعد بمكتشفات معينة. لاستخدامها من أجل سرد قصة ما، يعني تجاهل إحدى أفضل ثرواتها، والإخفاق في تحقيق غايتها الأكثر عمقاً». 4 عندما نبحث الآن، وسط الكم الهائل من الأفلام المنتجة عبر قرن من تاريخ السينما، عن شعراء السينما، أولئك الذين يبتعدون عن السينما السردية، ذات الطابع التقليدي، ليقتربوا أكثر من السينما الخالصة المشبّعة بالروح الشعرية، التي تلهب مخيلة المتفرج وتفتح أمامه نافذة يطل منها على المدهش، نجد أن العدد قليل، والأسماء محدودة، قياساً إلى الموجات الكاسحة من أفلام تقليدية تجتاح أعيننا كل يوم. في حديثه عن شعرية السينما أو العلاقة بين السينما والشعر، قال بونويل (في العام 1953): «المؤلفون والمخرجون والمنتجون يبذلون جهداً عظيماً من أجل عدم تعكير صفو أمننا وطمأنينتنا، مصرين على أن تظل نافذة الشاشة المدهشة مغلقةً بإحكام في وجه عالم الشعر المحرّر. إنهم يفضلون جعل الشاشة تعكس موضوعات تشكّل استمراراً طبيعياً لحياتنا اليومية، وأن يكرروا، آلاف المرات، الدراما المبتذلة نفسها، وجعلنا ننسى الساعات المشحونة بالوجع والضجر في عملنا اليومي. لكن في كل الأفلام، الجيدة أو السيئة، وعلى الرغم من نوايا صانعي الفيلم، تكمن روح شعرية تناضل من أجل البروز إلى السطح والكشف عن نفسها». العائد أيها الأمل المستظل بأشرعة الذاكرة؟ ليس يُحزنني أن يكون جناحاك أطول من كُل أجنحة الرغبات المهيضة في صدري المتآكل. كن ماتريد فأنت الثمالة للعمر و أنا لا جناحين لي لأحلق مثلك في سدرة الوهم أو سدرة المنتهى لا. ليس لي غير أنت فمتى تتذكر شعر الطلول وتسألني عن لقاء جديدٍ لخولة قبل الهزيع الأخير؟ محمد العلي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©