الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الباحث عن الحقيقة

الباحث عن الحقيقة
31 ديسمبر 2015 00:39
حسونة المصباحي منذ ستينيّات القرن الماضي، تمكن التونسي هشام جعَيْط من خلال مؤلفاته المتعددة من أن يفرض نفسه في نفس المكانة المرموقة التي يحتلها مفكرون مغاربة كبار مثل عبد العروي، ومحمد عابد الجابري، ومحمد أركون. ورغم الصعوبات التي اعترضته عبر مختلف مراحل مسيرته، ظلّ محافظاً على استقلاليته الفكرية، متخذاً مواقف جريئة وشجاعة غالباً ما سببت له مضايقات ومشاكل مع النظام. ويتميز هشام جعَيْط بحس نقدي رفيع، وبمعرفة واسعة بالتاريخ العربي- الإسلامي، وبالتاريخ الأوروبي، وبالفلسفة الغربية منذ الإغريق وحتى العصر الحاضر. فالرجل معروف بقراءته المعمقة، وبحرصه الشديد على مواكبة كلّ ما يجدّ من جديد في المجالات الآنفة الذكر. وربما لهذا السبب، نأى بنفسه منذ البداية عن الهيجان السياسي والأيديولوجي الذي كان ولا يزال يعصف بالعلم العربي منذ الخمسينات من القرن الماضي، ليوجّه اهتماماته وجهوده إلى القضايا الحارقة والموجعة على جميع المستويات. كما أنه أعاد قراءة التاريخ العربي- الإسلامي مقدماً أفكاراً وأطروحات جديدة وفريدة من نوعها في هذا المجال. وينتمي هشام جعَيْط إلى عائلة من البورجوازية المحافظة. وكان والده من كبار شيوخ جامع الزيتونة، وفيه درّس الفقه وعلوم اللغة. يقول عن عائلته: «وسطي العائلي كان بالفعل وسطاً متديّناً ومحافظاً. لكنه كان أيضاً مكتسباً لثقافة عتيدة. فوالدي كان شيخاً في جامع الزيتونة. وجدي كان من كبار الكتّاب بحسب النمط القديم. وفي صباي، تعلمت الكثير من جدي الذي كان متصوفاً ينتمي إلى الطريقة «التيجانيّة» عارفاً بالشعر والأدب، ومولعاً بقراءة الحديث بصوت عالٍ عن ولَعٍ تقيٍّ وليس عن ولَعِ فضول». وقد اختار الشيخ الوالد أن يدخل ابنه وهو في الخامسة من عمره الى المدرسة العصرية المتمثلة في «المدرسة الصادقيّة» التي أنشأها المصلح الكبير خير الدين باشا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لرغبته في أن يتعلم ابنه الفرنسية مثلما كان حال أبناء البورجوازية في تلك الفترة. وحتى سن الثامنة عشرة، ظل الفتى هشام جعَيْط منسجما مع الوسط العائلي، مقتدياً بنواميسه وتقاليده. ومع اقترابه من سنّ العشرين، شرع الفتى هشام جعَيْط يظهر تمرداً على الوسط العائلي بتأثير قراءاته للكتب الفلسفية، والكتب التي تتحدث عن الثورة الفرنسية. وقد أحدث اكتشافه للفلسفة منعرجاً حاسماً في مسيرته. يقول: «كان اكتشاف الفلسفة بالنسبة لي بمثابة الفتح والتجلي. ولست أعني بذلك الميتافيزيقا فقط، بل وأيضاً علم النفس والمنطق والأخلاق. غير أن الفلسفة المثالية أدخلت الاضطراب في نفسي، إذ إنها تضع مسألة وجود الكون على محكّ التساؤل. وصار هذا التساؤل يلازمني طوال حياتي تقريباً. كما انفتحت على علم النفس الفرويدي. وعندئذ بدأت تذوب عندي بديهيّات أساسيّة. ثم اكتشفت علم البيولوجيا، ونظرية التطور. وهذا كله أثار إعجابي واندهاشي في نفس الوقت. وأعترف أن قراءاتي في مجال الفلسفة سببت لي أزمة قوية أنهكتني على مدى أشهر». بعد إحرازه شهادة البكالوريا، انطلق هشام جعَيْط إلى باريس ليلتحق بدار المعلمين العليا التي يدرس فيه ألمع الطلبة. وقد وجد في الأوساط المثقفة والأكاديمية هناك ما ساعده على تعميق قراءاته التي لم تقتصر على مؤلفات سارتر وكامو ونيتشه وهيدغر وشوبنهاور وهيغل، بل تعدت ذلك لتشمل التاريخ العربي- الإسلامي. وعن ذلك يقول: «في فترة الدراسة في فرنسا، اخترت في وقت ما الابتعاد عن الميتافيزيقا لأنها حيّرت ذهني لأنغمس في قراءات معمقة عن التاريخ العربي- الإسلامي. ويمكنني أن أقول: إن التاريخ لعب دوراً هاماً وأساسيّاً في تركيب قناعاتي وبلورتها. وربما لهذا السبب لا زلت مهووسا بمعجزة وجود العالم، ووجود الحياة». بعد حصوله على شهادة التبريز عام 1962، عاد جعَيْط الى تونس ليعمل أستاذاً في كلية الشريعة وأصول الدين. وعلى مدى خمسة أعوام، ظلّ مواظباً على القيام بهذا العمل معانياً ما سوف يسميه في ما بعد بـ «المنفى الداخلي». فقد بدت له تونس بلداً يعيش تخلفاً فكرياً وثقافياً مرعباً، لذا كان عليه أن يعيش متوحداً بنفسه منصرفاً إلى القراءة، وصارفاً اهتمامه في هذه المرة إلى أعمال المؤرخين الكبار من أمثال الطبري وابن خلدون وابن سعد. وتحت تأثير قراءاته، أصبح يولي اهتماماً كبيراً للخطاب السياسي والحضاري في تونس، وفي بلدان المشرق العربي، وفي ما يسمى بالعالم الثالث. كما اهتم بالفكر الديني وبالفكر القومي، وتأثر في أواخر الستينات من القرن الماضي بأفكار ميشال عفلق، وعبد الله العروي ومحمد اقبال الذي بدا له متقدما على الفلاسفة الفرنسيين في بعض أطروحاته، إذ إنه كان عارفاً بفلسفة كل من نيتشه وهيغل. وفي أواخر السبعينات من القرن الماضي، أصدر كتاباً مهماً آخر: «أوروبا والإسلام» لاقى رواجا واسعاً في البلدان الغربية وترجم إلى اللغتين الإسبانية والإنجليزية. وهو يقول إن كتابه المذكور لم يكن يهدف إلى تقديم انجازات اوروبا بطريقة مدرسية وإنما هو استقراء للثقافة الغربيّة، وتأمل في مصيرها. وقد صدر كتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق في نفس السنة محتوياً على تحليل لافت للانتباه، لكن جعَيْط يرى أن إدوارد سعيد لم يكن يعرف الاستشراق وما كتبه عنه ليس بذي قيمة. بل واعتبره «سطحيّا» و «تهجمياً» و«أيديولوجياً»، لكنه اعترف مع ذلك أن في الاستشراق جانباً غير منصف للإسلام وللعرب. في الثمانينات من القرن الماضي، أصدر جعَيْط كتابه الرفيع الآخر عن تاريخ الكوفة ليقدم من خلال تاريخ هذه المدينة رؤية جديدة للتاريخ الاسلامي. وبعدها انشغل بسيرة الرسول، وبقضية الوحي منجزاً حول هذا المجال كتباً مثيرة للاهتمام. ومنذ بداية ما سمي بـ«الربيع العربي»، لم ينقطع الدكتور هشام جعَيْط عن التدخل في الجدل القائم حول العديد من القضايا الملتصقة بالديمقراطية، ونظام الحكم، وغير ذلك.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©