الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الوثوقيَّة مَفْسَدَة

الوثوقيَّة مَفْسَدَة
31 ديسمبر 2015 00:39
ألفة يوسف لا يمكن لباحث أن ينكر التّراكم الفكريّ الكبير الّذي مثّلته كتابات هشام جعيّط. وقد حظيت هذه الكتابات بدرس مستفيض في مضمونها وأسسها الفكريّة والمنهجيّة. وإنّنا في هذا المقال نودّ أن ندلي بدلونا في أبحاث جعيّط لا انطلاقاً من تحليل مضامينها فحسب، وإنّما انطلاقاً من تحليل ما يقوله جعيط نفسه عنها. بعبارة أخرى إنّنا سنهتمّ برؤية جعيّط لأعماله من منظور: «الأنا بصفته آخر» كما يقول ريكور. ولذلك فإنّنا سننظر أساساً في مقدّمات الكتب والنّصوص الانعكاسيّة من جهة ونتبيّن مدى تجسّمها في أعمال جعيّط من جهة أخرى. أبرز ما يميّز حديث جعيط عن أعماله اهتمام كبير بالعقلانيّة. فهو يؤكّد في بحثه سيرة الرّسول أنّه يقيم عمله على «حسّ رهيف وعقلانيّة تفهّميّة ومعرفة دقيقة» (كتاب في السيرة النبوية1، الوحي والقرآن والنبوة، ص 7). ويكرّر الكاتب العبارة نفسها تقريباً في بعض الصفحات، بعد الإقرار الأوّل إذ يقول إنّه يحاول «الاعتماد على المعرفة واستنباط منهج عقلانيّ تفهّميّ» (المصدر السابق ص 12). ولا نعدّ هذا التّكرار اعتباطاً بل هو في رأينا تعبير عن هوس بالعقلانيّ لا يتجلّى فحسب في المبحث حول سيرة النبيّ وخشية تسرّب الإيماني إلى العقلانيّ وإنّما هو هوس يتجسّم في كتابات أخرى إذ يتجاوز العقلانيّ التمّوضع منهجاً علميّاً ليكون هدفاً للفرد والمجتمع. مساءلة المصادر يقول جعيط في كتابه: «الشّخصيّة العربيّة الإسلاميّة والمصير العربيّ: «تكون عقلنة النّفسيّة الفرديّة من دون جدوى إن لم تدعمها عقلنة النّظام السّياسيّ الاجتماعيّ» (الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي، بيروت، دار الطليعة 1984، ص 11). ومعلوم أنّ المصطلح ليس مهمّاً في ذاته وإنّما في إجرائه، فقد حاول جعيط تجسيم العقلانيّة في أبحاثه عبر مظاهر شتّى. أوّل هذه المظاهر التّعامل النّقديّ مع المصادر حتّى إنّنا نجده يخصّص فصلاً طويلاً من كتابه: في السّيرة النّبويّة 2، تاريخيّة الدّعوة المحمّديّة لـ «تقييم أوّليّ للمصادر الأساسيّة» (ص 19). وهذا أمر منطقيّ لباحث في التّاريخ الوسيط، واعٍ بأمرين، أوّلهما شحّ المصادر أحياناً، وثانيهما الخلط الموجود فيها أحيانا أخرى. وقد أثبت جعيط هذين الإشكالين إذ يقول حول ندرة المصادر في كتابه (تأسيس الغرب الإسلامي، القرن الأول والثاني هجري، السابع والثامن ميلادي، ص 7): «وحقيقة الأمر أنّ المصادر كانت شحيحة في هذا المضمار». ويقول حول الخلط الموجود فيها: «مع ملاحظة أن أولئك المؤرخين كانوا يخلطون بين القديم والحديث» (كتاب: الكوفة، نشأة المدينة العربية الإسلامية، ص 10). ولتجاوز الإشكالين نجد الكاتب يدعو إلى الحذر في التّأويل أوّلًا وإلى تجنّب الأحكام المسبقة ثانياً إذ يقول: «المؤرّخ الصّميم لا بدّ من أن يلتزم بما لديه من مصادر، وأن يتّسم بالحذر في تأويلاته، بل إنّ همّه كما قلنا هو التّفهّم وإخراج واقع الماضي من سديم النّصوص، أي إكسابه نظاماً وهيكلة من دون إخضاعه لأيّ نظرة مسبقة» (في السيرة النبوية 2، ص 8). ومن أساليب التّعامل الحذر مع المصادر التّوقّف عن إصدار المواقف أو الإقرار بالوقائع في حال غياب الحجّة والقرينة. وهذا ما يثبته جعيط إذ يقرّ أن: «لا شيء في المصادر المتوافرة لدينا يدلّ على الأسباب المحتملة التي يمكن عرضها بخصوص انتقال جيش المدائن إلى الكوفة العتيدة» (كتاب: الكوفة، نشأة المدينة العربية الإسلامية، ص 67). بل إنّ الكاتب يرفض أحياناً اعتماد بعض المصادر المشكوك فيها حول مواضيع مخصوصة إذ يؤكّدّ: «نحن لا نعتمد على ما أُكمل به الإسلام فيما بعد من سيرة وتاريخ وطبقات وحديث، لأنّ القاعدة أنّ كلّ ما دُوّن بعد مائة سنة من الحدث فاقد لثقة المؤرّخ» (في السيرة النبوية1، ص 94)، وهو واعٍ أنّ «هذه المادة الخام التي لدينا إذن تتسم بالضبابية والأسطورية من دون شكّ». (في السيرة النبوية2، ص 212). يبدو لنا أنّ هشام جعيّط يندرج في إطار التّمثّل النّقديّ الخلدونيّ الّذي يقوم على اشتراط إمكان وقوع الخبر واحدا من أسس صحّته وصدقه. وهذا الشّرط ممّا كان غائباً في كثير من المصادر التاريخيّة العربية بشهادة جعيط نفسه: «ولو اقتصرنا على المؤرخين العرب كالطّبري والمسعودي لكان شعورنا أن محاولات الاستقرار التي قامت بها الجموع العربية تعود إلى عهد سحيق، مع ملاحظة أنّ أولئك المؤرخين كانوا يخلطون بين ما كان قابلاً للتصديق وما لم يكن كذلك» (كتاب: الكوفة، نشأة المدينة العربية الإسلامية، ص 10). ولعلّ واقع المصادر القديمة هذا هو ما جعل الباحث يقيم عمله على المقارنة بين النّصوص، مقرّاً بأنّه «كان يجب على المؤرّخ أن يقوم بإعمال الفكر وأن يستنبط ويستنتج وكذلك أن يقارن بما كان يجري في القرنين الأوّل والثّاني في المشرق، أي في المركز آنذاك» (تأسيس الغرب الإسلامي، ص7). ولم يبق نشدان جعيط تمحيص المصادر والمقارنة بينها مجرّد منهج عقلانيّ يسوقه في مقدّمات أعماله بل سعى فعليّاً إلى تحقيقه، وهذا ما حمله على رفض كثير من الرّوايات التي أقرّتها بعض مصادر التّاريخ الإسلاميّ وأثبتها المخيال الشّعبيّ. على أنّ إقامة جعيط أبحاثه على البعد العقلاني، لا يتجلّى فحسب في الرؤية النّقديّة للمصادر، ولكنّه يظهر في أنّ الدّرس التّاريخيّ والاجتماعيّ عنده لديه ليس مجرّد وظيفة باحث جامعيّ ولا مجال احتراف للكتابة، بل هو هاجس مفكّر يحدّد مسبقاً أهدافه من الكتابة، ويعي عميقاً ما ينشده منها. فهو «يخاطب الضّمير الرّفيع والبسيط معاً الخائض في الحياة البشرية» (الشخصية العربية الإسلامية، ص8)، وهو بذلك يريد أن يثير اليقظة وأن يهدي الضّمائر. يقول: «إنّ هذا الكتاب الّذي هو محاولة نقديّة وأنثروبولوجية وتاريخيّة فلسفيّة يريد لنفسه أن يكون أيضاً نداء للضمير العربيّ والإسلاميّ. وأقصى طموحه أن يثير اليقظة»، ويؤكّد «أنّ تفكيرنا.. هدفه من وراء ذلك هداية الضّمائر» (المصدر السابق، ص 7 و 8). بل إنّ الكاتب يفكّر أساساً في مدى نجاعة أعماله في نفع المتقبّل والبحث العلميّ إذ يؤكّد في كتاب تأسيس الغرب الإسلامي، ص 7: « أعتقد أن دراستي للمؤسّسات لا بد وأن تكون نافعة للمهتمّ بتاريخ المغرب خصّيصاً، كما للمهتمّ بالمؤسسات الإسلاميّة في البلاد المفتوحة بصفة عامة». مهمّات للكتابة إنّ الكتابة لها وفق جعيط مهامّ عمليّة وفعليّة، واستخدام مصطلح «مهمّة» مفيد ودالّ. فالكاتب علاوة على إيمانه بالدّور الّذي يضطلع به، يعتقد أنّ هذا الدّور تكليف لا بدّ من أن يحقّق غايات وأهدافاً دقيقة. يقول جعيط: «إنّ تخليص المجتمع من سيطرة الدّين أو بالأحرى من المحتوى المؤسّساتي الإسلاميّ المرتبط بعصر مضى وتحديد علمانيّة جديدة في أسلوبها. تلك هي المهمة العاجلة الضرورية وهي مهمة عمليّة» (الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي، ص 10). وجعيط قد لا يكتفي أحيانا بتحديد الغاية والمقصود من بحثه، كما يقول، بل يتعدّى ذلك إلى نفي ما يمكن أن يلتبس بهذه الغاية. فيكون تعريفه للهدف المعرفيّ بالإيجاب والسّلب إذ يقول: «فلا المقصود نسف الإسلام في ينابيعه ولا المقصود إحياء مقاصده الأولى في وجاهتها أو الدّفاع عن الرّسول ضدّ من لم يعطه حقّه من المستشرقين أو من الرّأي العام الغربيّ...المقصود هو تعميق المعرفة وإثراؤها في فترة عرف فيها علم التّاريخ تقدّماً بالغاً في الغرب» (كتاب في السيرة النبوية2، ص 7). ومن مظاهر العقلانيّة في كتابات هشام جعيط، إضافة إلى ما أسلفناه حول تمحيص المصادر وضربها بعضها ببعض وتحديد الأهداف، وعيُ الكاتب بما يخاطر به المؤرّخ من إمكان إسقاط معارفه وتمثّلاته الحاضرة على الماضي. لذلك نجد جعيط يحرص تماماً على تجنّب الخلط الزّمنيّ (l’anachronisme) والتّعسّف التّأويليّ: «حاولت من جهتي أن أمارس تاريخاً تفهّميّاً إلى حدّ بعيد، وأن أسعى لفهم كيفيّة تفكير أهله، وما كانت عليه أصنافهم ومقولاتهم وقيمهم وحتى أنّني حاولت الكلام بلغتهم.. وتوصّلت في نهاية الأمر إلى أن أعيش مع هؤلاء النّاس وهاته الأحداث» (أنظر: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، دار الطليعة، بيروت، 1995، ص 8). شطط الوثوقية لقد حاولنا فيما سبق إثبات البعد العقلاني في كتابات جعيط وتحليل بعض مظاهره، ولكنّنا لاحظنا أنّ نشدان العقلانيّ لدى الكاتب قد يتحوّل أحياناً إلى ضرب من الوثوقيّة الّتي لا تترك لنسبيّة المعرفة وتنوّع وجهات النّظر مجالاً. يظهر ذلك شكلاً في بعض المصطلحات والكلمات المتواترة - ومن الشّائع في مجال البحث أنّ للمعجم اللّغويّ دلالات عميقة وضمنيّة- ففي أبحاث جعيّط نجد إسرافاً في اعتماد كلمة «الحقيقة» بما تحيل عليه مرجعيّاً وفلسفيّاً ونفسيّاً من قطع يلامس المطلق. واللّطيف أنّ جعيط يعمد إلى هذه الكلمة أحياناً في مجالات ميتافيزيقيّة لا يمكن البتّة القطع فيها كما يفعل حين يقول مثلا: «وفي الحقيقة ليس هناك خلف ولا أمام ولا فوق ولا تحت» (السيرة النبوية1، ص 52)، أو يقول في الصفحة 63 معتمدا الكلمة نفسها: «الحقيقة أنّ هذا الكيان الّذي لا يمكن أن نسمّيه ملكا، وُصف في التّكوير بأنّه «ذو قوّة» (المصدر السابق، ص 63). وفي كتاب آخر يحيل المعنى الضّمنيّ لكلام جعيّط على إمكان القطع بنظرة «حقّ»، وكأنّ الأمر في مجالات العلوم الإنسانيّة هذه يمكن أن يكون محسوماً ونهائيّاً، وهو الّذي لم يُحسم أحياناً حتّى في مجال العلوم الصّحيحة. يقول الكاتب: «وبمعنى آخر كيف يمكن للضّمير الإسلامي إعمال الرّأي من جديد في عقيدته فيلقي عليها نظرة جديدة ونظرة حقّ» (الشخصية الإسلامية، ص 10). ومن نفس الحقل الدّلاليّ للحقيقة والحقّ، نجد الكاتب يعمد إلى لفظ «الصّحيح». وليس استعمال اللّفظ في حدّ ذاته مشكلا، لكن استعماله بشكل مسقط في مقدّمات البحوث أحياناً دون أيّ تحليل أو تفسير هو ما يجعلنا ندرجه ضمن هذه الوثوقيّة الظّاهرة أحياناً. فمن ذلك قول الكاتب في مقدّمة كتابه عن الفتنة: « لقد ساعدني التاريخ، التاريخ الصحيح والقويم في هذا المشروع الصعب» (كتاب الفتنة، ص 8). ومنطقيّ أنّ إثبات الصّحيح بمثل هذه الوثوقيّة هو في الآن نفسه إثبات للخطأ بالوثوقيّة نفسها. فمن يعرف الصّحيح قطعاً من دون حجج لا شكّ في أنّه أيضاً يعرف الخطأ قطعاً من دون حجج. وهذا ما يثبته إقرار جعيّط في كتاب الشخصية العربية الإسلامية ص، 7:»كما ترتّب عن ذلك نظرة لا تقل خطأ للتّاريخ العربيّ القديم». وقد نجد جعيّط أحياناً يستبدل عبارة الوضوح بعبارتي الحقيقة والصّحيح أحياناً إذ يقول في إقرار ثابت على الرغم من أن المجال ميتافيزيقي حول الوحي: «والأمر واضح فهي ليست رؤيا في المنام بل رؤية بعين الرأس» (كتاب في السيرة النبوية1، ص 54). تسرُّع ولعلّ هذه الوثوقيّة تحمل الكاتب في أحيان قليلة إلى التّسرّع في طرح مفاهيم يعتبرها من تحصيل الحاصل، في حين أنّها مفتقرة إلى التّوضيح والتّدقيق. فمن ذلك ما نجده في مقدّمة كتاب: «الشّخصيّة»، إذ يقول: «ولا ترتبط بالعلم الّذي يكفله الدّين أي في نهاية الأمر الّذي يكفله الله» (الشخصية العربية الإسلامية، ص 5). إنّ هذه الجملة تُماثل بين الدّين وبين الله (جلّ جلاله)، وما استعمال «أي» التّفسيريّة إلاّ تأكيد لذلك. ويحيّرنا من باحث ومفكّر في مستوى هشام جعيّط مثلُ هذا الخلط بين مفهومين هما - وإن اتّصلا- يظلاّن مختلفين هوَوِياّ أشدّ الاختلاف. ويتكرّر شبيه هذا الخلط في إقرار جعيط في مقدّمة الكتاب نفسه، ص 11: «وكان همّي دائما عبر هذا العمل أن أزاوج بين المثالية والواقعية، بين الإيمان والمعرفة». فلئن أمكن، مع التّنسيب، مقابلة المثالية بالواقعية فإنّه لا يمكن مقابلة الإيمان بالمعرفة. فكأنّنا أحياناً إزاء جماع مصطلحات ينقصها الضّبط والدّقّة. إنّ الوثوقيّة الّتي حاولنا بيان بعض تجلّياتها تبلغ أحياناً ذروتها إن في الانتقاد أو في الإشادة. ونحن طبعاً لا نناقش حق الباحث في الانتقاد لكننا نحاول تحليل أسلوبه الذي يبدو لنا قاطعاً في غير داعٍ إلى ذلك. وليس الأمر مختلفاً في الإشادة عما هو عليه في الانتقاد، فلئن اختلفت وجهة التقييم، فإن الأسلوب واحد. ولعلّ وثوقيّة الأحكام تبدو أوضح إذ خرجنا من المجال العقديّ المحرج لنتبيّن شمولها حتّى في تقييم بعض المفكّرين فجعيّط يقول: «إنّني بصدد التّفكير مثلاً في آراء عبد الله العروي، التّفكير الذي يتّصف بالاتّزان والرّقّة والمتانة (كتاب الشخصية العربية الإسلامية، ص 7)، وليس الإشكال فحسب في أنّ مفاهيم الاتّزان والرّقّة والمتانة ضبابيّة تختلف من تقييم إلى آخر، ولكن في أنّ جعيط لم يفسّر لنا أيّا من هذه الصّفات الّتي عرضها ورصفها. وهذا العرض من دون تفسير أو تحليل يتكرّر إذ يقارن الدّارس بين البحث في المغرب وتونس خصوصاً من جهة، والبحث في المشرق من جهة أخرى في تعميم عجيب، فيقول في الصفحة نفسها: «لكن النتيجة أننا نجد في تونس تبحّراً علميّاً جافّاً وما زال متلجلجاً. أمّا في المشرق فيسود فكر مجدب متمذهب تمذهباً دينيّاً غير متمكّن من وجهة المعرفة». ولعلّ بعض مظاهر الوثوقيّة الّتي عرضنا لها يمكن أن تفسّر تناقض جعيط أحياناً. فهو قد يتسرّع في إثبات حكم لينقضه. إنّ الكاتب مثلاً ينتقد قراءة المستشرقين للتّاريخ العربيّ الإسلاميّ ويثبت نقده هذا بحجج وبراهين. وهو يعتبر مثلا أنّ قراءة كاتياني الفتح هي قراءة تفيد «تأويلًا للتّاريخ عرقيّاً مشطّاً»(كتاب: الكوفة...، ص 8). ولكنّنا نجد جعيط نفسه يؤكّد في كتاب آخر أنّه «لا معنى لانتقاد الاستشراق ما دام العرب والمسلمون لم يقوموا باستكشاف ماضيهم بأنفسهم باتخاذ المناهج المعترف بها عالميّاً» (السيرة النبوية2، ص 9). وإنّنا نقرّ طبعاً بإمكان تطوّر فكر أيّ باحث وتبدّله بل نعدّ هذا التّطوّر ضرورة تحتّمها الصيرورة. ولم نكن لنتحدّث عن تناقض لولا أنّ تقابل المواقف كان أحياناً في الكتاب نفسه. وهذا شأن إشارة الباحث في كتابه حول السّيرة إلى أنّ نقد المستشرقين خالٍ من الفائدة حالياً، ليعود فيما بعد إلى الإقرار بأنّه قد ردّ على مثل هذه الأفكار لمستشرقين (السيرة النبوية2، ص 11)، وأنّه يعيب كثيراً من الأشياء على الاستشراق الجديد (ص 14). ومن اللاّفت للانتباه أنّ جعيّط يقول في ص 6: «كم جُرحنا من بعض كتابات المستشرقين الّذين سمحوا لأنفسهم بأن يسلّطوا آراءهم على شخص محمّد من وجهة أخلاقيّة أو دينيّة». وإنّنا نودّ أن نقف عند عبارة الجرح الانفعاليّة هذه (في معناه المجازيّ طبعاً)، ونريد أن نهتمّ بها في علاقتها بالضّمير «نا» لأنّها في رأينا منطلق قد يمكّننا من تفسير ما حاولنا تحليله من وثوقيّة وبعض تناقض لدى جعيط. إنّ الجرح بما يفيد من مساس بالذّات من جهة والضّمير «نا» بما يحيل عليه من ذات جماعيّة يقوداننا إلى أن نفترض أنّ الوثوقيّة في فكر جعيط هي تعبير عن امتزاج الذّاتيّ بالعقلانيّ في أبحاثه. ذلك أنّ جعيط المؤرّخ يريد أن يكون موضوعياً في تعامله مع التّاريخ العربيّ الإسلاميّ. ويؤكّد في الصفحة نفسها أنّ «التّاريخ علم وضعيّ وأرضيّ يخرج عن دائرة الإيمان والمعتقد»(المصدر نفسه، ص 5)، ويعتبر أنّ «على المؤرّخ المسلم أن يضع بين قوسين قناعاته الدّينية عندما يدرس بزوغ الإسلام. فالحقائق الدّينية يتناولها بالوصف والتحليل، بالبحث في التّأثيرات والتّطوّرات، ويضعها في لحظتها التّاريخيّة من دون الالتزام بالمعطى الإيمانيّ، وإلاّ بطل البحث» (المصدر السابق، ص 6). ولكنّ جعيّط المفكّر والإنسان هو في الآن نفسه مندرج ضمن هذا التّراث العربيّ الإسلاميّ حامل لمخياله الجماعيّ وللاوعيه الجمعيّ. وهو بذلك مقرّ ومعترف: «ومن واجبي أن أقول للقارئ إنّ المقصود هنا هو كتاب وضعه رجل تربّى في كنف التّقليد الإسلاميّ، عليه أن يكافح في وقت واحد ضدّ الرّؤية التّقليديّة للأمور وضدّ حداثة تبسيطيّة»(كتاب: الفتنة...، ص 8). وبظهور هذه الذّاتية واختراقها مجال البحث لا نتعجّب أن نجد جعيّط الّذي كان ينظّر للصّرامة في التّعامل مع الموضوع التّاريخيّ يجعل علاقته به قائمة على التّعاطف أيضاً (كتاب: في السيرة النبوية2، ص 5-6). ويصرّح: «أقيم مع هذه المرحلة التّأسيسيّة للهويّة الإسلاميّة علاقة معرفيّة يخترقها التّعاطف والتّوادد (كذا) في أعماقها حيث يتمازج المعرفيّ والمعاش (كذا)، العلم والحياة» (كتاب: الفتنة...، ص 8). البحث عن الذاتويبلغ الأمر بالباحث العقلانيّ الموضوعيّ إلى الإقرار بأنّه يبحث في قضايا التّاريخ عن قضايا ذاته: «وبما أنّي بصدد البحث عن عناصر لنظرة عامة للتاريخ تتجه إلى قضايا عالمية بالذّات» (كتاب: في السيرة النبوية2، ص 7). ولذلك كانت بعض أبحاثه ممّا حمل في نفسه عناصره الأساسيّة منذ أمد طويل (المصدر نفسه، ص 5 ). ولا عجب، والحال تلك أن نجد جعيّط العقلانيّ يتحوّل بتأثير هذه الذّاتيّة الّتي يقبلها ويرفضها في آن إلى وثوقيّ في بعض الأحيان. ذلك أنّ العقلانيّة تفترض أخذ مسافة من الذّاتي قدر الإمكان، ولكنّها إذا امتزجت بالذّاتيّة عن وعي أو غير وعي، تتحوّل من بحث المؤرّخ عن المعرفة الواقعيّة إلى بحث عن المعرفة الحقيقيّة. وبين الواقع والحقيقة فرق ما بين رؤية الموضوع ورؤية الذّات. ولعلّ أحسن جملة تكشف عن دور الذّاتيّ الدّاخليّ في زحزحة فكر جعيّط عن العقلانيّة إلى الوثوقيّة أحياناً قوله في أحد أبحاثه: «يستهدف هذا البحث أساساً توضيح الرّؤية في نفسي وتدقيق آرائي في همومي الفكريّة، وأن أمدّد بحثي الدّاخليّ عن الحقيقة» (كتاب: الشخصية العربية الإسلامية، ص 5). إنّ تراوح جعيّط بين العقلانيّة والوثوقيّة وقراءتنا لهذا التّراوح من منظور اختراق الذّاتية للبحث العلميّ يحملنا إلى تساؤلات فلسفيّة حول مدى قدرة الباحث على التّجرّد لا سيّما حال اتّصال بحوثه بقضايا عقديّة حضاريّة ثقافيّة حارقة في زمن غدا فصل العلميّ فيه عن الإيديولوجيّ عسيراً جداً. رصانة وحياد إذا كان التاريخ كأحد العلوم الإنسانية لا يتسم بالمصداقية الكافية كعلوم الطبيعة، أو الدقة والصرامة، كالرياضيات، وإذا صح أنه لا ينفلت من التأويلات، فإن المؤرخ الصميم لا بد له من أن يلتزم بما لديه من مصادر، وأن يتسم بالحذر في تأويلاته، بل إن همه كما قلنا هو التفهم وإخراج واقع الماضي من سديم النصوص، أي إكسابه نظاماً وهيكلة من دون إخضاعه لأية نظرة مسبقة. وإذ بات العلم الآن متلصقاً بالتكنولوجيا كنشاط أساسي في المجتمعات الحديثة، فإنه ابتعد عن نضاليته الأولى، وتجاوز النظريات الوضعية القديمة، أي أن العلم وبالخصوص علوم الإنسان والمجتمع، صار يتسم بالرصانة في نفس الوقت الذي نأى فيه عن مواقع السذاجة والكفاح الأيديولوجي. في السيرة النبوية 2، ص 8 صدمة الحداثة أتفهم أن تجد بعض التحليلات الاحتراز أو المعارضة، ذلك لأن العالم الإسلامي في أزمة هوية وأنه محاصر من الخارج ومن الداخل، وأنه ما زال يعيش صدمة الحداثة وصراع الذات والصيرورة. وبعد، فإن لعلم التاريخ ذاته تاريخاً، فقد تأسست في ألمانيا وفرنسا في القرن التاسع عشر مناهجه المعروفة في التعامل مع المصادر، وازداد ثراء في القرن العشرين، حتى وصل إلى نوع من النضج بتكافل المعارف التي تصب فيه، من اقتصاد وأنثروبولوجيا وسوسيولوجيا. وإذ يحاول المؤرخ اتخاذ المسافة اللازمة مع واقعه هو، والتزام الحياد والموضوعية بكل صرامة، فإن هذا العلم يبقى في لبّه معرفة حول الإنسان والمجتمع تمسّ في بعض الأحيان رهانات حيوية أو تخضع، من جهة أخرى، إلى روح الزمنية التي تنتجها، وإلى الصورة الذاتية لمجتمع ما. في السيرة النبوية2، ص 7
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©