الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كابوس الحسد

كابوس الحسد
3 يونيو 2007 00:25
سعاد جواد: أتذكر تلك الأيام فأجد الألم الخفيّ يعتصر قلبي بقوة· مشاعر متناقضة في داخلي تهب كل حين كالعواصف الشديدة· فالحب فتح أبواب قلبي وأدخل النور إلى جوانبه، ثم جاء الحقد والغيرة والحسد، الذي دمر حياتي كلها··· ومن المسؤول؟ أقرب الناس إليّ··· أختي التي هي من لحمي ودمي· كلما أتذكر ذلك تمزقني الحسرات وتقطعني الآهات··· لذلك سأشتكي للناس ولكل الدنيا ما فعلته أختي بي· خلقنا معاً في رحم واحد، تسعة أشهر امتزجت فيها دماؤنا وتشكلت ملامحنا المتشابهة بشكل يدعو للاستغراب الشديد· توأمان··· نسختان متشابهتان لا يسهل التفريق بيننا· حتى عندما حانت لحظة ولادتنا، لم تشأ إحدانا الخروج قبل الأخرى لتكون هي الأكبر، فخرجنا معا في عملية قيصرية ليسجل التاريخ لحظة ميلاد مشتركة واحدة· كنا نصرخ معا في وقت واحد طلبا للرضاعة، ننام معا ونستيقظ معا ونتألم معا· حتى الأمراض كانت تغزونا في وقت واحد، حتى الإحساس بالألم كان ينتقل بيننا فتشعر الواحدة منا شعور الأخرى وتحس بما تحس به أختها· باختصار كنا من أحدى الأعاجيب التي تحدّث الناس عنها طويلا· لم يكن سهلا على والدينا التفريق بيننا إلا عن طريق اختلاف ألوان الملابس، فأنا تميزت باللون الوردي وهي اختاروا لها اللون الأصفر فكل ملابسها صفراء وأنا وردية، يا إلهي··· لا أدري لم كان هذا الاختيار؟ فالغريب هو أنني تميزت بنفسية رومانسية تشبه ما يتميز به اللون الوردي· أما أختي فإن سمتيّ الغيرة والحسد صبغتاها بصفة اللون الأصفر الدال على هذه الصفات· بقينا متقاربتين طوال مرحلة الطفولة والمراهقة نلعب معا، نذاكر معا، ومستوانا الدراسي متقارب وهواياتنا متشابهة، إلا أن أختي كانت تتعمد إيذائي بسرقة حاجياتي وألعابي فتجعلني أبكي وأشتكي، فكانت تلك ميزتي التي ألصقها بي أبواي، وبالطبع فإنهما لم ينتبها لصفات أختي لأنها كانت تبتسم باستمرار ولا يبدو عليها أنها تفعل أشياءً سيئة· سِنِيّ التقارب بعد أن أنهينا الثانوية حصلنا على بعثة دراسية خارج الدولة فسافرنا معا للدراسة هناك· في الغربة اقتربنا من بعضنا بشكل أكبر وصرنا نتحدث طوال الوقت عن الحنين للوطن والأهل فأصبحت بيننا صداقة نفسية كنا نفتقدها قبل ذلك الوقت· فمررنا بمرحلة من التفاهم والتعاون في إنجاز أعمال التنظيف والطبخ التي وزّعناها فيما بيننا بشكل عادل وجيد· بعد ثلاث سنوات من الدراسة تعرفنا على شاب من أبناء الوطن، جاء ليدرس الماجستير· كان الشاب وسيما لطيفا، له من الصفات الحسنة الرائعة ما يجعله فتى أحلام أية فتاة· نسيت أن أذكر لكم نقطة مهمة وهي أننا أنا وأختي قد تغيرت أشكالنا بعد سنّ البلوغ، فأنا أصبحت طويلة ونحيفة، حنطيّة اللون، أما أختي فقد صارت قصيرة ممتلئة بيضاء البشرة· فكان هذا الأمر عجيبا بالنسبة للأهل، فكيف انقلب التشابه العجيب الذي كان بيننا إلى اختلاف واضح يمكن تمييزه بسهولة· بالطبع هي قدرة الله سبحانه وتعالى في خلقه، فلم نعد نحتاج إلى اختيار ألوان محددة نتميز بها وإنما أطلقنا لأنفسنا العنان في اختيار ما نحب من الألوان· لم يكن ذلك الشاب غريبا عنا، فهو من أبناء أقاربنا من أمنا، وقد تعرفنا عليه عندما جاءت أمه وأخته لزيارته فالتقينا بهم وصرنا نخرج سويا في نزهات مختلفة، فاكتشفنا البلد الذي عشنا فيه مدة طويلة دون أن نمتلك الجرأة للسياحة في أرجائه· لأول مرة في حياتي أشعر بميل شديد نحو إنسان غريب، لا أعرف كيف أصف لكم ما كان يجتاحني من مشاعر عجيبة كلّما شاهدته، وبالطبع فإنني لم أجرؤ على البوح بما كنت أشعر به لأحد لئلا أتهم بقلة الأدب، فالحب في عائلتنا شيء مذموم يعاقب الإنسان عليه· كتمت ما كان يدور بداخلي وأقنعت نفسي بأن هذه المشاعر هي مجرد أوهام ستزول مع الأيام· فلا فائدة منها خصوصا إن كان الشاب مرتبطا بأخرى، أو ربما هو لا يفكر بي إطلاقا· فوجئت باتصاله يوما، ألجمتني المفاجأة··· سكتّ··· أحس بارتباكي فأعطاني مهلة لأخذ النفس والاسترخاء ثم أخبرني بأنه معجب بي ويود التقدم لخطبتي وقد وجد أنه من الأفضل أن يسألني ويعرف رأيي قبل أن يتخذ الخطوة الرسمية· لم استطع النطق سوى بكلمة واحدة··· نعم··· ثم أغلقت الخط بوجهه· كاد أن يغمى عليّ فرحا وسعادة وتأثرا··· ما أسعدني··· هل سأكون زوجة لمثل هذا الشاب الرائع؟ هل سيتحقق حلمي وأكون شريكة حياته؟ هل سيظفر قلبي بمن حرّك نبضه؟ ما أسعدني··· كم أنا محظوظة· لفرط سعادتي أخبرت أختي بهذا النبأ السعيد، حكيت لها بانفعال شديد كل ما كنت أشعر به· فوجئت بلونها يشحب، شفتاها تزرقان، سألتها فزعة: ما بك؟ هل أنت مريضة؟ قالت: لا ولكني متفاجئة!! أيام حلوة مرت أيام كانت هي أسعد أيام حياتي فقد اتصلت بي أمي وأخبرتني بأن أهل الشاب قد زاروهم في البيت وفاتحوهم بأمر خطبتي لولدهم وأخبرتني بأن والدي موافق عليه وهم ينتظرون رأيي فأجبتها بأنني موافقة فقالت لي: إذن استعدي لعقد القران الذي سيتم في الإجازة الصيفية كما يريدون· أيام رائعة مطرزة بالأحلام والنور والفرح مرّت على روحي فجعلتها كطير مغرد لا يستقر إلا على الورود والرياحين· صارت الدنيا جميلة بعيني حتى أني لم ألحظ بأن أختي صارت أتعس مخلوقات الله، لا تأكل ولا تبتسم ولا تذاكر، وكأنها في حالة عزاء لفقيد عزيز· لم أكن من الذكاء والفطنة ما يجعلني أدرك ما تعانيه أختي، وكنت أعتقد بأنها مجرد حالة تعب عادية· كنت أتفاجأ بها وهي تتحدث مع أمي بانفعال ثم تغير مجرى الحديث كلما شاهدتني، وإذا سألتها عن شيء تصرخ بوجهي بتشنج غريب· انتهت السنة الدراسية وعدنا للوطن في الإجازة الصيفية· فوجئت بأن أمي ليست سعيدة ومتحمسة لعقد القران، سألتها عن السبب فقالت: ربما استعجلنا في الموافقة، فنحن لم نتأكد من سمعة الشاب جيدا ولكن والدك مصر على عدم التراجع بعد أن أعطى كلمته للرجال· تنفست الصعداء··· الحمد لله أن والدي لم يتراجع وسيتحقق حلمي الرائع بكل تأكيد· تم عقد القران وصار من حقي التحدث مع خطيبي عن طريق الهاتف ومشاهدته في زياراته العائلية لبيتنا· كلما تحدثنا معا وجدت بأنني أنجذب إليه أكثر وأنني إنسانة محظوظة لأنني سأتزوج من اختاره قلبي وقد اختارني عن حب وقناعة· كنت أعيش في عالم ساحر وجميل ولم انتبه لما كان يدور من حولي حتى انفجر البركان الذي أشعلته أختي بالتدريج وبشكل مستمر دون كلل أو ملل ضد هذا الارتباط· وجدت بأن أهلي لم يعودوا يرحبوا بدخوله بيتنا، ثم صاروا يتحدثون عنه كلاما غير طيب، يتهمونه اتهامات متعددة، يفتعلون المشاكل مع أهله على أتفه الأسباب، وهكذا لم تنقض أشهر الإجازة حتى فسخوا الخطبة وطلّقوني منه بعد أن ضغطوا عليه ضغطا شديدا ليفعل ما لم يكن مقتنعا به· بداية النهاية صدمة عنيفة أخرجتني عن طوري فصرخت بصوت مرتفع أمام والدي: هل أنا لعبة؟ ألست إنسانة أستحق أن يؤخذ رأيي؟ لماذا تدمرون حياتي؟ لأول مرة يمد والدي يده عليّ ليصفعني ويتهمني بقلة التربية· تحولت حياتي من الفرح إلى التعاسة المطلقة بلا سبب واضح معقول· ولتزداد الأمور سوءا فقد منعوني من السفر مرة أخرى لإكمال دراستي لأن الدراسة في الخارج هي التي أفسدتني كما يقولون، فسافرت أختي لوحدها وبقيت أنا حبيسة لأحزاني وآلامي وشعوري بالظلم· لم استطع تقبل الطعام فمرضت مرضا شديدا أوصلني للموت· وقد حاول خطيبي الاتصال بي والسؤال عنّي ولكنهم منعوه من ذلك· ثم حاول أن يضغط على أهله ليدخلوا بعض كبار القوم ليتدخلوا في مسألة إعادتي إليه ففعل أهله كل ما يمكن دون أية فائدة، فوالدي مصر على رفضه وعدم مناقشة الأمر على أية صورة· ثم جاءتني أخته يوما لتزورني في المستشفى ودسّت بيدي هاتفا صغيرا وطلبت مني الاتصال بأخيها لأنه يرغب بالتحدث إليّ· وكأنني عدت للحياة من جديد مع هذا الأمل البسيط··· فاستجمعت قوتي ودخلت الحمام وأغلقت على نفسي الباب وتحدثت معه· طمأنني وأخبرني بأنني سأكون من نصيبه عاجلا أم آجلا· وقال لي بأن هناك يدا خفية تلعب دورا شيطانيا في التفريق بيننا وتشويه سمعته وصورته لدى والدي، وطلب مني أن أتعافى من أجله، وحلف بأنه لن يتخلى عني مهما طال الزمن، ثم طلب مني إخفاء الهاتف قدر المستطاع ليكون وسيلة للاتصال الدائم بيننا· بأعجوبة عادت لي الحياة وتعافيت من جديد··· رضيت بسجني في غرفتي وكأنني أحد مرتكبي الجرائم واعتبرتها جنتي لأنني كنت أتحدث معه فأطير فرحا وتخضر جدران الغرفة وتتلون قطع الأثاث بألوان الورود بمجرد أن يتحرك الهاتف مهتزا بنغمات رقيقة حالمة تنقل صوته· زواج فاشل لم تدم الأمور كما هي بعد أن كشفوا أمر الهاتف الذي أخفيه، فقرر والدي تزويجي من ابن عمي الذي كان قد خطبني من قبل ورفضته لأنه لا يملك أية شخصية ولا شهادة ولا أية ميزة تليق به ليكون زوجا لي· وبصمت كامل تمت جميع الترتيبات حتى فوجئت بأنه يوم عرسي وأنا لا أدري· عادت أختي بإجازة قصيرة من الجامعة لتحضر هذا العرس الجنائزي الذي سيكفّن آخر أمل لي في السعادة· عندما شاهدت الفرحة على وجهها غمرتني لحظة تفتح بها ذهني فأدركت اليد الخفية التي وقفت وراء تحطيمي، قلت لها: لماذا فعلت بي كل ذلك؟ عادت الابتسامة الصفراء إلى وجهها وقالت: أنت لا تستحقينه··· هو يحبني أنا··· لقد سرقتيه منّي وسأسترده بعد أن أتخلص منك· هل يعقل هذا؟ أختي فعلت بي كل ذلك؟ بكيت بحرقة وألم، وقد شاهد الناس عروسا حزينة تذرف الدموع بشكل متواصل طوال الحفلة حتى عم الحزن كل الصالة وشعر المدعوون بثقل الألم حين يحرم الإنسان من حقه في الاختيار· مرت ثلاث سنوات كئيبة في زواج فاشل مع رجل لا أكن له سوى الاشمئزاز، وقد رزقت بطفلة هي ضحية مثلي لحياة أسرية غير مستقرة كانت نهايتها الطبيعية الطلاق· خلال فترة زواجي تقربت أختي لذلك الشاب وحاولت أن تجذبه إليها لتسد الفراغ العاطفي الذي سببه له حرمانه منّي، وقد ثابرت على ذلك الأمر مثابرة شديدة لا تكل ولا تمل حتى أخبرها بأنه يريد خطبتها· فغمرتها السعادة لأنها حققت انتصارها الساحق الذي كانت تتمناه ونسيت بأنها قد شوهت صورته لدى الأهل ولن يتمكن أحد من إزالة ذلك التشوه الذي سببته وأن الموافقة عليه كخطيب لابنتهم الثانية هو ضرب من المستحيل بعد كل ما حدث من مشاكل بين العائلتين· وبالطبع لم تفلح جهودها المضنية لإعادة ما أفسدته فرفض طلبه ولم يوافق والدي على تلك الخطبة· شعرت بالتعاسة وصارت مثل المجنونة تتخبط بتصرفات لا عقلانية لتحقق ما تريد· هنا أحس والدي بأن الواجب يقتضي بتزويجها بأسرع وقت وإبعاد هذا الشاب عن أسرتنا والتخلص من كابوسه الذي صار يشبه العدوى فينتقل بين بنات العائلة· بنفس الطريقة الجائرة تم منعها من إكمال دراستها وتم تزويجها من شخص لا تحبه ولا ترضاه ولكنها لم تبك في عرسها وإنما رسمت ابتسامتها الصفراء على وجهها كي لا ترى نظرة الشماتة المرسومة في عيني· بعد أن يئس الشاب من كلتينا تزوج من أخرى فحضرنا عرسه أنا وأختي ونحن مطلقتان ويائستان لم نكمل دراستنا الجامعية ولم نحظ بحياة أسرية ناجحة· مرت السنين ومضى الشباب سريعا ونحن لازلنا كما نحن، كلما قررت أن أخطو خطوة نحو السعادة أجد قدم أختي أمامي كحجر عثرة تمنعني بقوة من التقدم· لقد نذرت نفسها على مر السنين لتكون جدارا منيعا يمنع عني الفرح بكل أشكاله حتى هرمت وأنا لا أزال في الخامسة والثلاثين من عمري وصار شكلي يوحي بأنني في الخمسين· وهي أيضا حدث لها ما يحدث لي، أنا من إحساسي بالظلم وهي من شدة حسدها وغيرتها التي تأكلها أكلا ليل نهار· فلا هي تسعد نفسها ولا تترك لي مجالا للفرح والسعادة· إنها كابوسي الذي يطاردني طوال الوقت·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©