الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السّيرة المستحيلة

السّيرة المستحيلة
31 ديسمبر 2015 00:39
فوزي البدوي ربما لم يحتفظ المؤرخ هشام جعيْط من تعاليم أستاذه كلود كاهان إلا بتلك المسلمة التي رددها في مقدمة كتابه «الإسلام من البدايات إلى ظهور الإمبراطورية العثمانية»، وفيها أن شخصية نبي الإسلام (صلى الله عليه وسلم) هي من بين كل الشخصيات النبوية مَنْ تحتفظ بطابع تاريخ قوي. وقد أغرى هذا الطابع التاريخي هشام جعيْط ليكتب عن سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم)، معتبراً الكتابة عنها «ممكنة»، بل واعتبار ما كتبه إنما يجبُّ ما قبله، فهو كتب «أفضل سيرة» عن النبي - كما عبر عن ذلك في أكثر من مناسبة - بعد صدور كتبه الأخيرة الثلاثة، غير أنه يتناسى ربما ما أسرَّ به كلود كاهان نفسه - كما تقول جاكلين شابي - لطالبته الشابة من رغبته المستمرة في إعادة النظر في الفصل الذي كتبه عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، وسيرته في كتابه السابق، طالباً منها إعادة النظر فيه لما كان يراوده من شكوك في متانة هذا القسم من الكتاب، وهي شكوك ترجع بالأساس إلى ما لخصته الباحثة الفرنسية فيما بعد من خلال حديثها عن «السيرة المستحيلة». يعتقد هشام جعيْط أنه قادر على كتابة سيرة للنبي، ومردّ هذا الاعتقاد أمور كثيرة تجتمع كلها تحت مسلَّمة واحدة وهي نظرته إلى المصادر الإسلامية وإلى قضايا تتعلق بالمنهج أساساً في كتابة تاريخ الإسلام الناشئ، وبدونها لا يمكن فهم «وَهْم» إمكان الكتابة التاريخية عن نبي الإسلام (صلى الله عليه وسلم)، فجعيْط هو سليل الاستشراق الكلاسيكي مهما اتخذ منه من مسافات أحياناً. إنه تلميذه النجيب الذي أهَّلَه تكوينه الكلاسيكي في دار المعلمين العليا بباريس وتشرّبه لكل الإرث الاستشراقي الفرنسي والأنجلوسكسوني المعروف آنذاك لكي يكتب أفضل ما يكتبه مؤرخ محترف عن المدينة الإسلامية، في أطروحة ستظل لوقت طويل رغم تقادمها، نموذجاً لما يمكن أن ترتقي إليه الكتابة التاريخية، وبالإضافة إلى هذا التكوين لا يمكن للمتتبع لمسار كتابات جعيْط ومحاضراته في (الكوليج دو فرانس) - وأنا واحد ممن تتبعوها يوم كنت طالباً في باريس في التسعينيات- أن يغفل عن مسلمة أخرى ذات صلة بجعيْط الإنسان، وهي أنه مثال حي على ما يسميه مرسيا إلياد بالإنسان المتدين، فعلى الرغم من كل الترسانة التاريخية والفلسفية التي يجندها جعيْط للكتابة عن تاريخ الإسلام ونبي الإسلام فإن جعيْط آخر ثاو خلف كل ذلك وهو جعيْط سليل عائلة جعيْط، سدنة الإسلام الحنفي في الديار التونسية. وأزعم أنه احتفظ بشيء كثير من تلك النشأة في عائلة متدينة انعكست في كتاباته وفي المسار الذي اختطه لنفسه في الانشغال بالإسلام الناشئ. وأزعم أن جعيْط ظل طول حياته يعيش ذلك التوتر بين الرعاية لحقوق الله كما يقول الحارث المحاسبي والرعاية لحقوق المعرفة، والذي عاشه من قبل رودولف بولتمان، وهو المتدين الذي اكتشف مخاطر النقد التاريخي الوضعي في نص جميل يقول فيه: «لقد قرب المؤرخون الليبيراليون إلى أنفسنا النقد، أعني الحرية والحقيقة، ونحن الذين أتينا من أفق التيولوجيا الليبرالية لم يكن في مقدورنا أبداً أن نصير علماء لاهوت، أو أن نبقى كذلك، لو لم نلتقِ داخل التيولوجيا الليبرالية بالجدية، جدية الحقيقة الجذرية. لقد كنا ننظر إلى العمل التيولوجي الجامعي الصارم في تقصيه وحرصه على الدّقائق على أنه تمرين على قبول التسويات.. تسويات لم نكن نستطيع أن تكون فيها سوى كائنات محطمة أو وجود منكسر في داخله». ولم يكن جعيْط رجل دين بالطبع ولكنه ما استطاع، وقد أراد أن يكون مؤرخاً، أن يتخلص من المتدين الثاوي في أعماقه. نقد المنهج الجعَيْطي في كتبه الثلاثة التي خصصها لسيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) صرح أن «مقاربته لا علاقة لها بأي أيديولوجيا»، وهو ينبه في أكثر من موضع إلى أنه «لم يقدم كتاباً في العلوم الدينية وإنما مؤلف تاريخي... بمقاربة تاريخية». غايته في ذلك أن يقدم سيرة للنبي (صلى الله عليه وسلم) بصورة أقرب ما يمكن من الحقيقة. وكان ذلك حلماً قديماً وجزءاً من مشروع قديم طويل النفس. وكان كما يقول عن نفسه «دائماً متلكئاً عن كتابة بيوغرافيا لن تزيد شيئاً على ما هو محرر بلغات متعددة، ولرتابة الكتابة السردية غير النقدية... ولعل الذي أنقذ المشروع هو اعتماده المقتصر عل القرآن كمصدر، كما على التاريخ المقارن للأديان، والانفتاح على أفق الثقافة التاريخية والأنثروبولوجية والفلسفية»، متسلحاً كما يقول «بحس رهيف وعقلانية تفهمية ومعرفة دقيقة». ولعل سر تردده في الحقيقة يعود إلى الخوف من تكرار المألوف من الكلام في موضوع أراد أن يكون له قصب السبق فيه، وأن يكتب فيه «كأن الموضوع طرق لأول مرة» كما يقول. وهو إلى تحقيق هذا الهدف يدرك أنه «على المؤرخ المسلم أن يضع بين قوسين قناعاته الدينية عندما يدرس بزوغ الإسلام، فالحقائق الدينية يتناولها بالوصف والتحليل، بالبحث في التأثيرات والتطورات، ويضعها في لحظتها التاريخية من دون الالتزام بالمعطى الإيماني». وليصل إلى مبتغاه وعدنا في أكثر من موضع من ثلاثيته، وخصوصاً في المقدمات أن يعتمد مقاربة «تفهمية عقلانية» لا تخفي ديْنَها لماكس فيبير، فقد حاول أن يجمع «بين المعرفة وبين المنهج العقلاني التفهمي الذي لم يجده كما يقول عند المسلمين القدامى من أهل السير والتاريخ والحديث، ولا عند المسلمين العاصرين. وأكثر من ذلك، أن المستشرقين على كثرة اطلاعهم، لم يأتوا بجديد يذكر في هذا الميدان وتبقى كتاباتهم هزيلة، مقارنة بفحول الفكر والتاريخ في الغرب». غير أن هذه المقاربة التفهمية «العلمية» لم تكن في الحقيقة إلا عقلانية تفهمية مشوبة «بالإسلامويّة» العلمية، وهي عقلانية تفهمية تخون الفيبريّة إذ تجردها من خلفيتها الملائكية وطابعها العلمي المحايد من الوجهة الدينية، فالعقلانية التفهمية الفيبيريّة لا تتنصر من طرف خفي للمسيحية كما يفعل جعيْط مع نبي الإسلام (صلى الله عليه وسلم)، وهو أمر لم يستطع أن يخفيه ذلك الاضطراب الذي يدركه المدقق لمقدمتيّ الجزء الأول والثاني. خيانة الفيبريَّة إن قارئ ثلاثيته ينتبه ولا شك إلى أن رؤاه وفهمه للإسلام وسيرة نبيّه، وللسياق التاريخي لمبعثه ورسالته تنبعث بالأساس من خلفيات دينية وليست علمية كما يدعي. فالعقلانية التفهمية الإسلامية قليلة الصلة بالعقلانية التفهمية الفيبيرية، ولهذا حق وصف منهجه بأنه شبه فلسفي وشبه ديني وشبه تاريخي، ولذلك كانت الرغبة أكثر من الحصاد. وجعيْط الذي أراد أن يكون نقدياً تجاه الاستشراق والإسلام التقليدي في آن كان أقرب إلى هذا الإسلام التقليدي وإن تغلفت كتاباته بكل ما يمكن أن يحلم به باحث من الاطلاع الواسع على منتجات كبار المستشرقين الكلاسيكيين من ناحية، وكبار مؤرخي الأديان وفلسفة الدين وكبار علماء الدراسات الكتابية اليهودية والمسيحية من ناحية ثانية، فهو يتحاور مع الجميع وينتقل بأريحية بين فلهاوزن ونولدكيه وبلاشير ومارسيا إلياد وماكس فيبر ودوركهايم وغيرهم، وهو إذ يخوض في كل المواضيع التي عالجها في الجزء الأول من الثلاثية المخصص للوحي والقرآن والنبوة، والمتصلة بالقرآن ككتاب مقدس والرؤيا والوحي والتجلي وجبريل والنبوة، ثم تلك المواضيع التي تناولها في الجزء الثاني المخصص لتاريخية الدعوة المحمدية في مكة وعالج فيها قضايا جذور الإسلام ومصادره الأساسية، ثم ما خصَّصه لما سمّاه بالأنثروبولوجيا التاريخية من مسائل القرابة والمرأة والحياة اليومية والحج وتأسيس مكة ونموها، وما حف بها من قضايا الإيلاف والحمس وغيرهما، والمجتمع المكي والتأثيرات الكتابية في نشأة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقضية الإيمان والكفر والهجرة إلى يثرب؟ ثم مسائل المجتمع المدني والصحيفة التي حللها بكيفية جيدة واستثمر فيها كل ما عرفته من تحليلات استشراقية متينة، إنما يكشف - في ذلك كله - عن استيعاب فريد ومتابعة لآخر ما تعرفه الدراسات الغربية في ما يكتب، غير أن المتخصص في هذه المسائل والمتابع لقضايا الإسلام الناشئ يدرك بلا شك أن الكثير مما يقدمه لا يخرج عن كونه قولاً بالمرجوح دون الراجح، في مسألة من هذه المسائل أو مناقشة لآراء خاض فيها الاستشراق الألماني أساساً منذ القرن التاسع عشر، وكان الغالب على تدخلات جعيْط في هذه القضايا هو تلك اللازمة التي لا يغادرها، والتي تميزه عن غيره وهي إرادة «الانتصار» للشخصية النبويَّة بما هي شخصية متجذرة في الرصيد السامي المشترك من ناحية، ومتفردة من ناحية أخرى، وهذا هو جوهر خصوصيتها. وجعيْط إذ يتوخى هذا «المنهج التفهمي العقلاني» يعتمد موقفاً من المصادر الإسلامية يثير أكثر من نقطة استفهام، فهو يعتقد ويكرر في أكثر من موضع أن المصدر الأساسي أو الوحيد الجدير بالثقة فيما يكتبه عن سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) هو القرآن. ويشدد على أنه «فيما يخصه هو بالذات فإن النواة هي القرآن وليست المصادر التي أتت من بعد على الرغم من أنها قد تحوي عناصر قديمة وقد تفيد إلى حد ما إذا حسن استعمالها». إن مؤرخ ظهور الإسلام وحياة النبي (صلى الله عليه وسلم) ومساره هو في الحقيقة، محظوظ جداً بالنسبة للآخرين. فالنص المتضمن لمحتوى الرسالة، وهو القرآن، طويل ومديد قياساً بما احتفظ به لنا من قبل بخصوص زرادشت والبوذا والمسيح مثلاً. وهو جعيط - ينبه إلى أنه «لا قيمة لما يحيل عليه بعض الباحثين من وجود نصوص قرآنية موازية من مثل «المصاحف الضائعة» أو «مصحف صنعاء» الذي اشتغل عليه غردبوين مقللاً من شأنها ومعتبراً إياها «أعمالاً سخيفة» ويتميز القرآن عنده بأنه «مصدر تاريخي مهم ليس لأنه يعطي تفاصيل عن الأحداث، بل لأنه يثبتها فيجعلنا نتحقق من وجودها، فيغدو تصور مسار محمد (صلى الله عليه وسلم) أمراً ممكناً بالنسبة إلى المؤرخ وليس ضرباً من الخيال»، ومثل هذا الكلام يحتاج من جعيْط أن يثبت للقرآن مزيتيْن أخرييْن أولاهما: «غنى النص القرآني بالمعلومات عن حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) إذ «ليس صحيحاً أن القرآن لا يحوي إلا القليل من التاريخ النبوي، فقسم كبير من سور الفترة المكية يستعرض فيه الصراع مع مشركي قريش ويقدم جدالهم ورد القرآن عليهم، وثمة إشارات ثمينة إلى طفولة الرسول ونزول الوحي ورؤى محمد (صلى الله عليه وسلم)، بل الأهم من ذلك هو تطور محتوى الرسالة والدعوة». وأما المزية الثانية فهي «معاصرة القرآن للأحداث، فهو نص متزامن مع النبي «صلى الله عليه وسلم» في تاريخيته وكون محمد هو الذي تعلق به، وأن إثباته المادي حصل في مصحف قريب العهد منه وممثل لما دعا إليه تماماً، ومن المرجح عندي أن الرسول سهر في آخر حياته، أو حتى في كل حياته، على تنظيم القرآن وهيكلته ومراقبة محتواه، بل إن النص سجل كتابة من الأصل في مكة ذاتها ولم يبق طويلاً في شكله الشفوي. فهو متزامن تماماً مع الرسول حيث لا يمكن ترجيح أنه أهمل هذا العمل خصوصاً أن القرآن أساس كل الدعوة وأساس الصلاة وأساس التشريع». بهذا يخرج جعيْط، وهو المؤرخ المحترف والمبشر بالمنهج العقلاني التفهمي العلمي، وهو الذي يدرك معايب موثوقية المصادر الإسلامية ولكنها معايب يحصرها في حدود النصوص الثواني من السيرة والمغازي، فكتب السيرة وهذه المصادر كلها «كتابية من جهة وكلها وضعت فيما بين 140 هجرية و300 هجرية.. ولا يمكن الاعتماد على مصادر أخرى بعد هذه الفترة إلا قليلاً. صحيح أن التدوين لم يبدأ إلا مع العباسيين الأوائل (حوالى 140 هجرية)، ولكنه اعتمد على روايات شفوية، وكل الإشكال يكمن في مدى قدمها وفي تأريخ زمن ظهور هذه الروايات. وهنا لا بد للمؤرخ من نقدها وفحصها بكل دقة. فلا يمكن تغليب رواية على رواية أخرى حسب الأهواء أو لإثبات فكرة كما فعل كثير من المؤرخين المحدثين، بل يجب على المؤرخ أن يتجنب تصديق المصادر من دون روية بقدر ما يتجنب الإجحاف في النقد والرفض من دون حجج، والمصادر خاضعة بالأساس للمنطق التاريخي. سياسة سدّ المنافذ والحقيقة أن جعيْط كاتب مخادع فهو يسعى إلى سدّ كل منافذ النقد التي يمكن أن توجه إليه، فإن أنت ذكرته بمشاكل المصادر وموثوقيتها أعلمك أنه يعرفها جيداً، وإن أنت ذكرته بمشاكل النص أورد لك كل ما هو مطروح اليوم من قضايا خلافية، وإذا ما حدثته عن الاستشراق الكلاسيكي وما كتبه عن السيرة المحمدية ومشاكلها يحدثك عن مآثر هذا الاستشراق وإنجازاته وحدوده، وهو في كل ذلك يخاتلك بأن ضعف موثوقية مصادر السيرة ومشاكل النص ومعايب الاستشراق الكلاسيكي لا تمنعه من المضي قدماً في مقاربته التفهُّمية المشوبة بنزعة روحانية إسلامية. إن المتخصص في تاريخ الإسلام الناشئ ومن له إحاطة بالدراسات التوراتية والمسيحية والكتابية عموماً في صلتها بالإسلام يعلم حق العلم أن ما أتى به جعيْط لا يضيف شيئاً كبيراً إلى ما اختطه الاستشراق الألماني في القرن التاسع عشر من دروب لا تزال مجهولة عند القراء العرب، وبالكاد بدأ الاستشراق الأنجلوسكسوني في استثمارها، ومع ذلك فإن القارئ لثلاثيته يجد متعة لا تضاهى تكشف عن سعة اطلاع مؤرخ هو فعلاً من آخر المؤرخين الكبار في العالم العربي وربما لا يضاهيه دقةً واطلاعاً إلا عبد الله العروي. لقد انخرط جعيْط في اعتقادي في ذلك الوهم الذي غذى القرن التاسع عشر وهو إمكان كتابة تاريخ المسيح، ولكن حصاد 150 سنة من الكتابة عنه كشف فقط عن استحالة كتابة هذه السيرة التي تفصل بين التاريخي والديني، والرسول لا يشذ عن ذلك -في اعتقادي- على الرغم مما يقوله أستاذه كلود كاهان من أننا أفضل معرفة بمحمد من المسيح (عليهما السلام)، والسبب في ذلك بسيط، وهو أن هذه المصادر التي يعول عليها جعيْط ويراوغ كثيراً في الإقرار بإمكان الاعتماد عليها ليست -على اختلافها- سوى مصادر وكفى، وبإمكان المرء أن يقبلها أو يرفضها ولكن لا يمكنه العمل معها أو بها لوحدها، ولا موجب لأن يعطيها من المصداقية ما به تعلو على غيرها. إن هذه المصادر كتبت وفق موتيفات مختلفة عن الموتيفات التاريخية. وكان التاريخ آخر اهتماماتها، فالمسلمون الأوائل دونوا في كتب السيرة والمغازي والتفسير والحديث ما اعتقدوا أنه وقع أو أرادوا أن يعتقدوا أنه وقع أو أرادوا لغيرهم من الأجيال اللاحقة أن يعتقد أنه وقع. إنها - باختصار - مصادر تحكي تاريخَ خَلاص قُدّ لحاجات دينية بالأساس لا لحاجات تاريخية، ومثلما نبّه وانزبرو «فإن حجاز هذا القرن السابع يدين بوجوده الهستريوغرافي الكامل تقريباً إلى «الجهد الخلاق» الذي اتصف به العلماء المسلمون اللاحقون، فهذا القرن كان مجرّداً من الشواهد الأركيولوجية، ويصعب العثور على شواهد عنه في الحقبة السابقة على الإسلام أو من خلال المصادر الخارجية». إن هشام جعيْط لا يزال - في اعتقادي - برغم كل ما يدَّعيه يتقاسم، في العمق، نفس الأطر الإبستمولوجية والمنهجية مع الاستشراق الكلاسيكي، ولذلك ينتج في أعمالة نتائج متشابهة، وهو مثله في ذلك مثل الكثير من الباحثين المسلمين والمستشرقين الكلاسيكيين، وعلى الرغم من اعترافه بتبعات هذا «الفراغ» فيما يتصل بالمصادر في معناها الواسع يحاول التهوين من شأنه، والمراوغة من خلال وضع ثقته المطلقة في هذه المصادر اللاحقة التي قامت بحفظ المصادر المتقدمة بطريقة معقولة وجديرة بالثقة، متجاهلاً -ربما- أن هذه الكتابات اللاحقة يمكن أن «تكون قد قدَّتْ وفصِّلت بطريقة قصدية» هذه المواد المتقدمة الأولى، وظل الاعتقاد قائماً أن «نواة ما حصل فعلاً» موجودة ويمكن العثور عليها من خلال غربلة وتمحيص هذه المواد اللاحقة.. ولكن هل كان هذا التغافل أمراً عابراً أم هل هو ضرورة منهجية يمليها عليه ذلك السياج التأويلي الذي حصر فيه نفسه وهو أن يؤمن ليفهم ويفهم ليؤمن؟ ولهذا السبب بالذات نفهم عداء جعيْط للاستشراق الجديد ممثلاً في أعمال وانزبرو وباتريسيا كراون ومايكل كوك صاحب الكتاب الأهم في نظري حول النبي (صلى الله عليه وسلم) وسيرته في العشريات الأخيرة وهو ما يقر به جعيْط نفسه. شرَك تاريخي لقد وقع جعيْط في ما وقعت فيه التيولوجيا التاريخيّة النقديّة الليبراليّة في القرن التاسع عشر من وَهْمِ إمكان العثور في التاريخ عن أساس للإيمان وأساس للتاريخ، وكان ذلك وهماً وخطأً تيولوجياً. لقد كان وهماً بالنظر إلى نتيجة 150 سنة من البحث التاريخي الضائع، وكان تعدد «البورتريهات» دليلاً على عبثية هذا المسعى، كما أن طبيعة المصادر التي توفَّر عليها هذا الفكر التاريخي اللاهوتي هي من حكم على هذا المسعى بالفشل، فهذه المصادر لم تكن لتلقي بالاً إلى حياة المسيح الحقيقية، أو الموضوعيّة، كما أنّها لم تكن لتلقي بالاً إلى شخصيته وحياته الداخلية والنفسيّة إذ كانت مسكونة بهاجس مخالف، فقد كتبت استجابة لدوافع وحاجات تيولوجيّة أساساً غير تاريخيّة، ولهذا فهي تحمل مشروعاً للبشارة ولعقيدة هي عقيدة الجماعة التي كتب فيها وبينها، وهذا هو الذي نبّه إليه بولتمان من خلال دراسته للأناجيل المتقابلة أو الإزائية. أن مشكلة جعيْط هي مشكلة كل المؤرخين الذين لمّا يجرؤوا بعد على طرح الأسئلة الحقيقية والجذرية على النص المؤسس، والذين ما يزالون يعتقدون، مداورة أو صراحة، في إمكان إنقاذ المصادر القديمة من أجل كتابة تاريخ لا يؤسس إلا لإيمان قائم على التاريخ، وهو مسار فاشل يشهد به كل من عرف وقرأ مسيرة رودلف بولتمان المؤرخ واللاهوتي والفيلسوف البروتستاني. أن ثلاثية جعيْط الممتعة لا يمكن أن تحجب عنا نحن المسلمين ضرورة أن نكف عن تأسيس الإيمان على التاريخ، وأن يكف جعيْط وأضرابُهُ عن تقديم إيمان مغلف بالتاريخ. وأولى خطوات هذا الطريق أن يساعد جعيْط العرب على التفريق بين التاريخ المموضع في معنى الـgeschichte والتاريخ في معنى Historie كما يفعل الألمان، الذين أدرك بروتستانيّوهم مبكراً عبثية هذا الطريق، وأن يدرك جعيْط وأضرابه أن كتابة سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) هي كتابة مستحيلة، كما تقول جاكلين شابي ومايكل كوك وغيرهما، وإن تراءت له من بعيد ممكنة {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً}. التاريخ المفهوم أراد هشام جعَيْط أن يقدّم ما يمكن تسميته بـ«التاريخ المفهوم» بمعنى تقديم مسار تاريخي قابل للفهم والتعقّل بالمعنى الفلسفي للكلمة. فالمقصود بالفهم الانفتاح على الفترة التاريخية موضوع الدراسة، وهنا يكمن - في رأيه - الحسّ الخاص بالمؤرخ المنفتح على الفترة بعيداً عن أهوائه الإيديولوجية لاستجلاء العناصر الفاعلة فيها، وهي تتحرك انطلاقاً من الأفكار السائدة في تلك الفترة ومعاييرها وقيمها وموازينها الخاصة، ولعلّه يستلهم في ذلك «تاريخ العقليات» كما نظّرت له «مدرسة الحوليات» و«التاريخ الجديد». اضطراب تتميز كتابات هشام جعَيْط بالموسوعية، وفي تضاعيفها يجد القارئ كل ما يمكن أن يحلم به باحث من الاطلاع الواسع على منتجات كبار المستشرقين الكلاسيكيين من ناحية، وكبار مؤرخي الأديان وفلسفة الدين، وكبار علماء الدراسات الكتابية اليهودية والمسيحية من ناحية ثانية، فهو يتحاور مع الجميع وينتقل بأريحية بين فلهاوزن ونولدكيه وبلاشير ومارسيا الياد وماكس فيبر ودوركهايم وغيرهم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©