الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكلمة والرصاصة.. أيهما أقوى؟

الكلمة والرصاصة.. أيهما أقوى؟
6 ديسمبر 2012
كما نتذكر اغتيال شاعر إسبانيا الكبير صاحب “عرس الدم” فيديركو جارثيا لوركا عام 1936، ومن قبله فيلسوف الحكمة اليوناني سقراط (469 ـ 399 ق. م.)، الذي تجرّع السّم راضيا من أجل أفكاره ومبادئه وأخلاقياته، ومن بعدهما المئات من المشتغلين في حقل الكلمة وصناعة الفكر والثقافة أمثال: ناجي العلي، غسان كنفاني، والروائي والقاص الأديب السوري إبراهيم خريط وآخرون، وجميعهم فقدوا حياتهم من أجل إعلاء شأن الكلمة والفكر الرفيع، وفي السياق نتذكر وببالغ الأسى والألم اغتيال الروائي والقاص السوري رئيس اتحاد الكتّاب العرب السّابق محمد رشيد عبدالله رويلي (1947 ـ 2012) في الثاني والعشرين من نوفمبر لهذا العام، وذلك بعد اختطافه بنحو شهرين. وثمة مفارقة في قضية اغتيال هذا المثقف العربي المتفرد، تمثلت في إلقاء جثته في فناء بناء مهجور. ولكن هل يختفي المبدع بمجرد اختفاء جسده؟ أو هكذا قال الرويلي في روايته “سورين”: “في عنفوان التشظّي يقضم الأديب أعزّ أحلامه، وأغلى أمانيه، يلمّ الفجر من ليل تناسل في الذاكرة ليعيد طلاء الفصول، ويمسح الوجه الذّاهل بحفنة من صبر جميل”. لقد انعكست هواجس الرجل في رواياته وأعماله، وربما تكون روايته “سورين” من منشورات اتحاد الكتاب العرب الأقرب الى روحه القلقة، والأكثر قربا من “جنون القهر” و”رقابة الخوف”، فهل كان يمتلك هاجسا لما سيحدث في بلده، وقد حدث، وسبق السيف العذل؟ بعد أن سبق حدسه صوت أزيز الطائرات ودوي القنابل، فنراه يسرد ذاكرته في مقدمة هذه الرواية ويقول: “وأنا أكتب هذه الرواية التي أرقتني، تراءت لي نوافذ الأحلام، وهي تستجدي صلاة الريح، ودعاء الركع السجود، والأرض محفورة بحوافر أحصنة القهر، تلتف عروقها حول أكوام من الصدأ، أو أكداس من العفونة (...) تراءت لي دموع اليتامى، وشهقات الأيامى، وندب الثكالى، والألم يعتصر القلب حتى حدود السقم، وتراءى لي من احتضن كومة تراب بكر، يشمّها بكبرياء، ويقبلها بإباء، ثم يذروها برفق على أجساد من رحلوا، لتنبت أزاهير الخلاص”. إرث ثقافي يشكّل اغتيال رويلي في ظروف غامضة ـ والذي جاء متزامنا مع اليوم العالمي لإفلات قتلة الصحفيين من العقاب ـ قضية بالغة الأهمية والخطورة، فعلى المستوى الفكري، فقد كان الفقيد وهو صاحب قلم ماض رفيع، فاعلا في الحراك الثقافي العربي، كما تميز ككاتب بإنتاج أعمال ذات صفة تنويرية تحريضية على خلاص الذات، كما انّه ترك وراءه إرثا ثقافيا مهما توزّع ما بين الكتب، والمؤلفات الأدبية والابداعية، ومجالات الرواية والقصة القصيرة، وبذلك خسرت الساحة الثقافية العربية مبدعا شكّل خلال حياته حلقة وصل بين المبدعين العرب من كتاب ومفكرين ومثقفين ورجال فكر، كما تبوأ منزلة مهمة في مجال الثقافة، والدفاع عن القضايا الجوهرية ذات الصلة بالشأن العربي والإنساني. وفي الجناح الثاني من هذه القضية، يلخص الرويلي برحيله على هذه الشاكلة المؤسسية حالة الظلم الاجتماعي والإنساني التي يتعرض لها الآلاف في المنطقة بسبب صراع دائر لا نعرف نهايته.. نتحدث عن “تسييس الثقافة” وبروز ظاهرة الخوف من الكلمة، ومن شكل الإبداع. وهنا السؤال يطرح نفسه: هل تستطيع مسرحية أو رواية أو قصيدة شعرية أو مقالة صحفية الإطاحة بالزعامة السياسية في أي بلد؟ هل هي صيحة جبران خليل جبران التي تتراءى لنا في العديد من أعمال رويلي: “ما هذه الحياة سوى بيدر أحزان، تدرس عليه أغمار النفوس قبل أن تعطي غلّتها، ولكن ويل للسنابل المتروكة خارج البيدر، لأن نمل الأرض يحملها، وطيور السماء تلتقطها”. عناوين ورؤى أصدر محمد رشيد عبدالله رويلي مجموعة من القصص القصيرة، تصدرتها “هدباء” 1984، “المعادة” 1992، “ليل الظهيرة” 1996، “الطريق الى الحلوى” 2007. وفي مجال الرواية صدرت له عدة أعمال منها: “الخلوج” 2003، “سورين” 2005، “عندما تسقط أوراق التوت” 2008. وترتوي معظم أحداث قصص الرويلي من أوجاع الوطن وأحزانه، ومن قضايا الناس ومشاعرهم وأحلامهم الذي لخصه بمفردات قوية في قصته الشهيرة “الوصية” (1998) التي تفوح منها رائحة موت كريهة وبنادق وقتلة بقوله: “سيمنعونك بالقوة يا كريم، لن يرحموك، فأنا أدرى الناس بهم، توقف أرجوك، صمت كريم وتوقف عندما برز رجل مسلّح اعترض طريق الجنازة وبقايا المشيعين، البندقية لامعة تعكس أطياف الغضب بهمجية فتنثرها شتائم مقذعة”. أما في رواياته التي ذكرناها فقد نجح رويلي في تقديم الجديد المعاصر في صيغ الخطاب، عندما ابتكر أساليب سردية تتوافق مع تطلعاته لبناء رواية جديدة مستقبلية تتمتع بروح الاصالة والمعاصرة وبنفس حداثي تستقي إدهاشها من بنية الفنون كالمسرح والسينما. خيانة المثقف قال عبد الله بن المقفع الذي قتله الخليفة المنصور بسبب ترجمته لكتاب كليلة ودمنة: “إنك لا تأمن أنفة السلطان، إن أنت أعملته، ولا تأمن غضبه، إن أنت كتمته، ولا تأمن عقابه إن أنت صدقته”. وفي السياق نستذكر ما قاله جبران خليل جبران ثانية: “تقضي الحكمة على الأعرج ألاّ يكسر على رأس عدوه”. من ذلك نعيد التساؤل: هل ثمة جريمة في الاختلاف بين المثقف والرقابة أو السلطة؟ هل يدخل المثقف المناطق الملغومة حينما يعبر من خلال إبداعه عن أحلام وطموحات رجل الشارع؟ هل المثقف العربي ما زال تحت طائلة المساءلة والملاحقة؟ نعم، هو كذلك، وهذه إشكالية عريقة في القدم على المستوى العربي على الأقل، فهل يستطيع أحد عبر عصور التاريخ العربي نسيان ما تعرّض له الفقيه والمفكر الكبير سعيد بن جبير من تعذيب وإهانة وقتل على يدي الحجاج بن يوسف الثقفي، كذلك هل يمكن أن ننسى قتل الإمام والمثقف أحمد بن نصر الخزاعي على يدي الخليفة العباسي الواثق، ولا ننسى الفيلسوف والمفكر إبن رشد الذي عذب وقتل ومن ثم حرق بأبشع الطرق. هي مجرد نماذج قديمة ذات صلة بنماذج الحاضر، حيث يتعرض المثقف العربي لكل العسف والظلم والتضييق والملاحقة من أجل كلمة، أو رأي، أو حوار، أو اجتهاد، ولكن القائمة ما زالت تطول يوما بعد يوم، واستهداف مبدعي الكلمة ما زال يتأجج في جميع أرجاء العالم الثالث، فمن يحمي مثل هؤلاء من التصفية الجسدية والملاحقة والاضطهاد؟ من يوقف اغتيال الحقيقة والكلمة؟ من يفتح التحقيق في قضية خيانة المثقف؟ ببلوغرافيا أدباء الفرات أنجز الرويلي مشروعا ثقافيا ما زال بمثابة المرجع لكل مهتم ودارس وباحث، وتمثل في منجزه كتاب “ببلوغرافيا أدباء الفرات” وشمل التعريف بـ 333 شخصية بين كاتب وقاص وروائي وشاعر وباحث ومفكر، وكان هذا المنجز الفريد من نوعه على مستوى سورية قاموسا يحيط بالتعريف بشخص كل مؤلف ومشاركاته الأدبية ونتاجه الابداعي الفذ يقدّمه عبر مسيرة حياته، موثقا ذلك بصور المجموعات الشعرية والفكرية والقصصية، وشهادات التقدير والجوائز التي حصل عليها كل مبدع.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©