السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بِكَ، أيُّها الشِّعر، أتَوَحَدُ بالكون

بِكَ، أيُّها الشِّعر، أتَوَحَدُ بالكون
23 مارس 2016 21:25
عبد العزيز جاسم بِكَ، أيُّها الشّعر، وفي مرآتكَ، أُصبحُ الكل، الجميع. أُصبحُ الأنا والآخر. أُصبحُ الكائنات والأشياء كلها. وبِكَ وبفضلكَ، بتُّ متوحداً مع الكون بأسره. E ينحاز الشّعر دوماً إلى المطلق، إلى كل ما هو مطلق؛ لأنه في الأصل والمآل مطلق بذاته. مثله بهذا مثل الحبّ، مثل البحر والسّماء والهواء، أو مثل كل شيء عظيم وجليل في هذا الكون. E لا أحد باستطاعته امتلاك الشّعر أو تَمَلكه، ومن قال عكس ذلك؛ فإمَّا أنه واهِم، أو مجنون، أو دَعِي، أو لم يفهم بعد معنى الشّعر في انفتاحه وشموله. E الشّعر في المطلق، كائن حرّ وأبي. لا تحدّه حدود، ولا تعرقله أسيجة أو قوانين أو أُطُر، ولا يقبل مطلقاً بأن يغلق فمه وتقفل عليه الأبواب والنوافذ، أو أن يعامل كسجينٍ أو كعبدٍ ذليل. فكل هذه العناصر المستعادة من معجم القمع والعصبيات والجهل والظلاميات؛ يرفضها الشّعر، يقوّضها، بل يحتقرها ويدمّرها، ويقفز حرّاً كالضوء خارجها. E هكذا مثلاً، أضاع الشّعر العربي من عمره، أكثر من نصف قرن وما يزال، في مجرد صراع أشكال شعريّة: موزون، أم تفعيلة، أم قصيدة نثر؟ أفضت للأسف، إلى الكثير من العداوات، والتخوينات، والتكفيرات، والتشاحن، والبغضاء، والإلغاء، والفتن، والحروب الخفية والمعلنة. وما علم هؤلاء الأخوة الأعداء، أن هذه الأشكال والقوالب الشّعريّة، ليست هي كل الشّعر ولا هي المعبّرة الوحيدة عنه، وأنها ليست أكثر من محطات صغيرة أو كبيرة، يجتازها قطار الشّعر بشكل طبيعي، وهو يقطع المسافات في إمبراطوريته المترامية الأطراف والمتمددة على وسع العالم. E فكم نحتاج من الوقت إذاً، كي نعمَّم السلام في أقاليم الشّعر العربي، ونؤمن بالتعددية الشّعريّة وبديمقراطية الشّعر، ونجتاز هوامشه الضحلة والمستهلكة، وندخل في لبَّه وجوهره، ونجدّد أنساقه وخلاياه المتصلبة والميتة، ونبعثه حرّاً وفاتناً من جديد. وكم نحتاج من الوقت أيضاً، كي نرتقي إلى قيم الشّعر الكبرى، ونسمو به، ونخلصه من أورامه وأمراضه المستعصية، ونعيده إلى مكانته في الحضارة الإنسانية؟ E إن أخطر ما يهدّد الشّعر العربي اليوم، هي تلك السلفيات والأصوليات المتأصلة والقاتلة التي تتعصب للأصول وتتعامى عن ما دونها، التي نجدها منتشرة في طروحات الكثير من الشعراء والنقاد وأنصاف الشعراء والنقاد العرب، والتي يُدَرَّسُ بعضها في المدارس والجامعات العربية، بلا رقابة ولا مراجعات نقدية وتحليلية كاشفة وفاضحة. E لنقُلْ وبصراحة: لدينا سلفيات مُتَخفّية وأصوليات حقيقية ومتطرفة، في محيط الشّعر العربي، وفي مدار الثقافة العربية ككل. E هكذا، والوضع على ما هو عليه، من استكانة وتراجع وزيف وتكرار وطبول فارغة وقلة إبداع؛ يبدو لي الشّعر العربي الآن، كما لو أنه انسحب من الحياة، ولم يعد لديه قضية جوهرية يؤمن بها ويدافع عنها ويشتغل على حلّها واجتيازها؛ ما دام متمسكاً ومهتماً بكل هذه القشور والترهات اللاَّشعريّة كلها. E بالنسبة لي، لا وجود لشِّعرٍ من دون نداءٍ يخصه، أو يخرج منه، أو يعود إليه، أو آخر يتجاوب معه. قَرُبَ هذا الآخر أو بَعُدَ، حتّى ولو كان هذا النداء يأتي من تطليعةِ تمثالٍ مهشم مثلاً، أو من ذكرى وردةٍ جافَةٍ بين دفتي كتاب. E إن الشّعر في العمق هو، نداء يتنادى مع سواه. مع صوته يتنادى، مع لغته، مع جوهرهِ، مع صوره، مع أطيافه، مع رائحته وألوانه وملمسه وصداه. وكذلك مع الخليقة، والموجودات، والأشياء، والكون برمته، يتنادى الشِّعر أيضاً. E عندما يطرح الشِّعر نفسه، بوصفه نداء يتنادى مع سواه، فإنه في العمق، يظهر باعتباره شعريّة تواصل كونية في الأصل والمآل، محملة بطاقةٍ جبّارةٍ ومحرِّرةٍ ومحرضةٍ على العبور والتبادل باستمرار، بين الحضارات والثقافات والأمكنة والأشياء والأزمنة. فبالشِّعر تنتقل العوالم، تسافر، تتحوّل، وتتغير، وبه أيضاً تولد كهرباء الروح وتضاء بالمصابيح أغوار العالم العميقة. E لا شيء يخرج من التحديقة المغناطّيسيّة الكبرى للشّعر، ولا شيء يستبعده الشّعر أو يشطبه أو يلغيه. فكل شيء في الوجود، الظاهر منه والخفي، الميت منه والحي، في شرعة الشّعر وملكوته؛ له الحق في الظهور والحضور والعيش في عدة حيوات أخرى. E لأن الشّعر ليس إرهابياً، ولا جلاّداً، ولا قاضياً، ولا ضارب أعناق وداعس جماجم. فهو لا يميت، ولا يقتل، ولا يصدر أحكام إعدام، على أي شيء في الوجود. E لعبة الشّعر هي الحياة، وخلق العالم، وابتعاث ما هو ميت ومنسي ومجهول في أوجار الأصول، وإعادته إلى الحياة من جديد. E إن اللحظة الكبرى للشّعر، لزمنه الخاص به، هو الحاضر؛ الحاضر الأبدي أو الآن الأبدي، أقصد. وهذا هو أيضاً، زمن القصيدة. E لهذا لا يعترف الشّعر بالنهايات؛ إذْ ما من نهايات توجد في الشّعر. وإنما على العكس من ذلك تماماً، توجد بدايات دائمة. فكل شيء تقع عليه يد الشّعر وعين الشاعر، يتحوّل فجأة إلى شيء آخر، مختلف، جديد، وكأنه ولد للتّو. E ولكن، ماذا بشأن القصيدة؟ القصيدة، بالنسبة لي، هي أشبه بغرفة معقَّمة، صُفيَت من حشوها وزوائدها، وطُهِرَت من جراثيمها وغبارها، وها هي تُقدم – بعدما رويت بالقلق والدموع والأعصاب والأحاسيس والحدوس والفكر والخيال – على طبق من ذهب. لأنها في الأساس هي زمن نموذجي، زمن شعري بامتياز، مكتمل البناء والمعنى، وقد يتصل بغيره بطرق مختلفة، وقد يعكس لحظات أخرى؛ ولكنه لا يذوب في أي واحدة منهما ولا يفقد زمنه الخاص به مطلقاً. E والقصيدة أيضاً، هي أشبه بفضاء برزخي، صَدَفي الطبيعة وله هيئة المحارة المغلقة. يتغذى الكائن اللؤلؤي الذي يوجد في داخلها من نفسه، ولا يعير اهتماماً لما يحدث خارجه. لأنه قد تشكل أصلاً، خارج كل ما هو ظاهر، وخارج كل ما لا يمت له بصلة. ففي العزلة أزهر، وفي العزلة أضاء وتجوهر. ** القصيدة إذاً، إذا كانت هي بنت الحياة. بنت الوجود. بنت التاريخ والأساطير. بنت الأفلاك والأوابد. بنت الناس والجمادات. بنت الصّمت والروائح والألوان. بنت التراتيل والأناشيد والآلام. بنت الغضب والموت والحب والاغتراب؛ وهي درَّتهم المكنونة الأشف والأعمق والأبهى، التي يقرؤونها في الفصول الأربعة ويحفظونها في الصدور. فإنها أيضاً هي شيء آخر غير ذلك تماماً! فهي بنت الكلمات المتآلفة والمخصبة. بنت السرد. بنت الصور. بنت التراكيب والمعمار. بنت الأسرار، والدهشة، واللعب، واستنطاق ما لا يُستنطق. E هكذا يقوم الشّعر، وعبر القصيدة وعين الشاعر وروحه، وعبر توغل الشعر في الفنون الأخرى؛ باستضافة العالم في أراضيه المترامية الأطراف. فهو يستضيف الحياة بتنوعها وتعددها وتعقيداتها ودرامياتها؛ كما يستضيف العالّم برمته: بأنسهِ، وشياطينه، وقتلته، وموتاه، ومجانينه، وحيواناته، ونباتاته، وعناصره، وأزمانه، وأمكنته، وحروبه، وشاعريته. يستضيفهم، من دون أن يتأفف أو يضجر من وجودهم. لأنه ببساطة يستضيفهم، من أجل أن يشاهدوا أنفسهم في مرآته العظيمة، مرآة الشّعر التي تكشف وتفضح وتعري كل شيء. لأن مرآة الشّعر، تذيب الشمع من على الوجوه وتنير المخفي والضائع والمرمي في الظلام. وهكذا بالضبط، تفعل القصيدة الجوهرة، القصيدة الحقيقية. E أمَّا الشاعر، الشاعر الحقيقي، أخونا في المحنة والنعمة، ومهما قيل عنه أو قللوا من شأنه أو أخفوه بين الطيّات؛ فإنه سيظل هو من يكسر الحواجز، ويجتاز الحدود، ويعبر التواريخ والأكوان والعوالم، ويأتي بالجديد والمفارق والخارق، ويكتشف القصيدة المرمية في الشوارع والأصقاع، ويتقدم مدهوشاً وفرحاً نحو أبدية العالم. لا ليمكث فيها، بل ليستكشف جغرافيتها وعوالم العدم والخراب التي تغلفها، ويفضحها. E والشاعر إذْ يفعل كل هذا، فإنه يستنطق العالم بحِلْوِه ومُرِّه، بدماره وأفراحه، بظلامه وأنواره، بتفاصيله ويومياته وكليته، ويؤنسن كلّ شيءٍ فيه. بل إنكَ تراه في التجارب العليا، يمدّ جسوره إلى تُخوم المطلق والمجهول والمنسي، الظاهر منه والباطن معاً، ويحاول أن يعكس بكلماته وشاعريتهِ ورؤاه وخياله، خفايا هذا الكون المستغلق والمنذور في الغالب للكارثة، ويجعله حاضراً وقريباً من الإنسان، ويعطيه معنىً ووجوداً إنسانياً جديداً، في كل مرة. E نعم، سيظل الشاعر هو من يُرينا الطريق الغائب والخفي، وهو المنوط بحرّيتنا وإنسانيتنا، أكثر من غيره.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©