الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قصائد الزنزانة المتنقلة

قصائد الزنزانة المتنقلة
6 ديسمبر 2012
صدرت مؤخراً عن دار (نون) الإماراتية في رأس الخيمة، مجموعة “ساعي بريد الغرقى” للشاعر العراقي المقيم في السويد كريم راهي، محملةً بأربعة وأربعين نصاً شعريّاً، لتكون أول إصدار شعري مطبوع له بعد رحلة تزيد على الخمسة وثلاثين عاماً مع الشعر، لذا حملت نصوصها خصوصية مُشبعة بإرث المكان والذاكرة القصيين. فقد تجسّدت شخوص أصدقائه المغيبين وحضرت ذاكرة المعتقل السياسي وكذلك ذاكرة الحروب التي لا تقل مأساةً عنه، وبدت المجموعة وكأنها استحضار للذاكرة وإعادة للتمعن فيها بعد سنواتٍ طويلة من تراكمها، لتتشكل في منجز شعري ذي خصوصية شديدة. ورغم مجازها المكثف العالي والمشغول بتقنية الشاعر المتمكن من أدواته الشعرية، فقد رسمت صوراً فائقة الدقة منحازة للواقعية وبدت النصوص في مجملها ذات وجدانية واضحة. المجموعة التي جاءت في 104 صفحات من القطع المتوسط، كُتبت أغلبُ نصوصها في العاصمة السويدية ستوكهولم في الفترة ما بين2009 و2011. هيّأت النصوص الأولى في المجموعة مدخلاً لعوالمها الأساس: الحب، الحرب والسجن، فمن افتتاحيتها التي كانت مقطعاً من أغنية مشهورة للشاعر والمغني الكندي (ليونارد كوهين)، والتي بدا أن لعنوانها علاقة خاصة بحياة الشاعر ألحَّ على استحضارها في أولى الصفحات، ثم نص الإهداء إلى (محمد راهي)، شقيق الشاعر الذي فُقد في الحرب العراقية الإيرانية سنة 1986 والذي لا يريد الشاعر فيه أن يصدّق سكوت قلبه لأنه لم يعثر له على جثة: “لقد نال قلبك الزمن/ قلبك الرائي الذي/ بلغ أوجَ حطامه/ وتباعد ما بين دقاته”. ثم نص “خلاصة القول” المُهدى أيضاً إلى (نوري أبو رغيف) رفيقه في الزنزانة. لتأتي بعدها نصوص الحب والحب المضاع والكوابيس التي أصرّ الشاعر على تدوينها للخلاص من أثقالها. يؤرخ كريم راهي لمفاصل هامة في حياته بإيجاز شعري مكثف، رحلة حياة مع التشرد والتخفّي والمعتقلات السياسية التي قضى فيها سنوات مريرة ثمّ تجارب أخرى مؤلمة في الحرب القسرية التي اقتيد إليها كأبناء جيله بالسياط ونجا منها بأعجوبة، تلك التجارب التي حملها معه كريم راهي إلى منفاه في السويد ليعيد إنتاجها شعرياً بعد جرعةٍ صافية من الهواء كانت تكفيه لأن يكتب عن الألم بروح متطامنة وبتصالح شديد مع الذات. المرأة، المرارة، الحرب، السجن، الفقدان، النفي داخل الوطن وخارجه والخسارات في الحب، هي عناصر استند عليها الشاعر في بناء نصوصه الشعرية التي ترجمت حصيلة ذاكرته، لكن بالرغم من ذلك فقد بقيت هنالك عذوبة شعرية في النصوص الشعرية القصيرة منها والمطولة التي قدمها الشاعر لقارئه كرسائل من المغيّبين، المشار اليهم بالغرقى، الذين شاركوه حياته يوماً وكان هو الشاهد والناجي الوحيد من بينهم الذي حمل أمانة رسائلهم لمن سيقرؤونها، بخصوصية مميزة في لغته ومجازه وصوره الشعرية. وفي قصيدة “مثل العابر ومحنته” يحاكي الشاعر فصل الشتاء بكل ركوده الانساني، وحتى صياد الاشباح في ذلك الفصل يجعل منه خائرُ القوى، الى أن يوصلنا الشاعر الى مصباح الظلام والنوم على ضياءه الكابي. ومن ثم تبدأ الثلوج بالذوبان في الحقول عاماً بعد آخر الى أن تهرم المرأة الماثلة في القصيدة ويتكاثر الرماد في الموقد أو المجمرة التي اطلق عليها الشاعر كقوله “في الضوء الكابي تنام/ وهكذا، يذوب ثلج الحقول، عاماً فعاماً والمرأة تهرم/ وفي المجرمة يتكاثر الرماد”. وفي قصيدة “الحروب التي لا طائل من ورائها” يستشهد الشاعر بعصور الجليد مروراً بامبراطوريات جزر الأوقيانوس وحروب النفط ومستشهداً بيوكيو ميشيما وغيره، ليصل الى نتيجة بأن كل الحروب لا يجنى منها سوى الرماد الذي تخلفه بعد نهايتها: “والآن كل زهرة في الصباح/ كل اغنية أو كوب قهوة، حصانةٌ وسلاح/ الأوركيد رهان ضد الحروب”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©