الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أدب الزنوجة: الصوت يخترق جدار السوْط!

أدب الزنوجة: الصوت يخترق جدار السوْط!
31 ديسمبر 2015 19:04

 يكاد الأدب الأفريقي يكون هو الغائب الأكبر عن مجال اهتمام الصحافة الثقافية العربية، وذلك لأسباب متعلقة بالكسوف الإعلامي الأفريقي، وحاجز اللغة على الرغم من قرب الجوار الجغرافي، زيادة على قوة انشداد وانجذاب العقل العربي المعاصر عادةً لكل ما له صلة بثقافة «المركز» الغربي الميتروبوليتي مقابل التهميش المُر وقلب ظهر المِجن لـ«الهوامش» في دول العالم النامي بالقارتين الأفريقية والآسيوية، على الرغم من قوة صِلتها التاريخية والثقافية بمجتمعاتنا العربية.

على أن غياب، أو بالأحرى تغييب الأدب الأفريقي ليس أيضاً حالة عربية خاصة، وإنما ظل لفترة مديدة حالة عالمية عامة، وهذا ما أدى إلى اكتساء كثير من الأصوات الأدبية الأفريقية نبرة الحدة والشدة، في رفع العقيرة بالمظالم الإنسانية والثقافية، وحتى الإعلامية، نتيجة ما تعرضت له الإبداعات، ومن ورائها الذات الأفريقية، من تهميش وتهشيم مزمِنين، في الواقع وفي فضاءات تمثـُّـل هذا الواقع الثقافية والرمزية. وتكاد الصورة المحجوزة في الأذهان عادة لكل ما له صلة بالقارة السمراء تختزل في حزمة من الصور النمطية السلبية، تستدعي رأساً مشاهد الفقر وكوابيس الظلم والمجاعة والحروب العبثية، وتشوُّش وتشوُّه الذات والهوية الثقافية والتاريخية.

وفي مقابل هذه الصور النمطية المستمدة من أعباء الماضي المؤرق، وارتباكات الحاضر القلق، تقف أيضاً صور أخرى، ثاوية في المخيال الثقافي الأفريقي نفسه، كما رسمته بأدب، ودأب، أصوات أفريقية زنجية مبدعة، شقت طريقها بصعوبة لوصف مرارات الماضي، ومعانَقة أشواق الحاضر، واستشراف تطلعات المستقبل.. ولئن كان بعض هذه الأصوات الأدبية الأفريقية المبدعة التي سنتحدث عنها هنا، معروفاً إلى حدما عند القارئ العربي، فإن بعضاً آخر يبدو أقل حظاً من الشهرة والحضور في فضاء التداول الإعلامي. وفي هذا العرض التجميعي الاستطلاعي سنحاول، قدر الإمكان، تدارك طرف من «غياب» أدب وثقافة القارة السمراء عربياً، وهو «غياب»، ننطلق منه كفرضية عمل، هي التي دفعتنا أصلاً إلى أن نجلب «تمراً إلى هجْر» قارئ عربي نحسن الظن به وبملَكاته على كل حال. وغني عن البيان أن إعادة تجذير وتأسيس معرفتنا وإعادة اكتشافنا كعرب لأفريقيا وعوالمها وفضائها الثقافي باتت ضرورة ثقافية، لكون هذه القارة عمقاً حضارياً وثقافياً لشعوبنا العربية، وامتداداً لمعتنقي ديننا الإسلامي الحنيف.

وفوق ذلك فثلثا العرب أفارقة، وثلث الأفارقة عرب، وثلثاهم -تقريباً- مسلمون. ومن ثمّ فإن سماع ما تقوله القارة عن نفسها، واسْتِكْنَاهَ وجدانها، والحفر في بنية ملفوظها ومونولوجها الداخلي، وقراءة النصوص المؤسِّسة في مدونتها الثقافية والأدبية، كل ذلك يبدو شرطاً ضروريّاً، وإجرائياً، لفهم تطلعات شعوبها، لأهمية كل ذلك في سبيل تعميق أبعاد التواشج الوجداني والتعاطف الرمزي بين العرب والأفارقة. وفي هذه القراءة سأتحدث أولاً عن تيار أدب الزنوجة، الذي اخترتُ استدعاء اسمه في العنوان، كـ«ثيمة»، واستراتيجية تسمية وعتبة عنْونة، تروم تكثيف وتوظيف الدلالة الإيتيمولية والخامة السيميولوجية الثاويتين خلف هذا المفهوم، وليس للدلالة على حصر المعنى، أو الوقوع في فخ ابتذال المحتوى والاختزال. وبعد ذلك سأشير، استطراداً إلى تحولات الوعي بالهوية والذات الأفريقية بعد -وأحياناً ضد- تيار أدب الزنوجة، وصولاً لاستعراض موسّع لأنطولوجيا فن السرد الأفريقي بمختلف اللغات المحلية والأجنبية، وصولاً إلى مآلات هذا الوعي بالذات في مواجهة التغريب.

أدب الزنوجة.. بداية أُدلوجة

تطلق تسمية أدب الزنوجة La négritude على تيار أدبي وإيديولوجي، ظهر في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، خلال النصف الأول من القرن العشرين، وإن كانت بداياته وجذوره النظرية سابقة على ذلك، وخاصة ما نشأ منها في جزر الأنتيل والكاريبي، وأميركا.

وقد أخذ هذا التيار زخماً أدبياً وعالمياً أكبر لدى بعض الكُتاب السود الناطقين بالفرنسية، مثل «إيميه سيزير» الشاعر المارتينيكي، وليوبولد سيدار سنغور الشاعر والرئيس السنغالي الأسبق، مع أدباء آخرين كثر مثل ليون- غونتران داماس، وغيْ تروليين، وبيراجو ديوب، ورينيه ديبستر.. الخ.

وقد ظهر أدب الزنوجة في البداية كنوع من صرخة الهوية وشقاء الوعي بالذات والمعاناة التي تكبدها الإنسان الأسود عبر القرون. ثم تحول، تالياً، إلى اتجاه مندرج ضمن اتجاهات ما بعد الكولونيالية، وخاصة مع تنامي حركات التحرر من الاستعمار في القارة السمراء ومنطقة الكاريبي.

وهذه المنطقة الأخيرة تحديداً كانت هي مهد التيار الأدبي الزنجي المسكون بالحنين للعودة إلى أفريقيا، التي اقتلع منها الملايين، وهجّروا إلى ما كان يسمى «جزر الهند الغربية» في الأميركتين، وكابدوا أهوال تجارة الرقيق، والاستعباد في مزارع قصب السكر وغير ذلك من أهوال وصنوف معاناة ظل زنوج المنفى هناك يجترون مراراتها ويتجرعون عذاباتها عبر الأجيال، ويعبرون عنها في حنينهم لأفريقيا، الوطن الأم، بفنونهم الطافحة بشِعرية المنفى وطقوس العبور من وإلى أرض «الجذور»، على نحو ما عبر عن ذلك بمرارة وحرارة فيلم «كونتا كونتي» الشهير! وفي مرحلة تالية وقع تيار أدب الزنوجة تحت تأثير محسوس من أدبيات وديباجات التيار القومي الأسود، في أميركا بصفة خاصة، وهو التيار الذي ما زلنا نرى حتى اليوم بعض تمظهراته في أدبيات حركة «لويس فركان» وغيرها من حركات السود الأميركيين.

وفي المجمل، إذا تتبعنا الجذور الجيناليوجية لمفهوم الزنوجة نفسه كمصطلح و«ثيمة» نجد المظالم الدفينة الحزينة التي ما فتئ الإنسان الأسود يستشعرها على امتداد ظلام القرون، ومرارة الصور النمطية التي تم اختزال الإنسان الأسود فيها عبر التاريخ، وفق تحيُّزات ذهنية وعرقية، ظل الشعور بها يزيد أو يقل بحسب ما يكون عليه المجتمع أو الإنسان- الآخر من حضارة أو استنارة.

وقد اعتبر الآباء المؤسسون لأدب الزنوجة أن الوعي بالذات الأفريقية الزنجية والاعتراف بخصوصيتها، وتفردها، هو أول شرط لإعادة الاعتبار لأبناء القارة، ورفع مظالم التاريخ وأعباء الذاكرة عنهم، ولذا فالمطلوب أولاً من الزنجي هو أن يعترف بزنجيته، وبأنها شيء آخر غير الصور النمطية والكليشيهات السلبية التي يحاول الرجل الأبيض اختزاله فيها.

وهذا ما يعبر عنه ببلاغة وشاعرية «إيميه سيزير»، وهو من أبرز الآباء المؤسسين لتيار أدب الزنوجة، إن لم يكن هو مؤسسه حصراً، حيث يُنشد في «دفاتر عودة للوطن الأم» مردداً: «زنوجتي ليست صخرة صماء صمَمها اندفاع عكس صخب اليوم.. زنوجتي ليست وسادة ماءٍ راكدٍ مندفع ضد جعجعة اليوم.. زنوجتي ليست وسادة ماء راكد في عين الأرض الميتة.. ليست زنوجتي لا برجاً ولا كاتيدرائية إنها ترتمي في الإِهاب الأحمر للأرض ترتمي في إهاب السماء المتوهّج تخترق الكآبة المعتـّـمة لنسغ الأرض القاني».

وهذا التمثل الشعري لمعنى الزنوجة، نجد صدى له لا يقل شعرية أيضاً، في قصيدة للشاعر -والرئيس السنغالي الأسبق- ليوبولد سيدار سنغور، وهو المؤسس الآخر لتيار أدب الزنوجة، حيث يهمس في أذن الصمت والوقت: زنوجتي، في نظري، ليست سباتاً للعِرق وإنما شمس للروح زنوجتي بصيرة وحياة زنوجتي مجرفة في اليد تلُوح في الكفّ كالصولجان. ولكن هل يفهم الآخر، الرجل الأبيض، حقيقة هذه الزنوجة، من حيث هي ذات، وهوية، وهوى، ومجاز، ومزاج، ووعي بالوجود، وثورة على كل القيود والحدود؟ يجيب سنغور، في عمله «بورتريه»: إنه لا يدري بعد معنى عناد ضغينتي المشحونة بأنسام الشتاء ولا مدى إلحاح زنوجتي المستبدّة بجُمّاع المشاعر والوجدان! بل لا يفهم الرجل الأبيض وهو يهيل ويكيل، كيفما اتفق، الصورَ النمطية السلبية، بل السالبة للإنسانية، لأخيه الأسود، حقيقة الفرق بينهما حقاً، ولذا يسأله سنغور في قصيدة شهيرة بعنوان «عزيزي أخي الأبيض»: عندما ولدتُ، كنتُ أسودَ وعندما كبرتُ، كنتُ أسود ­وتحت لفح الشمس، أظل أسود وعندما أكون مريضاً، أبقى أسود ويوم أموتُ، سأبقى أسود *** أمّا أنت، أيها الرجل الأبيض فعندما ولِدتَ، كنتَ وردياً وحين كبرتَ، صرتَ أبيض وتحت لفح الشمس والحَرِّ، تصيرُ أحمر وإذ يدثرُك البرد والقرُّ، تصبح أزرق وإنْ دهمكَ الخوف، تلوّنتَ أخضر وحين تصير مريضاً، يميل لونك أصفر ويوم تموت، تذوي رماديَّ اللون *** فقلْ لي، أنا وأنت، إذن أيُّنا الحرباء، وأيُّنا الرجل المتلوّن؟

وقد سعى تيار أدب الزنوجة إلى إعادة انبعاث وانعتاق وانطلاق وعي الإنسان الأفريقي بذاته من خلال عملية نقد مزدوج تدفع عن الذات الأفريقية بعض ما علِق، أو عُلِّق بها من كليشيهات جائرة، وفي الوقت نفسه تروم أيضاً تفكيك أوهام التحيزات الذهنية الغربية وأوهام التمركز حول الذات Egocentrisme، التي هي أصل وفصل كل عنصرية أوروبية ضد السود. وهكذا عمل تيار الزنوجة على تجاوز كافة أشكال التبسيط والتنميط والابتذال والاختزال والاستلاب والاستيعاب Assimilation السابقة سواءً المفروض منها من طرف الآخر أو المرفوض المعشش لدى القبيلة والمنظومة الإفريقية التقليدية ذاتها، وعن ذلك يقول «إيميه سيزير» في غمرات حِجاجه، في عمله «الطالب الأسود»: «تدير الشبيبة السوداء ظهرها للقبيلة، وللعجائز. تقول عشيرة العجائز: هضم الحقوق. نقول: الانبعاث.. ما الذي تريده الشبيبة السوداء؟ الحياة. ولكن لكي نحيا حقاً، يجب أن نبقى كما نحن. الشبان الزنوج اليوم لا يريدون لا استعباداً، ولا هضم حقوق، يريدون الانعتاق».

الزنوجة.. من الأدب إلى السياسة

وفي مرحلة تالية وقع تيار أدب الزنوجة تحت تأثير محسوس من أدبيات وديباجات التيار القومي الأسود، في أميركا بصفة خاصة، وبدأ ينزع إلى استبطان متنٍ إيديولوجي متعاظم وسياسي متفاقم. وقد بلغت مقولات القومية الزنجية، على الرغم من اختلاف الأعراق والثقافات السوداء ذاتها، الذروة، مع عهود الاستقلالات في القارة السمراء، وظلت تـُـلهم وجدان الأجيال اللاحقة في النصف الثاني من القرن الماضي. وفي هذه المعمعة قدّم تيار الزنوجة نفسه باعتباره الطليعة «النضالية» الحاملة لمشعل النزعة القومية، ولم يعد مجرد نزعة شعرية أو تقليعة أدبية، بل صار أدلُوجة سياسية، لا تعدم حتى اليوم من ينافح و«يناضل» في سبيل تجسيدها، بالرغم من استعصاءات الواقع، وأعباء الماضي، وأحلامه ووعوده المنكوثة، وأيمانه الغلاظ المحنوثة. وفي هذا الطور واجه المثقف الأفريقي بارتباك -هل أقول: مثل المثقف العربي؟- أسئلة الفصام النكد بين الأصالة والمعاصرة، والتراث والاستحداث، والتقليد والتجديد، ونكَص كثيرون إلى الخلف واستبطنوا أسلوباً رواقياً -نسبة للمدرسة الرواقية اليونانية- هروبياً إلى تمجيد الماضي بدلاً من رفع تحديات الحاضر، والاستجابة لنداءات المستقبل. وهكذا راجت الأساطير المضادة في كتابة تاريخ مضاد مُشرق لثقافة القارة ومنجَز شعوبها. ومفهومٌ أن الأساطير ليست حلاً، حتى لو كانت عادة هي ملح التاريخ! ولكن كما يقول تزيفيتان تدوروف -بنباهة-في عمله «فتح أميركا» فقيمة الحقيقة والأسطورة متساوية حين تجد الأساطير مَن يصدقها. وقد صدّقها أفارقة كثيرون وهم يدورون في دوامة «مدارات حزينة» -إن كان لنا استدعاء كتاب كلود ليفي شتراوس في هذا المقام- لمركزية ذاتية مضادة، وبنبرة مناقبية عجائبية، وهم يعيدون كتابة تاريخ الثقافة والحضارة السوداء.

الزنوج.. وبناء الأهرامات

وفي سياق إعادة كتابة تاريخ الذات الأفريقية، بأثر رجعي -بالمعنى الزمني على الأقل- راح بعض كبار المثقفين الزنوج يعيدون نسبة بعض أكبر إنجازات البشرية في تاريخها الحديث والقديم، إلى أصول زنجية، مزعومة أو موهومة، كنسبة اكتشاف أميركا، وبناء الأهرامات لأفارقة زنوج، وكون الحضارة المصرية تجسد تمثلاً من تمثلات عبقرية حضارة الإنسان الأسود القديم. ولعل من أشهر من تبنى هذا الطرح المفكر وعالم المصريات Égyptologue السنغالي الشهير «شيخ أنتا ديوب» (1923- 1986) وقد دافع بحماس عن هذا الطرح في «الأصول الزنجية للحضارة المصرية»، كما نظّر أيضاً بعمق لمقومات الذات والقومية الأفريقية، في بعض أعماله، وخاصة كتابيه المهمين «الأصل الأفريقي للحضرة.. أسطورة أم حقيقة؟»، و«الحضارة أو الهمجية.. الأنثروبولوجيا دون مداهنة»، وكذلك في كتاب «الأمة السوداء والثقافة»، الذي وصفه «إيميه سيزير» في «خطاب حول الكولونيالية» بأنه أعظم عمل كتبه مؤلف أسود. كما وصفه «تيوفيل أوبانغا» المؤرخ واللساني وعالم المصريات الكونجولي بأنه «أهم عمل كتب حتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين عن الثقافة الأفريقية السوداء، بعيداً عن الأطر التي تقدمها فيها المدونات العربية والأوروبية، في تأريخها لهذه الثقافة».

«النمُورة» والزنوجة.. السرد ضد الشعر! وكما يمكن أن نتوقع، فقد تعرّض تيار أدب الزنوجة هذا لنقد شديد من طرف بعض الكُتاب والمثقفين الزنوج، لعل من أبرزهم «وول سوينكا» الأديب النيجيري الحائز على جائزة نوبل، وقد انطلق في نقده من مقولة جوهرية، وبديهية، هي أن الإنسان لا يمكن أن يعرِّف هويته، على أساس لون بشرته. فمثلما أن النمْر لا يعرّف عادة بالخطوط المرتسمة على جلده، لأنها ليست هي التي تجعله نمراً أو يكتسب منها «نمُورته» Tigritude فكذلك لا يمكن تعريف الإنسان الأفريقي بلون بشرته فحسب، لأن لغاته وثقافاته وتمثلاته للعالم مختلفة من شعب لآخر، ومن بلد إلى آخر. وبصفة عامة فقد حرص كثير من الروائيين الزنوج خاصة على السير عكس تيار أدب الزنوجة الذي غلب عليه ابتداءً الشعراء كـ«سيزير» و«سنغور»، على نحو بدا معه اختلاف الموقف بين التيارين، مع عدم طرد متن الديباجات نفسها، كما لو كان متأسساً على اختلاف فقط في التمثـُّـل واستراتيجية التسمية، أو كافتراق طريق بين السرد والشعر، وليس اختلافاً جيلياً، أو حتى شخصياً، كما توهم بعض المتوهمين. وفي كلتا الحالتين يعود المكبُوت في ثنايا وطوايا المكتوب، إذ مع غلبة مناوأة تيار الزنوجة لدى بعض الروائيين الأفارقة، إلا أن ذلك لم يمنع أيضاً أعمالهم من طرح المسألة الزنجية من زاوية الوعي بالذات وقلق الهوية، والضرب بقوة ومرارة على أبواب الحرية لشعوب القارة في مرحلة الاستعمار، وكشف ووصف أوجاع المجتمع المحلي الأفريقي ما بعد الاستقلال بكل ما فيه من تخلف وجهل وفساد ومظالم اجتماعية وتفكك أخلاقي وقيمي واحتقان سياسي وحروب سيزيفية عبثية، ليس لها أول ولا آخر. فمثلاً نجد هذا الطرح في أعمال النيجيري «تشينو آتشيبي» ابتداءً من أولها «الأشياء تتداعى» 1958، وحتى «لم تعد هناك راحة»1960، و«رجل الشعب» وغيرها، وكلها تقارب الهوية وتسعى لاستعادة ماضي أفريقيا المجيد، وتحلم بغد آتٍ قريب تتحقق فيه قيم الخير، وينتفي الظلم والبؤس. وكذلك «الأشياء تتداعى» التي اقتبس عنوانها من الشاعر الأيرلندي «وليم ياتس»، تدور هي أيضاً حول تجربة الكفاح من أجل ترسيخ الذات الزنجية التي يمثلها بطلها «أوكونكو» وقريته وشعب «الإيبو» الأفريقي الذي ينتمي إليه البطل، وينتمي إليه «آتشيبي»نفسه. ونجد مثل هذا النزوع أيضاً لدى الأديب الأوغندي «إنجوبي واثيونجو» في روايته الأولى «لا تبْكِ أيها الطفل» 1964، ثم «النهر الذي بيننا» 1965، و«حبة القمح» 1967، وصولاً إلى «بتلات الدم» 1977 و«شيطان على الصليب» 1982، وأخيراً «ماتيجاري» 1989، حيث يطرح المسائل نفسها المتعلقة بالهوية والذات الأفريقية، ومكانة الإنسان الزنجي في العالم، وإن كان هذا الطرح يتدثر أحياناً في سديم من التفصيل الكثير، متدفقاً كشلال آسرٍ من الزهور.

السرد.. ديوان الأفارقة!

لاشك أن مقاربة السرديات وقراءة الأدب الروائي تحديداً يتيحان مدخلاً إجرائياً لفهم الأنطلوجيا الذهنية و«الشخصية الأدبية العامة»، إن جاز التعبير، في الحالة الأفريقية، لأن فنون السرد بالذات تقدم تسجيلاً جيداً لماضي شعوب القارة وتطلعات أدبائها في نبشهم المحموم لثنايا وحنايا الذاكرة الزنجية الجريحة، وفي وقفاتهم الحالمة أيضاً على شرفة المستقبل. ولئن كان حصر كل إبداعات المدونة السردية الأفريقية غير ممكن عملياً، فلا أقل من استقراء تجميعي ناقص، أكون فيه وفياً للمقولة الشهيرة «ما لا يدرك كله، لا يترك جله»! فأكتفي من الجمع بنماذج أعرضها من خلال ذكر أسماء وعناوين، وملامح وقبسات عامة سريعة تضع القارئ، في أجواء أدب الرواية الأفريقي، مع إشارات خاطفة إلى ملامحه العامة، ومشتركاته السردية. وأحسب أن عدم التعرض في هذه المحاولة لكل ما له علاقة بالرواية وفنون السرد في أفريقيا الشمالية العربية، سيكون متفهَّماً، ليس على أنه «نقص» في أفريقية شمال القارة، وإنما هو لأسباب إجرائية، ثقافية لغوية، كون هذه القراءة خاصة بأدب أفريقيا جنوب الصحراء، ولأن القارئ العربي أيضاً يعرف تقريباً كل ما كُتب في فضائه الثقافي الكبير.

غابة السرد.. بكل اللغات

لا يخفي واقع التشرذم اللغوي، والثقافي استطراداً، الذي ترزح تحت وطته الحالة الثقافية والأدبية الأفريقية المعاصرة، وهو ما يفرض عند الحديث عن الأدب الأفريقي الانتقال من فضاء ثقافي ولغوي إلى آخر، مع ما قد يكون في هذه العملية من إرباك ذهني ومفهومي وثقافي مرتبط باختلاف العادات الثقافية والتفكيرية وطرائق التسمية والإيقاع بين لغة وأخرى. فثمة اليوم أفريقيا الفرانكوفونية، وأفريقيا الأنجلوفونية، والبرتغالية، هذا فضلاً عن الأدب المكتوب باللغات الأفريقية المحكية المحلية، وأدب كُتاب المنافي والدياسبورا السوداء في مختلف أصقاع العالم. ولكل واحد من هذه الفضاءات الثقافية والأدبية الأفريقية إسهاماته بلغته التي استبطنها وتبناها ثقافياً، أو تبنته هي، منذ عهد الاستعمار السابق، وحتى اليوم. وسأعرض لكُتاب السرد الأفارقة وفق هذا التصنيف الكلاسيكي، وربما السكولائي، إلى حدما، لأسباب إجرائية مفهومة، بما يغني عن الاستطراد.

- السرد.. بلغة الأجداد

لم تكن فنون السرد الروائي معروفة في القارة السمراء قبل ظهور الرجل الأبيض على سواحلها مع بداية عهد الكشوف ثم الاستعمار، إلا أن تقاليد الثقافة الشفهية الأفريقية كانت غنية بالحكايات والسيَر والملاحم والأساطير التي تخلد التجارب والأبطال والانتصارات والانكسارات، وكان الشعراء الشعبيون الجوالون Les griots يتولون إنشاء وإنشاد تلك الملاحم، وتناقلها من جيل لآخر. كما كانت أنواع الملفوظ الأدبي الأخرى من شعر وخطابة وحِكم وأمثال ذائعة شائعة، بل كانت هي ملح الكلام، وتتفاوت مدونتها المحفوظة، طبعاً، بين لغة أفريقية وأخرى. ولعل من المفارقة حقاً أن الرواية، هذا الجنس الأدبي الدخيل أو على الأقل غير الأصيل في ثقافة القارة، ظهرت أولاً، في بدايات القرن العشرين، في اللغات الأفريقية المحلية، مثل لغة التونجا في زامبيا، والشونا بزمبابوي، والسوتو، والزوسا، والزولو في جنوب أفريقيا، وكلها لغات هيأت طباعتها السلطات الاستعمارية والهيئات التبشيرية، ومن هنا تيسَّر منذ مطلع القرن العشرين لأفارقة زنوج أن ينشروا روايات بلغاتهم المحلية أولاً، قبل اللغات الأوروبية التي ستستبد بالمشهد الأدبي الأفريقي لاحقاً. وكان في طليعة رواد فنون السرد باللغات المحلية توماس موفولو (1876 1948) الذي كتب بلغة السوتو السائدة بجنوب أفريقيا، وفي مملكة لوسوتو، وقد ظهرت أولى رواياته «المسافر الى الشرق» في سنة 1907، وإن كان قد نشرها قبل ذلك التاريخ على حلقات في إحدى المجلات. وقد عاش بطل القصة الذي يدعي «فيكيزي» تجربة وجودية كجوّاب آفاق يبحث عن إجابات لأسئلته الحائرة، وفي النهاية لقي الخلاص وبلغ الغاية/ النهاية، كما يمكن أن نتوقع، لدى الغرب والسلطات المستعمِرة والكنيسة، وهي نهاية تتناسب مع بساطة أسلوب القاص وتقنياته السردية الوعظية، وقد كان موظفاً بمطابع الإرسالية الكنسية وفيما بعد سكرتيراً بإدارة المستعمرات نفسها. وفي 1910 نشر هذا الكاتب أيضاً رواية «بتسنج»، والعنوان مأخوذ من اسم قرية هي الفضاء المكاني لأحداث القصة، التي يقدم فيها عرضاً واسعاً لصراع القيم والرغبات العاطفية من منظور أفريقي، مع قدر غير قليل أيضاً من بساطة الحبكة والسذاجة السردية والمباشَرة. ولعل العمل الأدبي الذي خلد اسم «موفولو» في تاريخ الأدب الأفريقي كان ملحمة تاريخية شعبية عرَضها في قالب قصصي عن حياة ملك الزولو المُسمى «تشاكا». وفي جنوب أفريقيا أيضاً ظهرت في سنة 1914رواية «قضية التوأم»لصومويل ماجايي (1875- 1936) وهي بلغة الزوسا المحلية، ويتحدث فيها عن البنية الاجتماعية ومنظومة الزنوج الأسرية قبل مجيء الرجل الأبيض. كما ظهرت بلغة الزولو في البلد ذاته رواية «إلى الأبد»لبنديكت فيلاكازي (1906 1947) وموضوعها مسألة الهجرة من الريف إلى المدينة وما يترتب عليها من تمزق للمجتمع القبلي الريفي وتهتك وتهلهل لمجتمع المدينة حين تطوّقه أحياء الصفيح ومناطق الظل الرخوة على هوامش النسيج الحضري، فتزداد فيه الظواهر السلبية والجرائم غير المسبوقة والمنكرات الشنيعة التي لم تكن معروفة في المجتمع الريفي الساذج البعيد السعيد! كما ظهرت محاولات أخرى مماثلة في غرب أفريقيا أيضاً بلغات زنجية محلية مثل لغات اليوروبا، والإيبو، والماندينج، وفي شرق القارة بالسواحيلية والكيكويو والأتشولية وغيرها. إلا أن أبرز كتاب هذا التيار كان الروائي النيجيري دانييل فاجونو (1910- 1963) وكان يكتب بلغة اليوروبا، ومع أنه كان في الوقت نفسه غربي التعليم والثقافة، وربما الهوى أيضاً، إلا أنه مع ذلك ترك ست روايات بلغته الأم صدرت أولاها في سنة 1938 بعنوان «الصياد الجسور وغابة الآلهة الألف»، وفيها يستحضر الأساطير الأفريقية عن الأرواح الشريرة، ووحوش الغابة، والغول، ومفعول السحر الحاسم في المواقف الصعبة، ويغوص ببطله الصياد إلى العالم السفلي يصارع الأشباح والأمساخ، والموتى الأشرار، وفي النهاية -ولأنه محارب أفريقي جسور كالأجداد- ينتصر على الجميع، ويعود منتشياً ليحكي قصته، كما ينبغي للملاحم الكبيرة أن تروى: يبدأ من بدايتها ولا ينتهي إلا مع نهايتها! وقد جرت أحداث معظم روايات «فاجونو» الأخرى أيضاً، في الغابة، ورسمت عوالم وأجواء يختلط فيها السحر والأسطورة بالشعر والفنتازيا، في خليط عجيب زادته صوره المعقدة، وفكاهته، وأصالة عوالمه القادمة من الغابة، وهذا هو مِلحُها لأن الغابة والأدغال لهما مكانة خاصة في الوجدان الأفريقي الأصيل، بل إن الغابة على عكس ما توهم «ديفيد كونراد» ليست «قلب الظلام»، بل هي أرض الأحلام. وكما يقول الروائي الإيطالي الشهير ألبرتو مورافيا، فالغابة هي أم الأفارقة، التي يخجل بعضهم أحياناً من الحديث عنها!

- السرد الأفريقي.. بلغة موليير

يعتبر أدب الأفارقة المكتوب بالفرنسية رائداً في مجال الرواية، وإن كانت الريادة له أيضاً في بلورة مفاهيم الزنوجة في مجال الشعر. ولعل أول رواية أفريقية ملفتة بالفرنسية كانت «إرادات مالك الثلاث» الصادرة سنة 1920 للسنغالي «أحمدو أمباتيه ديان»، التي تعرض مكابدات بطلها الصبي «مالك» لتحصيل العلم واللحاق بركب الحضارة على الرغم من واقعه الأفريقي «المتخلف»/ المختلف! كما أصدر مواطنه «ماسيلا ديوب» أيضاً رواية أخرى سنة 1925 بعنوان «المنبوذة»، وتعرض مشاهد من المجتمع السفلي، بمنطق أحكام القيمة، أي الشريحة الساقطة قيمياً وأخلاقياً خاصة فيما يتعلق بالعلاقات غير المشروعة بين الجنسين. وتلتها رواية ثالثة سنغالية أيضاً لبكري ديالو سنة 1926 عنوانها «قوة الخير»، وتمجد بطولات كاتبها كجندي في الفيلق الأجنبي الفرنسي، وتحتفي بالدور «التحضيري» و«التقدمي» للسلطات الفرنسية في أفريقيا آنذاك. وقد أثارت رواية الزنجي المارتينيكي رينيه ماران «باتوالا» في حينها ضجة كبيرة في الأوساط الثقافية بالحي اللاتيني بباريس، ونالت سنة 1931 جائزة «جونكور» المهمة في الفضاء الثقافي الفرانكوفوني. وبطل الرواية وأبوه عاشا تجربة التهجير من أفريقيا إلى العالم الجديد، وفي جزر الكاريبي تنقطع بهما السبل، وتنبتُّ أواصرهما الحسية والعاطفية بوطنهما الأصلي، ويموتان بائسين يائسين مستعْبَدين مستبْعَدين مجتثيّين من جذورهما، ولكن بعد أن يفضحا السلطات الاستعمارية! ولعل هذه كانت هي أول رواية زنجية لا تمجد الرجل الأبيض، وسنجد أن معظم الروايات الأفريقية التي ستظهر بعدها ستسير على النهج نفسه في فضح عنصرية وظلامية الأوروبيين، وأيضاً الدعوة إلى حرية أفريقيا ومساواة الأفارقة بالأوروبيين، وكان مثل هذا الطرح يومذاك من المحرّمات و«التابوهات» بل «الموبقات» تقريباً في المجتمعات الغربية، التي كان الاختلاف فيما بينها في العنصرية تجاه السود، في الغالب، اختلافاً في الدرجة فقط وليس في النوع. وفي رواية «ماران» الثانية، التي لا تقل إثارة وعنوانها «جوما» 1927، يواصل العزف على وتر التحرر نفسه، ويتحسر بحرقة من المظالم المسلطة على بني جلدته، بشكل عاطفي مبهر ومؤثر. فبطل الرواية «بيسبنجوي» يصف واقع الإنسان الأفريقي يومذاك وهو يتميّز من الغيظ: «مع أن البيض يُشبِّهون الزنوج بالقردة، فإنهم يتركون القردة وشأنها... أما بالنسبة للزنجي... فمتى ما كانت ثمة طرق تـُـشق، فعلى الزنوج أن يشقوها. متى ما كان التجار يحتاجون إلى مطّاط؟ فعلى الزنوج أن يوفروه حالاً. متى ما كانت الخزائن، خزائن الحكومة النهمة، تحتاج إلى نقود؟ كان على الزنوج أن يدفعوا الضرائب... الزنوج في كل زمان ومكان. لقد كان الزنجي أهلًا لأن يُسجن، جاهزاً لأن تفرض عليه الضرائب، خليقاً بأن يكون دابّة من دواب النقل والجر الأهلية»! ومثل هذه النبرة الساخطة رددها كثير من الكُتاب الأفارقة ابتداء من الثلاثينيات، فمثلًا في 1935 نشر السنغالي «عثمان سوسيه»روايته «كريم»التي نالت جائزة ما وراء البحار، وفيها يعيش البطل «كريم» تجربة تضعضع وتمزق بين إبهار مباهج حضارة الغرب وتقاليد الأجداد، وفي النهاية تنتصر تقاليد الأجداد والقيم الدينية على قيم حضارة فرنسا المزعومة الموهومة. كما نشر «سوسيه»أيضاً في 1937رواية «سراب باريس» وفيها هجوم عنيف على كل ما هو أوروبي، وفضح لعنصرية الرجل الأبيض، فبطل العمل الشاب «فارا» صافح في إحدى المرات طفلاً أوروبياً فسارع الطفل لغسل يده بالماء! ومنذ منتصف القرن العشرين ظهر جيل آخر من الكُتاب الأفارقة الفرانكوفونيين أكثر حنكة من الناحية الفنية الروائية، ومن هؤلاء الروائي العاجي أحمدُ كوروما صاحب «شمس الاستقلالات»،ومواطنه «برنار دادييه»، الذي نشر بنيويورك روايته «كليمبييه» 1953، وهي شبه سيرة ذاتية. ثم جاءت روايته الأخرى «زنجي في باريس» 1959، وفيها فضح لعالم الفرنسيين بعنصريته وطفرة «شذوذه» وبُعده عن فطرة الأفارقة. كما اشتهرت له أيضاً «مدينة الخلود» 1968 وهي تتناول موضوعاً غريباً بعض الشيء، هو الحياة في روما القديمة، وكذلك «سيد من نيويورك» التي فازت بجائزة الأدب الأفريقي الفرنسية 1959. ولعل أعظم كُتاب هذه المرحلة هو الغيني «كامارا لاي» «1928 -1980» الذي بهر قراء الأدب الفرنسي بروايته الشاعرية المتدفقة «الطفل الأسود» 1953، ويستعيد فيها طفولته في ريف غينيا كوناكري، وقد نالت روايته الشعرية هذه جائزة «شارل فيبون»الفرنسية 1954، وهو العام نفسه الذي نشر فيه رواية «نظرة الملك»، كما ظهرت له سيرة شعبية رائعة عن سلطان إمبراطورية مالي المسلمة «سوندياتا كيتا» في منتصف الستينيات. وكان آخر ما كتب «كمارا لاي» رواية «داراموس»، وكل هذه الأعمال تشترك في لغة شعرية رشيقة، وحنين دفين إلى الطفولة، ونوستالجيا العوْد المتجدد إلى أفريقيا، فردوسه المفقود. وتبدو نبرة الاحتجاج ضد الرجل الأبيض أقوى وتتخلى عن أية مواربة، أو تخفٍّ خلف رمز أو لغز، لدى الكاميروني «فرديناند إيونو»، ففي «حياة خادم» يفضح المظالم والممارسات الجائرة والصور النمطية التي تسلط على الزنجي بسبب لونه المختلف عن الأوروبيين، فبطله «جوزيف توندي» شاب كاميروني ولد في ظروف بائسة، واضطر في صباه إلى أن ينضم للكنيسة لأن المبشرين كانوا يغرُون الأطفال بالحلوى، وبسرعة أصبح خادماً للكاهن، وليس معنى ذلك أنهما متفاهمان، فالقس ينطق الكلمات الأفريقية خطأ على نحو يحولها إلى البذاءة، و«توندي» لا يهمه سوى الأكل بنهَم وازدراد الحلوى، وهكذا تسير الرواية بالتوازي في تسجيل يوميات هذا وذاك. وهي يوميات شاءت لها الظروف ومفارقات الصدف والمواقف والمغايَرة الثقافية أن تسير في اتجاهين متناقضين تماماً، على الرغم من أن بطليها يعيشان تحت سقف واحد، إن صح التعبير. ونشر «إيونو» أيضاً رواية أخرى أكثر سخرية من فرنسا هي «الزنجي العجوز والوسام». ولهذا الأديب كذلك رواية ثالثة لا تقل إدانة للأوروبيين هي «الطريق إلى أوروبا» وفيها محاولة لهتك الحجب واختراق جدار الصوت -والصمت- حين يتعلق الأمر بإمكان زواج رجل زنجي من امرأة أوروبية بيضاء. ولا يقل سخطاً عن «إيونو» أيضاً مواطنه «مونجو بيتي» -واسمه الحقيقي أسكندر بيدي- الذي صب جام غضبه على الإرساليات في روايته «مسيح بومبا المسكين» 1956، وكذا في «البلدة القاسية»، و«مهمة منتهية» و«الملك الذي أنقذته معجزة»، وهي تراوح بين نقد ونقض أوهام الآخر مقابل تمجيد الذات الأفريقية. كما يستخدم الكاتب اللغة الناقدة الناقمة ذاتها ضد البيض في «بربتوا» 1978، و«تذكر ياروبن» 1979، و«حطام القراقوز» 1981. وركزت أعمال الروائي السنغالي «سامبين عثمان» على نضال الأفارقة من أجل الحرية والاستقلال، منذ روايته السِّيَرية «الحمَّال الأسود» 1959، وحتى «يا وطني، يا شعبي الجميل» 1960، و«قـُـصاص غابة الآلهة». وفي الأولى يحكي سيرته كمجند فرنسي، ومن ثم كحمَّال في ميناء مرسيليا بعد نهاية الحرب، وفي الثانية يحِنُّ إلى وطنه، أما في الثالثة فيؤرخ لإضراب عمال سكك الحديد في غرب أفريقيا. كما أن روايتيه «ريح الجنوب» 1964، و«كسالا» تسيران في ذات اتجاه توصيف الواقع الأفريقي الصعب، ووصف سطوة وقسوة الأوروبيين. كما لا يقل عن هؤلاء أيضاً كُتاب جيل الثمانينيات والتسعينيات مثل السنغاليين «صو فال» و«شيخ حاميدو كان» صاحب «مغامرة في المجهول»، والكاميروني بنيامين ماتيب، والمالي «سيدو باديان» صاحب الرواية الشهيرة «تحت الرذاذ» التي تعرض واقع التحول الاجتماعي في مجتمع جمهورية مالي من خلال طرائق الزواج. وكذا «نازي بوني» من بوركينا فاسو، وغيرهم من كُتاب الفضاء الفرانكوفوني الأفريقي الذين يقدمون أنفسهم للعالم بلغة موليير.

- السرد.. بلغة شكسبير

كانت أول رواية أفريقية بالإنجليزية هي «إثيوبيا طليقة»للأديب الغاني «كيسلي هايفورد» وقد صدرت سنة 1911، وتلتها رواية «مهودي: ملحمة الأهالي» للجنوب أفريقي «سولومون بلاكيهي»، ثم رواية «ثمانية عشر قرشاً» للغاني الآخر «أوبنج». وتشترك كل هذه الروايات التأسيسية في بساطة البنية وحدة وشدة النبرة ضد الأوروبيين، فرواية «أوبنج» مثلًا ضاعت كلها في تفاصيل سلسلة من المرافعات والمحاكمات لزنجي استلف ثمانية عشر قرشاً لكي يشتري فأساً لمزرعته، ولكنه وجد نفسه بفعل الفقر مضطراً للعمل سخرةً لدائنه الذي اتهمته زوجته بمراودتها عن نفسها، وفي متاهة المحاكمة، التي طالت الجميع، ضاع المتن الرئيسي للرواية. وبعد هذه الرواية بسنتين ظهرت رواية للجنوب أفريقي «بيتر أبراها» وعنوانها «أنشودة المدينة» 1945، وتصوِّر حياة صبي أسود هاجر إلى جوهانسبرج واشتغل مسخَّراً عند البيض، ومن ثم زج به في السجن، وبعد تجارب مرة قرر العودة على أدراجه سرَباً، هرَباً، إلى الغابة، ولكنه عاد إليها وقد اخشوْشنَ وفقد وداعة الأفارقة، وتلقائيتهم وعذرية طيبتهم الفطرية. ولهذا الروائي أيضاً أعمال أخرى كثيرة منها «درب الرعد» 1948، و«الغزو المتوحش» 1950، و«العودة إلى جولي» و«إكليل من أجل أودوموي» 1965، و«ليلة لهم» 1965، و«هذه الجزيرة الآن» 1966، وكلها يمكن تخمين موضوعاتها من عناوينها، ما عدا الأخيرتين لأن أحداثهما تدور في جزر الكاريبي بعيداً عن أفريقيا، وإن لم تبتعدا أيضاً عن همومها الكبرى. وقد لقيت أعمال روائي جنوب أفريقي آخر هو «لكس لاجوما» من أشاد بها من النقاد. وأنجبت تلك البلاد أيضاً أدباء ب من البيض تبنـّـوا قضية الأفارقة بروح إنسانية متسامية مثل «سارة ميلين» و«أوليف شراينر» و«دورينج ليسنج» و«نادين جورديمر»، الحائزة على جائزة نوبل، وكذلك «ألن باتون»صاحب الرواية «ابْكِ أيها البلد الحبيب» 1948 التي حولت إلى فيلم وأوبرا شهيرين، ومن الملفت أن «باتون» هو الرجل الوحيد بين هؤلاء البيض المتعاطفين، فيما البقية كلهن نساء. وربما يلزم التنويه والتنبيه إلى أن الرواية الأفريقية المكتوبة بالإنجليزية هي الأوسع انتشاراً في العالم وفي القارة السمراء نفسها، وقد برز وتميز فيها كثيرون مثل «ويل سوينكا»، صاحب «الأسد والجوهرة»، الحائز على جائزة نوبل، وأيضاً «آموس توتولا» و«تشينو أتشيبي» و«سيبريان إكوينسى»، و«جابرييل أوكارا»، و«أونورأنزيكو»، و«ت. ألوكو»، وكلهم من نيجيريا. ومن سيراليون «ويليام كونتون»، وكذلك «لنري بيترز» من غامبيا، و«جوزيف إبروكو»، و«كوفي أوكونور» من غانا. ومن شرق القارة برز «أنريكو سيروما»، و«روبرت سيروماجا» من أوغندا، و«إثيونجو»، و«جريس أوكوت» من كينيا، ونور الدين فرح، و«بيتربلانجيو» من تنزانيا، وغيرهم كثير ممن كتبوا بلغة شكسبير.

- السرد.. بلغة ساراماغو

تميز الأدب الأفريقي المكتوب في المستعمرات البرتغالية بحدة نبرته في رفض الواقع المرير، وذلك لفرط قسوة السلطات المستعمِرة البرتغالية، فكان رد الفعل واضحاً في فن الرواية، وإن كان الالتزام النضالي جاء على حساب احتشاد وانعقاد الحبكة الفنية أحياناً كثيرة. وكان من أوائل الروائيين الأفارقة باللغة البرتغالية كُتابٌ رواد مثل «بلتازار لوبيز» من جزر الرأس الأخضر، في بدايات القرن العشرين، وكذلك الأنجولي «أوسكار ريباز» الذي كتب روايات أقوى سبكة وحنكة، إلا أن أول رواية أفريقية ملفتة بهذه اللغة ظهرت في سنة 1926 وهي للأنجولي أيضاً «هـ. رابوزو»، وعنوانها «أنا وكالونجا ابنا البحر»، وفي 1937 ظهرت أيضاً رواية «بين البرتغال وأفريقيا»للموزمبيقية «أماليا نورتى»، وهي كلها أعمال تثير الوجع الأفريقي في عهد الاستعمار البرتغالي. ولعل من المفارقة أن أحد أبرز من حملوا هموم الزنوج، وألَّفوا عن معاناتهم روايات فنية، كان أوروبي الأصل وهو البرتغالي «كاسترو سورومينيو» المولود في موزمبيق سنة 1909، وقد عاش معظم حياته في أنجولا، حيث اشترك في حركة المقاومة والرفض للظلم المسلط على أهالي الأرض، وأسس دار نشر مناهضة للمستعمِر الذي قرر إرساله إلى القبر أو المنفى فاختار طريق التشرد عبر أوروبا وأميركا إلى أن مات في مدينة ساو باولو في البرازيل. وقد نشر «سورومينيو» روايته الأولى «رجال بلا طريق» سنة 1942، وأتبعها بأخرى هي «الانحراف»، ومكتوب الروايتين يقرأ تقريباً من عنوانيهما، وقد استمر على الوتيرة نفسها من حدة النقد للاستعمار في روايته «الأرض الميتة» التي نشرها من البرازيل وعكست اطلاعه على بعض تيارات الأدب الحديث، وخاصة أعمال جورج آمادو. وقصة «الأرض الميتة» تروي طرفاً من المظالم الفظيعة التي يكابدها الزنوج في إحدى مدن أنجولا، وهم يشتغلون في المناجم والمصانع بالسخْرة، ترهق كواهلهم متطلبات حياة المدينة الحالكة، وتلهب ظهورهم سياط المستعمرين الكالحة! ويتركز الصراع بين بطلي الرواية «سيلفا» الأوروبي الأبيض الجلف غليظ الطباع، و«أمريكو» الزنجي المتمرد الرافض للاستعباد، الذي تلقى قدراً من الثقافة ويطالب بالحرية والمساواة. وقد أثرت روايات «سورومينيو» ووجدت لها أصداء في السرديات الأفريقية المكتوبة بلغة «خوسيه ساراماغو» خلال العقود التالية، ولعل رواية «بذور الحرية» لسانتوس ليما الكاتب الأنجولي تنهض نموذجاً لهذا التأثر، فهي تعكس المرارات نفسها وتسجل ذات المعاناة التي بقيت آثارها حتى بعد ما حمل المستعمر البرتغالي عصاه ورحل تاركاً وراءه أرضاً محروقة، وبلاداً منهكة وذاكرة مسمومة، وخريطة ملغومة بالنزاعات والصراعات غير المحسومة.

الفجر الكاذب.. وأحلامه المؤجلة

ونصِل الآن إلى سؤال نعتقد أن القارئ ينتظره: هل تحققت أحلام الأفارقة الطالعة من دواوين الشعر وكتب السرد الثر؟ لقد قيل، ذات يوم، إن الثورة الروسية في بدايات القرن العشرين كانت بنتاً شرعية للرواية الروسية في القرن التاسع عشر، فهل كانت إلياذات أدب الزنوجة وملاحم السرديات الأفريقية سقيمة عقيمة، وتمخضت فولدت فشلاً ذريعاً، وانكساراً واندحاراً ثقافياً مريعاً؟ وهل حققت أو أنجزت شيئاً مذكوراً، أقلُّه على صعيد حلم تأكيد الهوية؟! لقد كتب المستفرِقون الغربيون المتخصصون في ثقافة القارة السمراء، ذات يوم، كثيراً من التحامل عن قوة حضور الثقافة العربية، سابقاً، وخاصة في منطقتي شرق وغرب أفريقيا، ودعوا لإحداث قطيعة معها سبيلاً لتأكيد الهوية الأفريقية الخاصة، ولكن مع مرور العقود تبيّن أن ما يقترحه الاستفراق الغربي بديلاً عن «التعريب»المزعوم لم يكن شيئاً آخر غير فرض «التغريب» المحموم، واستلاب الهوية الثقافية الأفريقية لا أكثر ولا أقل، من مُنجز الأدب، ومن نسيج الحياة الثقافية، في استمرار متجدد لتقاليد المدرسة الكولونيالية السابقة، حيث تحول الاستفراق إلى نوع من «الاستفراغ» وهو يسعى لتسويق وتسويغ الثقافة الغربية، بطريقة لا تقول صراحة اسمها ورسمها الكسيح، بلسان فصيح فسيح! والنتيجة استمرار حالة التبلبُل اللغوي في أفريقيا -على طريقة أسطورة ما بعد افتراق اللغات في بابل- وهو ما أثر سلباً مع مرور الوقت على وحدة وعي الأجيال اللاحقة من الكُتاب، وغيّب لديها أحلام تأكيد الذات والهوية والحرية، وحل التمزيق الثقافي بدل التقزيم النمطي، وخفَت الصوت التحرري بعدما رُفع السوط الاستعماري، وساد الاغتراب والاستلاب والانمساخ والانسلاخ من الذات، وظهر جيل أدبي وفكري جديد يَستحسِن بل يمتهن الارتجال والاستسهال، وأحياناً حتى الابتذال. ومنذ سنوات قريبة تساءل البروفيسور الكونجولي «جورج نجال» في حرقة عن «الشروط الجديدة لبزوغ فكر إفريقي»؟! وكانت الإجابة كارثية، بكل المقاييس. وتنسب المستفرقة الفرنسية «ليليان كستيلوت»، الأستاذة بالمعهد الأساسي للدراسات الأفريقية -الشيخ أنتا ديوب بداكار، إليه في عمله «جولات» الصادر عن دار «لارمتان» الفرنسية، وصفاً كالحاً لحال المشهد الأدبي الأفريقي اليوم، حيث يقول إنه: «أدب الشذوذ والانحراف، والتخريب والتدمير، والتعفن.. أدب التعبير عن العُقد، والصدمات والرضّات النفسية، وانكسارات الهوية، والنكوص. أدب يرسم مشهد مجتمع مضاد، وثقافة مضادة.. مكان ولا مكان، لاضطرابات، لا يمر العبور فيها من الخط الوهمي بين الواقع المتجهّم والفضاء الأدبي، من الواقع إلى النص ومن النص إلى الواقع، إلا من خلال إحداث قطائع، وانفصامات، واصطدامات، وانفجارات.. وكأن الكتابة نوع من تفريغ الشحنة الكهربائية». ومثلما تكشفت مشروعات بناء الدول الوطنية في القارة السمراء خلال العقود الخمسة الماضية عن دول فاشلة، في كثير من الأحيان، وتفكك وتخلخل وتهلهُل لكثير من تلك الكيانات الوطنية، وضياع جيل كامل نرى الآن عشرات الآلاف من شبابه يتدافعون في «قوارب الموت» ومسارب الهجرة السرية باتجاه «الفردوس الأوروبي»، في نزعة حنين مضادة، ليس إلى «الجذور»، وإنما إلى منافي الرجل الأبيض، مثل ذلك تماماً كان المآل المفجع لأحلام جيل أدب الزنوجة وفجره الكاذب، الذي بشر بأفريقيا أخرى بازغة، لم يكتب لها أن ترى النور أبداً. وذات المآل الفاجع نال أيضاً حلم خلخلة ترسانة الصور النمطية غير المجاملة، بل المتحاملة ضد الإنسان الأسود.. وماذا في الجعبة أيضاً؟ تبقى «المؤامرات» الغربية المحمومة والدسائس الملغومة «المعلومة» ضد نهوض وانبعاث «القومية السوداء»! وكيف لا يتم اجترار مثل هذه الأوهام اليوم في الأدب والثقافة والإعلام، ومن يتصدر المشهد الآن، حين يتعلق الأمر بمسألة الزنوجة، والقومية السوداء، وانبعاث أفريقيا، هو الوجه الأدلُوجي (الإيديولوجي) تحديداً، الأكثر إثارة للجدل، والدَّجل؟! وكيف لا وتيار النزعة القومية الزنجية نفسها يتصدر مشهده اليوم، في فرنسا مثلاً، كاتب ومثقف كالخطيب البليغ، ولكن شديد الانعزالية والراديكالية الزنجية «كيمي سيبا» Kémi Séba وفنان كالكوميدي الساخر، ولكن البذيء، «ديودونيه» Dieudonné M'Bala، وعلى مستوى الخطاب السياسي يرفع لواءه الرئيس الزيمبابوي المثير للجدل روبرت موغابي، و«يوليوس ماليما» رمز الجناح شبه العنصري المضاد في حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» بجنوب أفريقيا. وقد أظهرت كل هذه المآلات البشعة المفجعة في المحصلة، أن أحلام جيل وتيار أدب الزنوجة، في الحرية والتنمية وتأكيد الهوية، ما زالت عصيّة أبيّة، وأن الباقي من مسيرة إنسان القارة بأقدام جريحة، ما زال طويلاً، ولن يتقدم خطوة إن ظلت نخبه الثقافية والأدبية تتقحّم، في كل مرة، عناء وعناد التحليق فوق مواطن الجرح القديم، والعودة في كل مرة إلى المربع الأول، على الجانب الخطأ من التاريخ. ولذا تستلزم معانقة أشواق الانبعاث والإقلاع الأفريقي، أدبياً وإنسانياً، إعادة توصيف وتعريف للذات والهوية، وممارسة نقد ذاتي جسور، ومسح كل ما على الطاولة faire table rase من أوهام كهف وأوهام سوق وأوهام مسرح بتعبير «بيكون»، للوقوف بعد ذلك بثقة وواقعية على شرفة المستقبل، والدخول في مرحلة الأسئلة، استشرافاً لعناوين المرحلة المقبلة.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©