الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«أمل» يكرس تألق نجوم الغانم ويكافئ غربة أمل حويجة

«أمل» يكرس تألق نجوم الغانم ويكافئ غربة أمل حويجة
18 ديسمبر 2011 00:55
لم يكن مفاجئاً فوز الفيلم التسجيلي، “أمل” للمخرجة الإماراتية نجوم الغانم بجائزة مهرجان دبي السينمائي الثامن، فقد سبق لنجوم أن حازت جوائز عدة، منها جائزة مشابهة عن فيلمها “حمامة”، في الدورة الفائتة من المهرجان، وهي تنتزع عملاً إثر آخر مزيداً من الثقة والاعتراف بقدراتها الإبداعية.. وقد أمكن لكل من شاهد العمل السينمائي أن يرصد الكثير من الثراء العاطفي والتعبيري والتقني أيضاً في سياق بنيته السردية، والمؤكد أنه لا يمكن التغاضي عما كان لشخصية الممثلة المسرحية السورية أمل حويجة، التي يدور الفيلم حول يوميات وتداعيات اغترابها، من مساهمة مؤثرة في الارتقاء بمناخ المنجز التسجيلي نحو آفاق متجددة منحته الكثير من عوامل الخصوصية والتفرد. وفقاً لهذه القراءة المنصفة لملابسات الفيلم يمكن القول إن الجائزة جاءت في إطار تحصيل الحاصل، لكن بعض الإمعان في التوصيف يتيح الاستنتاج أن التفوق الحقيقي ليس مجرد انعكاس بديهي لقدرات معرفية ومهارات تقنية فحسب، بل هو يكمن في ذلك التواصل الخفي الذي يجمع بين الفكرة وأصحابها، فيحيل الموقف المهني، في لحظة عصية على الاكتناه، الى ما يشبه الالتزام الوجداني، ويقيم حالة متطرفة من الارتباط العاطفي بين العناصر البشرية والفكرية، بل والمادية أيضاً، التي تتضافر في خلطة مدروسة لتمنح الكائن الإبداعي فرصة الإنبثاق. مؤثرات غامضة تأسيساً على ما سبق يمكن الحديث عن مكونات شاعرية في شخصية المخرجة تقاطعت مع إرهاصات الفنان الكامنة في مشاعر الشخصية السينمائية، ليجد المجرى الإبداعي طريقه نحو ذات متلقية متحفزة لالتقاط إشارات من طبيعة متخطية للواقع المعاش.. هكذا شكل “أمل” مصباً طبيعياً لسيل من المؤثرات الغامضة، أو غير المحسوسة، فكان طبيعياً أن يحظى بقبول يصعب تفسيره اعتماداً على العادي من مفردات النقد السينمائي وحدها، وإن كان ثمة كثير ما يمكن إيراده في هذا السياق.. يتناول الفيلم حكاية ممثلة مسرحية سورية تلقت عرض عمل في الإمارات لتسهم في إنتاج شخصية “مدهش” الكرتونية المحببة، كان الظن انها ستمضي قرابة العام أو ما يزيد عنه قليلاً، لتعود الى بلادها، ومعها ما يكفيها لإطلاق حلمها المسرحي، الأمور سارت بغير ما اشتهت النفس، وطالت الفترة الزمنية في غفلة عن رقابة الرغبة الكامنة، لعلها لم تكن صادقة تلك الرغبة، تقول أمل، وتضيف: “أشعر اليوم كما لو أن تغاضي عن العودة في الموعد الذي حددته لنفسي، وقبولي العمل في الموقع الإلكتروني لمجلة “ماجد”، بعد انتهاء عقدي مع “مدهش”، انما كان يعكس هاجساً لا واع في داخلي يدفعني للهروب من المسرح، وما ارتبط فيه بذهني من ضآلة المردود المادي، والعجز عن الإيفاء بمستلزمات الطموحات”. خروج عن النص انتقلت أمل من دبي إلى أبوظبي، حيث شكلت المدينة الهادئة استجابة لحاجة مضمرة الى الهدوء والسكينة، لكن للوحدة مذاقاً فائق المرارة، كذلك لابد للشوق إلى مطارح الصحب والصخب، ولو كانت مسورة بكوابح الشح وضيق ذات اليد، من أن يفعل فعله، هكذا أمضت السنين تائهة بين ارتكاب حلم العودة أو الاستسلام لسكينة البقاء، وكان عليها أن تجد مسوغاً لتراجعها عن قرار اتخذته في بداية مشوارها، فكان الإنغماس في ما تتيحه أبوظبي من أنشطة ثقافية، وكان أيضاً إصدارها لكتاب بعنوان “خطفني الديك”.. كل ذلك يأتي على الأرجح في سياق تبرير استمرارية الغربة التي لم تكن مشروعة في أعماقها، ذلك أنها شكلت ما يشبه الخروج عن النص، وهو أمر يدرك الممثل المسرحي جيداً مقدار خطورته. أبعد من السيرة هل يتعلق الأمر بسيرة ذاتية؟ تؤكد أمل حويجة أنه أبعد من ذلك، لعله سيرة مشاعر وأحاسيس، حكاية نفس بشرية يمور في داخلها الكثير من التناقضات، وتغلي تحت مرجل الطموحات والإحباطات والانتصارات والهزائم، هي لعبة إضافية من تلك الأحاجي التي يمارسها القدر وتنتهي دوماً إلى ما يشبه السخرية المريرة، توضح أمل بشيء من الأسى أنها عندما قررت العودة إلى حلمها القديم وجدت الأبواب أمامها موصدة، فالصديقة التي اقترحت عليها قبول العرض المهني، على أمل تحصيل بعض النقود للنهوض بمشروع مسرحي كانت قد وجدت فرصتها المهنية في مكان آخر، كذلك كان سائر أفراد الشلة، شركاء الحلم، قد اختطوا دروبهم نحو مصائرهم، فبدا كما لو أن الغربة كانت لذاتها فقط، ولم تتح لها حتى ذلك الشعور الغامض والمتواضع بمتعة الإنجاز، الحياة لا تنتظر، والوقت لا وقت لديه كي يهادن أصحاب الطموحات المشاكسة. تناقض مثر من جهتها تعتبر المخرجة نجوم الغانم أن استيعابها العميق للندوب التي يمكن للغربة أن تتركها فوق وجدان فنانة حقيقية، هو ما جعلها تصوغ رؤيتها الإخراجية للفيلم وفق أسس مغايرة للمألوف، هكذا تدرجت في السرد البصري من مناخ يتسم بالحياد الظاهري، ويظهر الشخصية كما لو أنها في ذروة التأقلم والانسجام مع واقعها المكاني، هي تبدو متسقة تماماً على المستوى العاطفي، ترتبط مع المحيط بعلاقة يشوبها قدر كبير من الود، لتأخذ الأمور طريقها التدريجي نحو البوح المفخخ بالهواجس والتداعيات، ثمة انكسارات مفجعة أمكن للمخرجة المتمرسة أن ترصدها خلف تلك الشخصية المتماسكة التي تطل أمل على العالم من خلالها. تجربة شخصية توضح الغانم استطراداً، أو تفسيراً، أن للأمر صلة بمخزون شخصي لديها، إذ سبق لها أن خاضت تجربة مماثلة عندما غادرت نحو أستراليا وبريطانيا لإكمال دراستها الجامعية، هي كانت قد حققت بعض الحضور الإبداعي في وطنها، بوصفها شاعرة ومخرجة وناشطة ثقافية واعدة، وفي المهجر كان عليها أن تقبل بحياة الظل، حيث لا يعرفها أحد.. تؤسس نجوم على هذه الحيثية لتلتقط أحد المفاصل المحورية في العمل، ذلك ان تجربتها الشخصية مكنتها من إدراك خصوصية الإحساس بالغربة لدى الفنان، حيث لا يعود الأمر مقتصراً على النأي الجغرافي، وهو أمر قابل للتجاوز، بل يتعداه نحو محاولات يائسة للقبض على الأحلام الهاربة، حتى يصير تعرف المرء على نفسه وقد تخلت عن أحلامها يبدو أمراً في غاية الصعوبة، هكذا أمكننا كمشاهدين أن نرى أمل كما لو أنها شخصيات متعددة، وأحياناً متناقضة.. خلف الإنسانة الرقيقة المندمجة كانت تقف أخرى منفعلة، منزوية، وربما ناقمة أحياناً، وبالرغم من سعي واضح للتماسك والتكتم حرصت الشخصية المستجوبة على إبدائه، نراها تتخلى فجأة عن حيادية مفترضة، لتنغمس في نوستالجيا تلامس السوداوية، ثمة مفارقة تفرض نفسها: في العادي من الأفلام يطمح المخرج الى استخراج أفضل ما لدى الممثل من طاقات تمثيلية، لعل ما قامت به نجوم الغانم حيال أمل حويجة هو النقيض الكلي، حيث حرضتها على التخلي عن براعة الأداء، لتدفعها نحو نسيان مواهبها التشخيصية، والانكفاء نحو الذات المجردة من كل عامل دفاعي، ولا يصعب الجزم بنجاحها في ذلك. ألق خفي في إطار مقاربة منصفة للفيلم من التوقف عند عنصر مساهم في إضفاء شيء من الخصوصية على سياقه، وهو يتمثل في تجاوز كل من الممثلة والمخرجة لفخ الرومانسية المنفتحة على شيء من السواد، حيث تمكن العمل، صورة وأداءاً وكوادر بصرية، من الاحتفاظ بألق ملحوظ، وآثر الانحياز لبريق لوني وصوتي متواصل، الأمر الذي يمنحه قيمة مضافة، ويمده بعناصر غير مرئية من محفزات القبول، إن كان ذلك مقصوداً من أصحاب العمل فالأمر ممتع، أو لم يكن كذلك فالمتعة أكبر.
المصدر: دبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©