الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الهولنديون والبحث عن البدائل

24 فبراير 2017 20:41
من المنتظر أن ترسل الانتخابات التي ستنظم يوم 15 مارس المقبل في هولندا إشارة قوية جديدة للنخب السياسية العالمية تفيد بأن الغالبية العظمى من الناخبين في دول الغرب لم تعد تتقبل الطريقة التي كانت تـُحكم بها. ويبدو أن هذه المؤشرات لم تعد مقتصرة على «حزب الحرية» الهولندي الذي يقوده السياسي اليميني المتطرف «جيرت فيلديرز». وفي سياق النقاش السياسي المتشنج تساءلت امرأة هولندية متطرفة كانت تشارك في تجمع سياسي في إحدى مدن البلاد: «هل طرحتم على أنفسكم السؤال التالي: ألا يبدو وجود المساجد غريباً عن دولتنا العلمانية التي توجد فيها الكنائس أيضاً؟». وكان «ثييري بوديت» البالغ من العمر 34 عاماً، وهو رئيس حزب «المنتدى من أجل الحرية»، حاضراً ومستعداً لتقديم الإجابة على هذا السؤال حيث قال: «لطالما كانت الموسيقى المرافقة لصوت الأجراس التي تنبعث من كنائسنا جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية وثقافتنا. وأما الصوت الآتي من المآذن، فليس كذلك. وربما تحتاج تلك المآذن لإضافة بعض الأجراس»!!. وعندما سمعت صاحبة السؤال هذا الجواب المتعصّب راحت تصفق بحرارة. ولحزب «المنتدى من أجل الحرية» تاريخ غريب. فهو حزب جديد أسسه «بوديت» في عام 2015، و«بوديت» باحث قانوني وناشط في السياسة وقد أراد من حزبه الجديد أن يلتزم بالخط المحافظ، ومعارضة الاتحاد الأوروبي، بشرط ألا يكون حزباً سياسياً بالمفهوم التقليدي للكلمة. وأول ما فعله الحزب هو الدعوة لتنظيم استفتاء حول ما إذا كان من الأفضل لهولندا التوقيع على اتفاقية التعاون بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا لعام 2014. وكان ذلك التصويت غير الملزم يعدّ نجاحاً مذهلاً لليمين القومي الهولندي. وعلى رغم نسبة الإقبال الضعيفة على الاقتراع الذي نظم في شهر أبريل 2016، إلا أن 61 في المئة من الناخبين الذين بلغ عددهم 2,5 مليون، رفضوا التوقيع على المعاهدة التجارية مع أوكرانيا (بلغ عدد سكان هولندا 17 مليون نسمة في أواخر عام 2016). وقد قال لي «روبن كايزير»، وهو أحد مساعدي «بوديت»، وقد شارك في فرز أصوات المقترعين، إن معظم الهولنديين يشعرون بالغضب لأن الحكومة لم تسألهم أبداً عن رأيهم في المشاركة في هذه المعاهدة التي تهدف إلى ضم دولة أوكرانيا، وهي تعاني من الفقر والفساد والمعاناة من الحروب، إلى الاتحاد الأوروبي. ولم تكن الأصوات المعارضة لخطة الحكومة موجهة ضد أوكرانيا بالذات، بل ضد فشل النخبة السياسية التي تحكم هولندا. وبدوره قال لي «بوديت» ذو الطموح السياسي الذي لا يعرف الحدود: «هناك فجوة واسعة في المشهد السياسي الهولندي بين المؤسسة التي تعمل على إضعاف السيادة الوطنية، واليمين الشعبوي الذي أساء لسمعته بتبنّيه لمواقف تتصف بالتطرف الشديد. وهذا هو السبب الذي دفعني لتشكيل حزبي الجديد». ويبلغ مجموع عدد الأحزاب المتنافسة في الانتخابات المقبلة في هولندا 28 حزباً (وليس هذا هو الرقم القياسي لأن عدد الأحزاب التي شاركت في انتخابات عام 1933 بلغ 55 حزباً). كما أن هولندا، التي تمتلك ثاني أقدم دستور مكتوب في العالم بعد دستور الولايات المتحدة، تضع أكثر الشروط سهولة لتأسيس حزب جديد ودخول البرلمان، وكل ما يحتاجه الحزب هو 0,67 في المئة من أصوات الناخبين حتى يفوز بمقعد في البرلمان الذي يضم 150 عضواً. وتشير استطلاعات رأي أن حزب «بوديت» ربما يفوز بمقعد واحد على الأقل في الانتخابات المقبلة، وهو إنجاز ممتاز بالنسبة لحزب عمره ستة أشهر، ومن دون أن يضم في عضويته أي عضو من البرلمان. ومع ذلك، فإن من المرجح أن يكون له دور مهم في صياغة الحياة السياسية في هولندا في المستقبل. وحتى الآن، لا يزال عدد صغير من الأحزاب التقليدية يلعب دور الأعمدة الأساسية التي يقوم عليها المجتمع السياسي الهولندي، ومنها الأحزاب الكاثوليكية والبروتستانتية والحركات البورجوازية التي يقودها الأثرياء واتحادات العمال. ويميل الهولنديون بشكل عام للتصويت بنفس الطريقة التي كان يصوت بها آباؤهم. وفي هذ المعنى يقول الصحفي المخضرم والمؤرخ السياسي هيوبرت سميتس: «تتنافس الأحزاب الهولندية فيما بينها، وتهاجم بعضها بعضاً، وبمجرد انتخاب وفوز بعضها فإن الأحزاب الفائزة سرعان ما تحصل على إجماع آراء المصوتين». ولا تشكل السياسات في هولندا أكثر من واجهة لابد منها لدخول البرلمان. والبرلمان الهولندي أشبه بسوق تتخذ فيه القرارات بحسب النتائج الربحية المتوقعة منها، وغالباً ما يتطلب الأمر الدخول في مساومات. ولقد بدأ هذا الواقع يتغير بعد سطوع نجم رجل سياسي لامع يدعى «بيم فورتوين»، وهو شعبوي لامع معادٍ للهجرة اغتيل في عام 2001 على يدي ناشط يساري. وقد ترك هذا الحادث أبلغ الأثر في الأوساط السياسية الهولندية التي لا تزال تعتبره نقطة تحول في السياسة العامة للبلاد. وفي المجتمع الهولندي العلماني الذي يوصف بأنه تجاوز عصر الحداثة، بدأت الأعمدة السياسية التقليدية في الانهيار، وانخفض عدد الهولنديين المسجلين في قوائم الأحزاب بشكل كبير. ففي عام 1984 مثلاً بلغ مجموع عدد أعضاء الأحزاب الرئيسية الممثلة في البرلمان 416 ألفاً، أو نحو 4 في المئة من عدد الناخبين، وقد انخفض هذا الرقم إلى 289 ألفاً، أو نحو 2 في المئة من مجموع عدد الناخبين، في الوقت الراهن. وعلى «الضفة اليسرى» للسياسة الهولندية، نجد حزب «اليسار الأخضر» Green Left، وهو النتاج السياسي لاندماج عدة حركات يسارية صغيرة كانت تقف على هامش السياسات البرلمانية، ثم أعيد إحياؤها تحت قيادة سياسي شاب عمره 30 عاماً يدعى «جيسي كلافير». وأما رئيس الوزراء «مارك روته» فينتمي إلى «حزب الشعب للحرية والديمقراطية» VVD. وهو من أحزاب يمين الوسط، ولا يزال يمتلك الحظ الأوفر للفوز في الانتخابات المقبلة وتأليف حكومة جديدة على رغم أن «بوديت» مقتنع تماماً بأن أيامه في الحكم باتت معدودة. ويدعو حزب «المنتدى من أجل الديمقراطية» بزعامة «بوديت» إلى انتخاب محافظي المدن الهولندية الكبرى بدلاً من تعيينهم من طرف الحكومة، وهو يرى أن ذلك يسهل إجراء الاستفتاءات والالتزام بنتائجها. وعندما كان «بوديت» يجول بين الجمهور في إحدى مدن شمال هولندا، سأله شاب عما إذا كان من المفيد طرح أسئلة معقدة في الاستفتاءات. فكان جوابه أنها يجب أن تكون سهلة وذات خيارين واضحين (أي يمكن الإجابة عنها بنعم أو لا على طريقة استفتاء بريكسيت). وكان يقصد من وراء ذلك توجيه إيماءة لجمهور الناخبين. وقد استكمل هذه الرسالة الشعبوية بجرعات من الكراهية للاتحاد الأوروبي مختلطة بمشاعر قومية أكثر اعتدالاً من تلك التي أطلقها «فيلديرز». ويذكر أن المملكة المتحدة هي ثالث أكبر مقصد نهائي للصادرات الهولندية بعد ألمانيا وبلجيكا. وبعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سيتعين على هولندا مواصلة الاتجار مع بريطانيا استناداً إلى نفس الشروط التي تطبق على دول الاتحاد الأوروبي، وإلا فإنها ستصبح أكثر اعتماداً على ألمانيا. ومن المعلوم أن المهاجرين المسلمين يعارضون فكرة الاندماج، ويرفضون الحرية المطلقة التي ينادي بها الهولنديون، ومنها أنوع معينة مما يعتبر في الغرب حرية تعبير، وكذلك المساواة المطلقة بين الجنسين و«الزواج المثلي». ويضم جمهور «بوديت» نخبة من الأثرياء من الذين يدعمون «حزب الشعب للحرية والديمقراطية» ثم انفصلوا عنه. وانخفض عدد أعضاء الحزب الآن إلى 26500 فقط بعد أن بلغ 38400 في انتخابات عام 2012. إلا أن عدداً كبيراً من ناخبي يمين الوسط الهولندي يرون في رسائل «فيلديرز»، ومنها حظر تداول المصاحف وإغلاق المساجد، دعوات متطرفة وكريهة. ولهذا السبب يمكن القول إن «بوديت» واحد من السياسيين الذين عرفوا كيف يقدمون البديل المقبول لهذه التعاليم المتطرفة. ويبقى أن نشير إلى أن «بوديت» الذي هو سليل أسرة عريقة من الأكاديميين ورجال الثقافة، ليس من المتلهفين على الشهرة، ولا يؤمن باستطلاعات الرأي، وشديد الإعجاب بالنجاح الذي حققته حملة حزبه على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد حظيت باهتمام يفوق ما حققته كل الأحزاب الأخرى. على أن هذا التمرد الذي يقوده الشعبويون الهولنديون، وبروز شخصية «فيلديرز» في المشهد السياسي، عادة ما يوصف بأنه تمرد للناخبين الأكبر سناً والأقل ثقافة والأكثر تعرضاً للمشاكل الاقتصادية، على الوجوه السياسية التقليدية. تماماً مثلما كانت توصف حملة دونالد ترامب في الولايات المتحدة. ويتعلق الأمر بمشاعر الانفصال بين النخبة الحاكمة والشعب، والرغبة في مشاركة شعبية أوسع في اتخاذ القرارات. وبالنسبة للسياسيين الشبان من أمثال «بوديت»، أصبحت السيادة تعني الإنجاز وتنظيم الحملات الانتخابية الناجحة، والتواصل الدائم مع الناخبين عبر القنوات المختلفة. وأما بالنسبة لأتباع المدرسة القديمة، ومنهم رئيس الوزراء «روته»، فإن القضية الأساسية تتعلق بالعوائد والفوائد الناتجة عن اتخاذ القرارات. وبعد انتهاء الانتخابات المقبلة، قد يفوز حزب «روته» ويواصل حكم البلاد، إلا أن النموذج القديم يتحول الآن بسرعة إلى شيء آخر، ويبدو أن قيادات سياسية جديدة أصبحت تثبت وجودها وقبولها على الخط السياسي، وهي التي بدأ الناخبون يميلون إليها بشكل أكبر. محلل سياسي روسي مقيم في برلين ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©