الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«دبي السينمائي».. «انخطاف» خارج سياق العادي

«دبي السينمائي».. «انخطاف» خارج سياق العادي
18 ديسمبر 2013 19:56
أُسدلت الستائر، وأُطفئت الشموع، وبدأ “مهرجان دبي السينمائي الدولي” يخطو نحو عامه الحادي عشر. أيام ثمانية بدءاً من السادس عشر من هذا الشهر وحتى الرابع عشر منه، كأن أحداثه ملأت عالمنا وشغلتنا عما عداه. بتفاصيله كلها التي لم تترك لمتابعه سوى فواصل قصيرة للنوم والحركة خارج نطاق فعالياته وأحداثه ومشاغله وعروضه التي كانت تأخذ المرء عن كل ما يحيط به من أحداث تمور بها المنطقة العربية سياسيا وثقافيا. كما لو أن أيامه الثمانية هي لحظة “انخطاف” خارج سياق الحياة العادية، ليتوقف هذا الأمر عند تلك اللحظة التي أُعلنت فيها النتائج مساء الجمعة الماضي. على أية حال، فقد بدأ المهرجان دورته الأولى في عام 2004. آنذاك، لم تكن العروض السينمائية قد توزعت على ما هي عليه الآن، إنما في المحصلة فقد جرى عرض ستة وسبعين فيلما من تسعة وعشرين بلدا من بينها ثلاثة وثلاثون فيلما عربيا فقط، وفي هذه السنة، وفي هذا العمر القصير من المهرجان، الذي من المفترض أن يكون عمراً لطفل بالكاد أنهى في سياق دراسته الرابع الابتدائي فقط، فقد عرض مائة وخمساً وسبعين فيلما من سبعة وخمسين بلدا من بينها مائة وثلاثة أفلام عربية توزعت على الحقول التالية، سواء تلك الثابتة أم المتحولة التي تأخذ طابعا احتفاليا بمناسبة سينمائية ما عربية أو إقليمية أو محلية: العروض الافتتاحية، ومسابقة المهر الإماراتي، ومسابقة المهر العربي: الأفلام الروائية الطويلة، والأفلام الوثائقية، والأفلام القصيرة، ثم المهر الآسيوي الأفريقي في الروائي الطويل والروائي القصير والوثائقي، فعروض ليال عربية، وسينما العالم، وسينما آسيا – أفريقيا، واحتفال بمئوية السينما الهندية، وسينما الأطفال، وأصوات خليجية، وأخيراً: إرث عراقي – أطفال المستقبل. لقد توزعت الأفلام المائة والأربعة والسبعون على أحد عشر حقلا، كان من غير الممكن لمتابعة صحفية بحسب هذه الحقول أن تحيط بكافة فعاليات المهرجان التي لم تقتصر بالطبع على العروض فحسب، بل ثمة “سوق دبي السينمائي بمبادراته المختلفة خاصة: إنجاز، ومنتدى دبي السينمائي وسواهما، وما اجتذب كل هؤلاء السينمائيين والعاملين في الصناعة السينمائية من مخرجين ومنتجين وسواهم، وما يترتب على ذلك من تفاصيل تتخلق منها اتفاقيات موقعة وغير موقعة، ويجاور ذلك حضور شخصيات ذات وزن سينمائي وفني بارز ومشاريع جديدة من المفترض أنه سوف يبدأ العمل بها أو الانتهاء منها العام المقبل. لذلك كان من الطبيعي أن تنصب جهود فريق عمل صحفي من ثلاثة أشخاص أو أربعة على مطاردة الأبرز من بين العروض ومحاولة اصطياد الأبرز من الأحداث الموازية لها، وترك السجادة الحمراء لأهلها والانتباه أكثر لتلك الرؤى التي دفعت بالمخرجين إلى قول ما قالوه بالمعنى السينمائي للكلمة. الهامش السينمائي إنما اللافت في المحصلة، أن هناك مائة وثلاثة أفلام عربية قد تم عرضها، ما يعني أن هناك صناعة “سينما عربية” على نحو محترف إلى حد ما قد بدأت تتخلق على مستوى الاحتراف في الإنتاج، ما يعني، ربما، أن خارطة الإنتاج السينمائي العربي لم تعد حكرا على القاهرة وحدها بوصفها عاصمة للسينما العربية، بل توزعت هذه “الفكرة” على العديد من العواصم والمدن العربية والغربية، أسهمت دبي، من خلال مهرجانها هذا بنصيب كبير فيها، كما أتاحت لمخرجين ومنتجين من خلال سوقها السينمائي أن يتوصلوا إلى شروط إنتاجية بعينها، تتيح تسويق أعمال سينمائية قد جرى عرضها في أحد حقول المهرجان الأحد عشر، أو تفتح الباب أمام البدء بمشاريع سوف تنضج لاحقا. ما يعني أن دبي تسعى إلى أن تكون محطة استقطاب للفعل السينمائي الدولي على مستوى المنطقة والعالم وليس على مستوى المنطقة وحدها، بوصف ذلك جزءا من جعل الثقافة تدخل في حالة تجاذب اقتصادي ما بين أن يتوافر لها الدعم، وأن توفر هي الدعم في سياق الناتج العمومي لما يسمى بالاقتصاد الثقافي. حضور نسوي واللافت أيضاً، في هذه المحصلة عربيا، أن ما نسبته أربعون بالمئة من الأفلام التي عرضت طيلة الأيام الثمانية كانت من صنيع النساء، بوصفهن مخرجات سينمائيات وليس في التمثيل أو كتابة السيناريو أو ما عداهما من اختصاصات في الصناعة السينمائية، إذ هي تقف في بعض الأحيان في المستوى نفسه من الإخراج أهمية وتجسيداً لرؤية بعينها، فلطالما حمل التمثيل عبء فيلم بأكمله. وبالقياس إلى تلك النسبة، فإن قرابة أربعين فيلما أو أقل بقليل من بين سبعة وتسعين فيلما تنافست في مسابقة المهر بجميع حقولها من بين قرابة سبعة وتسعين فيلما. هي أفلام أُنتجت خلال العام الحالي، في أغلبها، وسعت إلى التعبير عن رؤى وجماليات ومواقف معرفية وإنسانية مما يحدث في المجتمعات العربية على المستوى الراهن، أي البلاد العربية التي تشهد حراكا شعبيا أو كانت ثم تحولت إلى سواه، أم على المستوى الاجتماعي العميق وكل ما يتصل به من اقتصادي وسياسي. بالفعل، يحتاج الأمر إلى قراءة مختلفة وخاصة، كأن تنطلق من وجهة نظر بإمكانها رصد التحولات الكامنة وراء انفتاح المرأة على الصورة، وخاصة السينمائية، للتعبير عن نفسها، لتقوم بطرح أفكارها بهذا القدر من الجرأة وبهذا القدر من الجمالية. هنا هل نتوقع من مخرجة عربية أن تحظى بجائزة المهر العربي للأفلام الروائية الطويلة؟. وعلى أية حال، فإنه من بين خمسة عشر فيلما تنافست على جائزة المهر العربي للأفلام الوثائقية، فقد حازت اللبنانية زينة دكاش شهادة تقدير عن فيلمها “يوميات شهرزاد”، بينما ذهبت جائزة أفضل مخرج للمصرية سلمى الطرزي عن فيلمها “اللي يحب ربنا يرفع إيده لفوق”، وذهبت جائزة لجنة التحكيم الخاصة للبنانيتين: ديالا قشمر وكارول عبود عن “أرق”. في المؤتمر الصحفي الذي عقد في إثر العرض الأول لفيلمها الروائي الطويل الثاني “روك القصبة” اللافت للانتباه في حقل “سينما العالم” وليس داخل المنافسة على المهر العربي للأفلام الروائية الطويلة، قالت المخرجة المغربية ليلى مراكشي: “هناك جيل جديد من النساء العربيات القويات مثلما أن هناك جيلا جديدا من المخرجات العربيات اللواتي يردن التعبير عن مجتمعاتهن واللواتي يسعين إلى التغيير وسيكون على أيديهن”. قد يكون من الصعب لدى البعض تصديق ذلك، غير أن ما تفعله النساء العربيات إن جرى جمعه إلى ما يجري في حقول إبداعية أخرى، كفيل بأن يؤكد لنا تماماً أن ما قالته ليلى مراكشي ليس ببعيد عن الصواب أبدا. لكن، وبحسب مسابقة المهر العربي للأفلام الوثائقية، فما زال الفيلم التسجيلي هو الأقرب إلى المرأة العربية بوصفه وسيلة أقرب إليها وإلى مشاعرها الإنسانية للبوح بكل ما في دواخلها. أهي الشروط الإنتاجية التي تلعب دورا في هذا الأمر، أم أن هذا النوع هو الأقرب بالفعل إلى إحداث نوع من المكاشفة الحقيقية بين المرأة العربية وواقعها الاجتماعي؟. وبنظرة إجمالية إلى الأفلام العربية الوثائقية، ومن بينها الأفلام الإماراتية، حيث شاركت أربع نساء بأفلامهن من بين خمسة عشر مخرجا، هي الأكثر ملامسة على نحو مباشر للواقع العربي المعاش (الآن، وهنا)، الأمر الذي ينطبق بشكل نسبي على الأفلام الروائية العربية القصيرة أيضا. فقد احتلت الأحداث السياسية الراهنة المرتبة الأولى في الموضوعات التي جرى التطرق إليها عبر حكايا قصيرة ومختلفة وهامشية أيضاً. لحظات خاصة المومياء .. الأهم بوصفه نقطة تحوّل من بين هذه اللحظات الخاصة التي سطع بريقها في المهرجان، استعادة فيلم “المومياء” للمصري شادي عبد السلام، ليس على مستوى إعادة عرضه فحسب، إنما بوصفه “أهم فيلم في تاريخ السينما العربية، بحسب الاستفتاء الذي أجراه المهرجان لأفضل مائة فيلم عربي عبر هذا التاريخ الطويل للسينما العربية وذلك احتفاء بهذه السينما من قبل المهرجان وقد بلغ عامه العاشر. فقد حصل هذا الفيلم على مائتين وخمسة وعشرين صوتا من بين أربعمائة وخمسة وسبعين صوتا في هذا الاستفتاء الذي شارك فيه نقاد سينمائيون وكتّاب في حقول أدبية مختلفة ومخرجون وصحفيون وسواهم. هذا الاستفتاء صدر في كتاب أشرف عليه الروائي السوري والناقد السينمائي زياد عبد الله، عضو إدارة المهرجان، وقال فيه في صدد “المومياء”: “كان تأسيسا لنشأة فيلم عربي مغاير ... (واختياره بوصفه) أهم فيلم في تاريخ السينما العربية يضعنا حيال بناء مكونات الصورة في السينما العربية وانشغال نادر في تاريخ هذه السينما بالفن التشكيلي، إنه يعيدنا إلى جدلية السينما بوصفها فنا تركيبيا استوعب المعرفة الإنسانية وتجاربها”. وبالعودة إلى مقالة الناقد المصري سمير فريد، الذي كرّمه المهرجان لدورته هذه، فقد أُنتج هذا الفيلم عام 1969 بدعم مباشر من وزير الثقافة آنذاك ثروت عكاشة الذي قدم الكثير من الكتب المترجمة وغير المترجمة في حقل الفن التشكيلي، وكذلك بدعم “أدبي”، بوصف سمير ذاته، من المخرج الإيطالي روبيرتو روسيلليني، مثلما جرى عرضه لأول مرة في مهرجان البندقية عام 1970، عندما لم تكن هناك جائزة يمنحها هذا المهرجان بل يختار عروضا من السينما العالمية التي لم يسبق عرضها في أي مكان، إنما لم يُعرض في القاهرة إلا في عام 1975. وينتهي سمير فريد في مقالته هذه إلى وصف الفيلم بأنه “نقطة تحول في تاريخ السينما المصرية من حيث الانتقال من الواقعية إلى ما بعد الواقعية، ومن حيث الإعلاء من شأن المخرج – المؤلف بالمعنى الشامل والعميق للتأليف السينمائي”. عن السينما الفلسطينية السينما الفلسطينية.. هل هناك حساسية جديدة؟ بفوزه بالجائزتين “أفضل مخرج” و”أفضل فيلم” في حقل المهر العربي للأفلام الروائية الطويلة لهذه الدورة، فإن فيلم “عمر للمخرج هاني أبو أسعد الذي شارك برنامج إنجاز في دعم صناعته، قد حظي بدعم معنوي، على الأقل، في سبيل منافسة أقوى على جائزة أفضل أوسكار أجنبي لعام 2014. إنما ليس هنا بيت القصيد، فالفيلم الفلسطيني بالمجمل، الذي جرى عرضه في إطار هذه المسابقة بالإضافة إلى “عمر”، “مي في الصيف” لشيرين دعيبس و”ستيريو فلسطين” لرشيد مشهراوي، أو في إطار مسابقة المهر العربي للأفلام الوثائقية مثل “حبيبي بيستناني عند البحر” لميس دروزة أو “البحث عن ساريس” لجنان كولتر أو في إطار المهر العربي للفيلم الروائي القصير، تشير جميعا إلى حساسية ناشئة في صناعة الفيلم الفلسطيني. لقد بدأ هذا الفيلم سياقه التاريخي تسجيلياً بامتياز، وتركز على نقل “وقائع” هزيمتي العامين 1948 و1967 ونتائجهما الكارثية على الشعب الفلسطيني وكذلك نشأة المقاومة الفلسطينية، وما جاور ذلك من تركيز على الإرث الفولكلوري الفلسطيني الذي تعرض لنهب منظم من قبل دولة الاحتلال. بدءا من منتصف الثمانينيات، سيشهد تاريخ هذا الفيلم أول تحولاته مع “عرس الجليل” للمخرج ميشيل خليفي وما راكمه عبر تجربته وكذلك الحال مع المخرج رشيد مشهراوي، ومي المصري، على صعيد الأفلام الوثائقية والتسجيلية، وسواهم من المخرجين. وقد رصد هؤلاء المخرجون أوضاع المجتمع الفلسطيني من داخله ومن جوّانياته وتعرضوا له بالنقد، فظهرت في أفلامهم شخصية العميل مثلما ظهرت كذلك شخصية الرجل الشرقي الذي لا يتوانى في ضرب زوجته مثلا، لا حصرا. في مجمل هذه الأفلام بدا “الشخص” الفلسطيني رجلا عربيا عاديا، وتقريبا اختفت صورة “الفدائي” الذي يحمل بندقية ويختبئ في الجبال المتاخمة لفلسطين، ليحل محله “المقاوم” الذي هو جزء من نسيج اجتماعي يتأثر به ويؤثر فيه. غير أن هذا الاتجاه السينمائي كان يحتاج، على الأرجح، إلى دفعة أخرى من جيل جديد من المخرجين الفلسطينيين كي يتأكد وجود حساسية جديدة في تاريخ هذا الفيلم، خاصة مع ظهور المخرجين إيليا سليمان وهاني أبو أسعد، على مستوى الفيلم الروائي الطويل، ومخرجة من طراز سوسن دروزة على مستوى الفيلم الوثائقي والتسجيلي، بالإضافة إلى وجود هذا العدد الكبير من الممثلين الفلسطينيين والفنيين السينمائيين من ذوي الخبرات والمهارات العليا في الصناعة السينمائية. فـ “الجنة الآن” لهاني أبو أسعد و”يد إلهية” وأكثر من فيلم سابق عليه لإيليا سليمان، أخذت هذه الحساسية إلى منطقة أخرى من أبرز سماتها أن الفرد فيها ناجز تماما، ويحمل موقفا واضح الملامح تجاه واقعه اليومي والحياة العادية الفلسطينية المتأثرة عميقا بتقلبات الطقس السياسي. وبحسب الفيلم “عمر” على سبيل المثال لا الحصر، فقد دخلت في بناء الفيلم الفلسطيني تلك التفاصيل الخفية التي نشأت عن الحضور ثقيل الوطأة للاحتلال في نسيج الحياة اليومية الفلسطينية، وكذلك أثر هذا الحضور في تكوين الشخص الفلسطيني، لنتخيل وهذا أمر قائم ولا يزال، أن يولد شخص ويعيش طفولته ويصبح شابا، ولا يستطيع التنقل خارج إطار خمسة كيلو مترات. هذا ما سعى الفيلم الفلسطيني الجديد بحساسيته إلى نقله إلى الشاشة. هنا لا التباس في الهوية إنما هي التيارات السياسية التي تهب على المنطقة برمتها، وما تخلفه من عواصف تستمر في خلخلة المجتمع الفلسطيني، حيث الحديث هنا عن ما تبقى من المجتمع الفلسطيني في أرضه. غير أن هذه الحساسية قد تغذت، من ناحية أخرى، من منجز مخرجين فلسطينيين ولدوا وعاشوا في مختلف أصقاع الأرض، سواء في الجوار القريب مثل ميس دروزة، أو بعيدا مثل شيرين دعيبس أو جنان كولتر.ففي حين تذهب شيرين دعيبس إلى طرح مسألة زواج المسلم من مسيحية، لم تكن مطروحة على مستوى الواقع الاجتماعي الفلسطيني على الإطلاق منذ أن انتهت الانتفاضة الأولى وجرى توقيع اتفاقيات أوسلو، رأت جنان كولتر أن الأجدى هو اختبار مدى علاقة الشباب الفلسطيني في المخيم في الداخل الفلسطيني ذاته بهزيمتي العامين 48 و67، بينما تحتفظ ميس دروزة بموقف فردي ينطوي على علاقة رومانتيكية إلى حد ما بالمكان، وهو فلسطين هنا، وساكنه وهو الوجه الأخر للمكان متجسدا في هيئة شخص يسكنه ويملك القابلية لكي تحبه. يخلو تماما فيلم “البحث عن ساريس” من التباس في الهوية، فهو يعيد الهزيمتين إلى الذاكرة الفردية للفلسطيني عنهما إنما على وقع الحياة البومية في فلسطين المحتلة عام 1967، وعلى وقع العلاقة اليومية للمخيم الفلسطيني بالاحتلال، لا التباس هنا بل تأكيد إنما وفقا لتناول المسألة من زاوية أخرى، إذ لم يعد الفلسطيني رجلا كهلا يتذكر، بل شاب يقاوم يوميا ويتشبث بحقوقه في العودة لمكان أول هو ليس متخيلا أبدا، بل واقع يقوم الاحتلال بتزويره وحرفه عما هو عليه في الذاكرة الفلسطينية الجمعية. أما “مي في الصيف” لشيرين دعيبس فيمكن القول إنه نتاج التباس في الهوية، فالفيلم قد تكون ذريعته الحكائية والدرامية هي مسألة زواج المسيحية من مسلم، لكن ما يطرحه الفيلم الذي يتناول عائلة مسيحية من القدس هجِّرت عام 1967 إلى عمان، فهو في العمق يناقش أثر تعدد الأمكنة في حياة الفلسطيني على موقفه من مجتمعه ومما يحدث فيه إنما في الشتات وليس في الداخل الفلسطيني، ما يعني أن هناك افتراقا بين جيلين مختلفين أحدهما عايش الهزيميتين وآخر لم تتسن له رؤية فلسطين إلا عبر زيارتها، بمعنى أن الوعي بالمكان لم تتح له الفترة الكافية لاستكشافه بكل تضاريسه الجغرافية والاجتماعية والسياسية. الألم العراقي في هذه الدورة حازت السينما العراقية أكثر من تقدير وأكثر من جائزة، مثلما خصتها إدارة المهرجان بفعالية: “إرث عراقي – أطفال المستقبل”، التي جرى في إطارها تقديم عدد من الأفلام التي قدمت الطفولة العراقية الراهنة بما تركته الحرب فيها من آثار مدمرة نفسيا واجتماعيا وجسديا على الطفل ذاته، كما هي الحال “في أطفال الله” للمخرج أحمد ياسين الذي حاز جائزة الاتحاد الدولي للنقاد في حقل الأفلام الروائية القصيرة، وكذلك فيلم “أطفال الحرب” لميدو علي. فيلمان يفيضان بالألم، تخرج المسألة العراقية من سياقها السياسي المحلي والإقليمي والدولي، لتكون أوسع وأشمل بالمعنى الإنساني للكلمة، أي تفيض بحق عن الجغرافيا العراقية لتصبح مسألة إنسانية بامتياز. بذكاء، يعرض ميدو علي رسومات الطفل سيف صالح الذي يقطن في ملجأ للأيتام في بغداد رسومات بقلم الرصاص على الورق الأبيض رسومات بريئة للطفل يدين فيها الحرب وصانعيها، ويحرك المخرج هذه الرسومات حتى لكأنها تبدو في بعض مناطق الفيلم جزءا من فيلم كرتوني ينتمي لفئة أفلام الرسوم المتحركة. أما أطفال الله فيعرض لقصة أمير هادي، الطفل الذي مرّت به الحرب فخلفته وراءها مبتور القدمين، إنه الطفل العاشق المولع بطفلة أخرى من جيله “هوارة الخورة” حارسة المرمى بقامتها المنتصبة تماما، إذ يشجع فريقها من البنات في مقابل فريق من الأطفال الذكور في مباراة كرة قدم، فقط كي يلفت انتباه حارسة المرمى. في الفيلم كشف عميق لتلك اللحظة التي ينسى فيها الطفل ما تركته فيه الحرب ولنتألم نحن الناظرين إليه وليتألم هو أيضاً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©