الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نقد المكرّس

18 ديسمبر 2013 20:08
الدكتور عبد السلام المسدّي في كتابه الجليل “فضاء التأويل”، الصادر عن منشورات “دبي الثقافية”، يسلك في نقده الفذ مذهباً سردياً، هو أقرب إلى المباسطة مع المتلقي، في أسلوب مُطَعّمٍ بنكهة توحيدية – نسبة إلى بلدياته أبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة -، رغم أنه يعالج مسألة من أكثر المسائل تعقيداً في الوعي العربي الراهن. وهي إشكالية الترادف في اللغة العربية، التي شاع استخدامها على ألسنة النخبة، على سبيل الاستشهاد بها، لمؤازرة ما يذهبون إليه. في حين يرى الدكتور المسدّي أن الترادف ليس صنيع اللغة، وإنما هو وهمٌ يصنعه كسلنا وانبساطنا المتهافت على النغم والإيقاع، فنظل نسرف في الإطناب حتى نسكب المعنى اليتيم في أدنان متآخية، بعد أن نكون قد وهّدْنا مفارشها. فمعنى العلم ليس هو معنى الثقافة، ولا معنى الثقافة كدلالة المعرفة، ولا حتى المعرفة كالعلم، ولكن نزعة التساهل تفضي إلى تغييب الوعي فيأتي التداول بين الناس على نتوءات المعاني، فيمحو منها سمات الفروق، ويشيع إحساسا من الاطمئنان الغامض، يُسرّبه التواتر، فيوهمهم أن مظنونهم من الألفاظ واحد. ويعتقد الدكتور المسدّي أن الفكر لن يستقيم إلا بعد أن يتصالح مع الأداة التي بها يشتغل وإليها يلجأ في الإفضاء والتجلي، فما لم تَسْلم روابط الذهن بالمعاني وبظلال المعاني، فسيعم استخفافنا بفروق الدلالات، وسنظل في خصام مع المقاصد، وفي ذلك إيذان بعلو سلطان الالتباس وانهزام سلطة البيان. وإني لأزعم أن ازدهار ثقافة ما، في أي زمن ما، إنما تقاس بمدى انجلاء الدلالات في أذهان أصحابها. إشكالية الصفة والذات ويواصل الدكتور المسدًي مباسطته مع القارئ أو المتلقي، فيتناول إشكالية أخرى في الثقافة العربية، ويقول: أجيء الآن إلى الفكرة اليتيمة التي أعرضها عليك في جوهرها الخالص، دونما طلاء أو مساحيق: فكأني بشيء ما في ثقافتنا العربية قد جعل التمييز بين الصفة والذات أمراً صعباً جداً، هو صعب على صاحبه، وهو أصعب على الناس، لا يستسيغونه لأنهم يحملونه في العادة على الانفصام النفسي، أو على “الازدواج” في معناه اللاأخلاقي، لا يقبلون منك أن تقول لهم: “إني بصفتي الشخصية لا بصفتي الوظيفية أرى هذا الرأي”، أو أن تقول لأحد جاء يطلب المؤازرة: “إني، بصفتي الشخصية، أتعاطف جداً مع قضيتك، ولكني بصفتي الوظيفية لا أرى لك حقاً يفضل حق الآخرين فيها”. مشيراً بذلك إلى الازدواجية المضللة، المكرسة على سطح الوعي، وخصوصاً لدى النخبة. ذلك أن المثقف يُفترض به الانحياز إلى صوت الحق والحرية دون مواربة، مهما تقاطعت أو تعارضت مع وظيفته أو منصبه الرسمي. ويرى الدكتور المسدّي أن المعرفة معادلة كمعادلة أهل الرياضيات، فالأعداد المعلومة، هي ما وقف عندها علمنا، والرموز المجهولة فيها، هي ما نسعى إلى استدراكه. وما الثقافة إلا المنهج الذي نتوسل به لتحويل المجهول إلى معلوم. وفي خانة المعلوم نصادف المنصوص عليه، والمستشهد به، والذي فرغ الناس من تفصيل القول فيه، كما نصادف السائد، والمعترف به، الذي كرسه الاستخدام وتواطأ الجمهور على التسليم به. ثم نجد أشياءَ قد صادر الناس عليها مصادرة تامة، فلا هم يبحثون لها عن برهان، ولا هم يقبلون في أمرها سؤالاً يهز ثوابت اليقين لديهم، لأنهم اطمأنوا أنها في مدارج المألوف. وبمقابل المعلوم يقف المجهول، الذي هو أشبه بالحروف الرياضية، ويتعين على الفكر التفتيش عن عناصره “كما يفتش الرياضيون عن المكوّنات السينية في معادلاتهم الجبرية”. لأن المهمل في حديث الناس أهم أحياناً من المعلن، وأن المتروك والمهجور والمنسي، ثلاث حقائق، وليست حقيقة واحدة، لأن حمل الدلالات على الترادف هو من ملاجئ الكُسلاء. وهكذا تتعدد المفاتيح بيد الذهن الباحث عن الرموز السينية في معادلات الجبر الثقافي، وأيسرها أن تعرف ما تواطأ الناس على كتمانه حتى تكتموا عليه، وأدقها أن تعرف ما لا تقوله الخاصة للعامة فيما مضى، وفيما يظن بعض الناس أنه لم يزل، وأعظمها محنة البحث عن خاصّ الخاصّ، الذي لم يضع له الناس ألفاظاً تدل عليه، ومن أشدها على النفس وأوجعها في القلوب هتك الحُجُب، وإماطة اللثام، وتعرية الأستار. ولكن أقربها منالاً وأكثرها على المخلوقات نفعاً أن تعرف أن منظومة المعاليم في الثقافة هي نص اللغة، وأن منظومة المجاهيل هي ما وراء اللغة، وليس البحث فيها إلا بحثاً في أصول العلم ومسالك المعرفة. جموح العقل.. تمرده ويوضح الدكتور المسدّي ما ذهب إليه بأن تراكم الأدبيات الفكرية أدى إلى الإجماع على تعدد مصادر المعرفة، وقضت بأنها خمسة، هي: الحواس، والعقل، والحدس، والغيب، والحال الشعرية. ولكن المسدّي يرى أن الفكر النظري يقفز قفزاً على الإشكال الجوهري فيها، الذي يتلخص بكونها غير متكافئة بالتناظر، ففي الحواس والحدس والغيب والحال الشعرية، يُقر فيها كل منتسب إلى موقعه بسائر المواقع الأخرى، وجميعها يقر بسلطة العقل، بينما إقرار العقل بالحواس والحدس والشعر ليس بالضرورة إقراراً بالغيب. ما يعني أن الإقرار بالأربعة هو اعتراف بتنوع المصادر بما يزيدها غنى، بينما إقرار العقل بالغيب يقتضي التخلي الطوعي عن الاختلاف الذي هو غنى. ولما كان العقل بطبعه جموحاً فقد لا يرى في الاعتراف بالحدود مجداً، وإنما يرى فيه هزيمة وانخذالاً، فينقلب العقل الجموح عقلاً متمرداً. وهكذا إذا صادر العلم الطبيعي حقيقة أن المعرفة هي استخراج المعلوم من المجهول، فإن الفكر النظري لا ينفي أن يكون الإقرار بجهل المعلوم هو بذاته ضرب من العلم. ولم يكن عبثاً أن قال الأجداد: من قال لا أعلم فقد أفتى، وقالوا: العجز عن الإدراك إدراك. وهم قالوا ذاك حين كانوا يتجادلون في أصول الاعتقاد، ويتخاصمون حول الصفات، عما إذا كانت قديمة أم حادثة، فاستطردوا ونادوا بالتسليم، فكانت قولتهم في نصها الكامل: “العجز عن الإدراك إدراك والخوض في الذات الإلهية إشراك”. ويتابع الدكتور المسدّي بقوله: “حين نمتطي جواد التأويل تسقط الحواجز التي أقامتها الأعراف بين حقول المعرفة، فلا يبقى من معنى لحرمات الاختصاص كما يصطلح عليها البحث الأكاديمي. ذلك أن الوعي هو أن ترى ببصيرتك ما لا تراه ببصرك. ولا يقتصر هذا على الانتقال من عالم المحسوسات إلى عالم المجردات، وإنما يصدق كذلك على الارتقاء في مراتب المدركات، وسبيلها جميعاً الاستخلاص التجريدي ضمن دوائر الدلالات والمقاصد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©