الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مقالات النّقاش·· كتاب يحفر للفكر أخدوداً في الزّمن

مقالات النّقاش·· كتاب يحفر للفكر أخدوداً في الزّمن
12 مارس 2008 03:46
الإجابة هنا ترتبط بمدى الوعي في بعده الزمني الممتد لجهة تخليد الفكر وتوظيفه لصالح التغيير، وأتصور ـ وأظن أن كثيراً من القراء يوافقونني على ذلك ـ أن المفكر الراحل رجاء النقاش كان من الذين حافظوا على قدسية الكلمة ونقلها من مستوى التعبير إلى الحركة، بل استمراريتها في الزمن دون توقّف باعتبارها أكثر بقاء وحفرا لأخاديد في الزمن من صاحبها، فهي الشق المعنوي، الرمزي بعد أن يفنى الوجود الفردي للكاتب أو الجماعي للأمة·· إنها أطول عمرا من صاحبها ومن الذين يتحدّث عنهم أو يحادثهم، وهذه الرؤية إن جاز اعتبارها كذلك، تنطبق إلى حدّ بعيد على كتابه الذي بين أيدينا· السمو·· وخلافات الزّمن الملاحظ أن الكتابة لدى الناقد رجاء النقاش ـ حسب قراءاتي المحدودة لبعض من كتاباته ـ تسمو على خلافات الزمن وعلى لغة الأضداد وعلى تغليب السياسي أو ''المصلحي'' أو ما سواهما، محددها ومجلّيها جدلية النص وحركته، وبالرغم من أن كثيرين ممن يكونون على صلة مباشرة من ناحية العلاقة الشخصيّة بالراحل رجاء النقاش إلا أنهم تابعوا فكره بنَهَمٍ وبإقبالٍ وبمودةٍ، قد تنبت مع الأيام فكر جديدة رغم غيابه عنا· في رحلته الأدبية والفكريّة لم يكن إلا واحداً من أولئك المفكرين ضمن التاريخ الطويل للبشرية الذين لم نلتق بهم أو نعرفهم عن قرب، فمثلا هل من علاقة شخصيّة تربطنا بعد قرون بأرسطو وأفلاطون أو الفارابي وابن رشد؟، وبالنسبة لجيلنا، هل من علاقة شخصيةٍ دائماً تربطنا بزكي نجيب محمود أو طه حسين أو شكيب أرسلان أو مالك بن نبي أو محمد إقبال أو علي شريعتي أو رايت ميلز أو لوسيان جولدمان والقائمة طويلة؟· معنى ذلك أن الأساس في اللقاء هو الفكر وتبعاته وتجلياتها أيضاً· من هذا المنظور يمكن أن نقدر ما قامت به ''دبي الثقافية'' ليس فقط لكونها نشرت مقالاتٍ لرجاء النقاش في أعدادها ولكن لأنها جعلت تلك المقالات تتحول إلى كتاب، أي زادت من عمرها وحافظت على تداولها وبعثته مرة أخرى من خلال فكره بيننا حتى أننا حين عدنا إلى إعادة قراءة لما قرأناه سابقاً بدت لنا الصورة أكثر وضوحاً، وكأننا نقرأ تلك النصوص للمرة الأولى، فنرى جوانب أخرى إضافية تتعلق بالمسألة الإبداعية بوجهٍ خاص، لم تكن بادية لنا من قبل وكأن تحويل المقالات إلى كتاب أوجد مناخ الجلوس إليه ونقلنا من سرعة البصر إلى عمق البصيرة، وإذا تحققّ هذا فقط بفضل جمع المقالات في كتاب فإنه يكفي عمّا سواها من إنجازات معرفية بكشفها التراكم· بصمة الخط مما أثار اهتمامي كقارئ هي تلك الرسائل التي كان يرسلها الراحل الأستاذ رجاء النقاش إلى الصحفي والكاتب ناصر عراق باعتباره مدير تحرير مجلة ''دبي الثقافية''، إذ بعد أن أبعدتنا وسائل العصر خصوصاً الكومبيوتر عن ربط علاقة ثقةٍ بين خط الكاتب ونصه، فأصبحت خطوط النصوص واحدة خالية من أي علامات دالة عليها، بدون بصمة تميّزها فيما بينها، جاءت تلك الرسائل بعد رحيل النقاش لتجعلنا نراه من زاويةٍ أخرى تكشف عن بصمته في الكتابة وعن خطه الذي هو يتعدى الذكريات، كما تبين أسلوب النقاش، أو بالأحرى تطهر مستوى الحوار بين الكاتب، وهو الذي خاض تجربتها منذ عقود، واعتلى مناصب مختلفة تتعلق بالنشر، وبين المشرفين على المجلة· الكتاب هو، كما ذكرنا، مجموعة مقالات نشرت في ''دبي الثقافية''، وحافظ فيها الكاتب على الإضافة النوعية تركيزاً ومحاولةً لإعادة تجسيد تاريخ حي، نابض، متدفقً، ومن خلالها تعلمنا وعرفنا، كيف يختلف الكبار حول القضايا الأساسية للأمة، فالهَم واضح وجامع ـ الهَم الجمعي بالطبع ـ في مواقف أوردها الراحل رجاء النقاش تخص توفيق الحكيم ونزار قباني وطه حسين وأم كلثوم وغيرهم· إن إعادة إنتاج التاريخ الثقافي لأمتنا ليس فقط عملية تساهم في الوعي والتغيير ولكنها ـ لمن شاء أن يعتبرها كذلك ـ تجسّد وتحافظ على التراث المعاصر والقريب، الذي يمكن أن يتحول إلى قضية جدلٍ أو نقاشٍ بين أطرافٍ مختلفة، فالخطاب الثقافي هو نتاج مرحلةٍ تاريخيةٍ يؤثر فيها سلباً أوإيجاباً القرار السياسي وموقف الأنظمة وتغير أنظم الحكم·· فالثقافة ليست مالكةً لفضاءٍ خاصٍ بها بحيث يمكنها أن تتحرك أو أن تتوارى داخل برجها العاجي إنما هي تعبير عن الذات الفردية والجماعية في تشابك القضايا المختلفة على أرضيةٍ واحدةٍ يصنعها البشر ويعولون على تطورها· عروبة المحلّي لكل ما سبق يمكن القول: مع النّقاش قراءة نتفاعل مع الماضي ليس لتقديم الصيغة الجمالية لجهة القول إنه ماضٍ جميل وإنما لكون الفعل والحركة فيه أكبر وأقوى وأجل، وحين نبتعد عن مجال النص الأدبي والإبداعي ونرى الوقائع كما هي من ناحية تغير المبدع والكاتب في لحظة التطور المرتبطة بالقرار السياسي أو بنظام الحكم الجديد تبدو ردود الأفعال أو الأفعال من الحاكم تجاه المثقف أو من المثقف تجاه الحاكم عند لقائهما أو تصادمهما في لحظةٍ زمنيةٍ مشتركة، محاولة واعية للكشف عن حدود العلاقة التي يتم فيها التجاوز أو الخضوع أو الرفض أو القبول طبقاً لمستوى الإدراك لدى هذا المفكر أو ذاك، وبشفافية هذا المبدع أو ذاك· لم تكن المقالات التي قدمها الراحل النقاش ـ مع أنها حملت ذكريات التاريخ المصري ـ محليةً خالصة وإنما كانت عربيةً أيضاً، فالخلاف من أجل قضيةٍ ما تأييداً أو رفضاً من الحاكم أو من الأدباء يظهر فيها البعد القومي جلياً، مثل ذلك ما جاء في روايته لخلفية غضب السادات على نزار قباني، فالمسألة هنا مشتركة بين ما هو مصري كفعلٍ عسكري وما هو عربي كموقفٍ قومي من إسرائيل، بمعنى آخر أن الحدث الثقافي المصري وهو بالطبع حدث عربي على الأقل لغةً ووجداناً هو أيضاً حدث قومي بامتياز، ولا أتصور أن الكاتب قام بمحاولة التطويع للنصوص حتى تبدو مقبولة للقارئ العربي في الخليج، مراعياً في ذلك مكان صدور مجلة دبي الثقافية، وإنما لكون الأحداث فرضت نفسها من هذا المنظور وإلا ما كنا نجده يتكلم عن نزار قباني وحكاية الأزمات الثلاث التي عصفت بحياته بعد ثلاث سنواتٍ من رحيله· من ناحيةٍ أخرى فإن الناقد رجاء النقاش بيّن لنا المشترك بين المبدعين وقضايا أمتهم بأسلوبٍ جذابٍ شائق خلا من المبالغة مع محاولاتٍ واعية ومقصودة لشرح تلك الأحداث بعد أزمنة حدوثها، معتمداً أكثر من تفسيرٍ وأكثر من رؤية مرجحاً في النهاية لرأيه أو موقفه منها أو قراءته، ولم يكن ذلك في نظري تجنيا أو حكما على الآخرين في غيابهم، ولكنه إعادة إحياء لتراثهم القريب منّا والبعيد عنا أحياناً في الآن نفسه لجهة الفهم، الأمر الذي ينتهي بنا إلى القول: إن ما قدم لنا من خلال مقالات النقاش هو إدراك لعمق القضايا المطروحة ومتابعة اجتهادية أحياناً، لكنها تؤسس للنصوص اعتماداً على الأصل منها، وعلى الدراسات التي أجريت حولها، وعلى الكتابات الجديدة التي تظهر بين الفينة والأخرى مؤيدةً أو رافضةً لما جاء فيها، وهو في كل ذلك أنار لنا طريق التعامل مع النصوص دون أن نفقد متعة القراءة ودون أن نظل بمنأى عن استعمال العقل والوقوف أمام إشكالاتٍ تفرضها النصوص نفسها خصوصاً في تلك المساحة المشتركة بين الثقافة والسياسة· الناقد·· وصناعة التاريخ مقالات النقاش في هذا الكتاب الذي تقدمه ''دبي الثقافية'' ليست عملاً جديداً من ناحية الشكل ولكنه جديد من ناحية المضمون لكون النصوص نفسها ستظل مؤثرة إلى زمنٍ طويل، بل ربما سيعول عليها عند أزمنة البحث العلمي المستفيض حين يتم الاحتكام إلى الثقة في الباحث أو الكاتب مع ربط ذلك بالمنهج وبالرؤية وبالمشروع الفكري النابض بالحيوية، الدليل أنه ما كان لنا أن نصل إلى فهم كثيرٍ من كتابات توفيق الحكيم وطه حسين وعباس محمود العقاد ونزار قباني دون الرجوع إلى خلفيات الكتابة وأزمنتها وهو ما بينه لنا النقاش ـ رحمه الله ـ في كتاباته من خلال هذه المقالات التي بين أيدينا· على مستوى آخر من الطرح عمل النقاش على الجمع في هذه المقالات بين ما هو خاص وما هو عام من خلال إحساس المبدع بضرورة التدخل في مواقف بعينها مهما كانت مكلفة، فصناعة التاريخ ليست حكراً ها هنا إذاً على رجال الحكم والسياسة بل هي بالأساس نتاج الثقافة بما في ذلك الثقافة السياسية، عندها تكون القضايا الوطنية سواء المتعلقة بالطبقات الاجتماعية والثروة الوطنية وتوزيع السلطة ومسألة العدل وحقوق المواطنة أو تلك المتعلقة بالصراع الدولي لجهة الحفاظ على أمن الدولة ووحدة الوطن أو في الأقصى البعيد التحرر من الاستعمارية· إن رجاء النقاش هنا كان يبني لنا ذاكرتنا الجماعية من خلال طرحه للقضايا الثقافية بغض النظر عن مدى قبول أطروحاته أو رفضها من التيارات المختلفة، فما كان ليثنيه موقف الآخرين من تجسيد التاريخ في حركته، وتأصيل مرجعية في الحوار أو الخلاف يمكن أن نستند إليها دون أن نعتبر ذلك خارج النطاق البشري أو نصعده ليبدو عملاً ملائكياً، لأنه ـ باختصار ـ فعل بشري قابل للنقاش أو للرفض أو التغيير، لكن المهم في كل هذا أن يحكى ويذكر ويشرح حين تدعو الضرورة لذلك وأتصور أن ذلك ما قام به النقاش ''رحمه الله''· الكلمة الصادقة·· والعبارة الآسرة ''أمضى النقاش حياته وأفنى عمره مدافعاً بالكلمة الصادقة عن الكلمة الصادقة وبالعبارة الآسرة عن العبارة الآسرة، وكان جل همه نشوء جيلٍ جديدٍ من المثقفين يؤمن بفضيلة الحوار ويقدس حق الآخر في التعبير عن رأيه، أيا كان ذلك الرأي صائباً أم غير صائب، وتشهد له الأجيال التي تتلمذت على قلمه ونهلت من علمه وأدبه وعطائه الثر الذي لم ينقطع حتى آخر أيام حياته'' سيف المري، رئيس تحرير مجلة دبي الثقافية تحية لروح إنسان نبيل ''·· ها هو كل ما خطه وصاغه الناقد الراحل رجاء النقاش ونشر في دبي الثقافية بين يديك أيها القارئ الكريم لتعم الفائدة والمتعة، أما أنا فكلي أمل أن يكون هذا الكتاب تحية لروح إنسانٍ نبيل وناقد كبير كان لي حظ أن أصادقه في أعوامه الأخيرة، فاستمعت له وتعلمت منه، سلام على روحك الطاهرة يا أستاذ رجاء ناصر عراق، مدير تحرير مجلة دبي الثقافية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©