السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ابراهيم الكوني ساردا

12 مارس 2008 03:48
إن ما يميّز أعمال إبراهيم الكوني أنها نجحت في أن تدفع إلى إعادة النظر في بعض الأفكار التي اعتبرت الرواية أو القصة من الأجناس التي لا يمكن أن تظهر إلا في المدن، وتمكّنت من تشغيل الصحراء كفضاء يغري بالتشخيص والتخييل، كعالم جذّاب حافل بالرموز والأساطير· والأكثر من ذلك، أن إبراهيم الكوني استطاع أن يكتب نصوصا تستنطق الصحراء بطرق فنية جعلتها خارج التصنيفات الأجناسية المعروفة، فقد أصدر إبراهيم الكوني سنة 1991 كتابا سمّاه: ''ديوان النثر البرّي''، وهو عبارة عن نصوص سردية لا تنضوي تحت صنف أدبي معين· وفي نصوص إبراهيم الكوني، نجد الصحراء تكتسح الفضاءات والعوالم التخييلية لفنون السرد والكتابة· وتنكشف قيمة هذه النصوص عندما نأخذ بعين الاعتبار السياق الذي ظهرت فيه: أزمة أسطورة التمدّن والتقدّم في المجتمع الغربي المعاصر، وأزمة النهوض من جديد في المجتمع العربي المعاصر، وخاصة بعد توالي الهزائم والفجائع والانكسارات· وتتقدم الصحراء في نصوص إبراهيم الكوني في صورة من أهم علاماتها: ـ أنّ الصحراء نقيض المدينة: الأولى فضاء أسطوري روحي، والثانية فضاء واقعي مادي· ـ أنّ الصحراء فضاء أهمّ ما يميزه هو التضحية بالمادي لصالح الروحي والرمزي، فأغلب شخصياته زاهدة في الحياة، منكرة للتملك، ومولعة بنوع من الحرية الصوفية· ـ أنّ الصحراء فردوس مفقود، وواحة مفقودة، مفقودة لكنها موجودة، لا يعرف أحد مكانها ولكن لا أحد ينفي وجودها، هي بلا شك واحة في أعماق الصحراء وبواطنها· ـ أنّ الصحراء فضاء تجربة مغايرة لتجارب المدينة، فتجربة الحياة في الصحراء لا يمكن أن تكون تجربة إلا إذا بلغت الحدود القصوى، والشخصيات في روايات الكوني وقصصه موجودة على حافة الحياة دائما، وكأنها في صراع أبدي مع الموت· لا وقت لديها للتفكير إلا بما يحفظ لها استمرار حياتها، ويحصّنها من مواجهة الفناء· والملاحظ أنّ تجربة الموت في الصحراء لا تعني الانتقال إلى العالم الآخر فحسب، أي لا تعني الاندثار والانقراض فقط، بل إنها قد تعني الانبعاث من جديد أيضا، بمعنى استعادة قوى الحياة والصمود والتحدّي، وأسباب مواجهة الفناء والموت· ولا تكتفي نصوص إبراهيم الكوني بأن تتحدث عن الصحراء، ذلك لأنّ هذه الأخيرة ليست مجرد موضوع يخوض فيه الكاتب، بل إنها الموضوع الذي يستحوذ على الكاتب والكتابة، شكلا ومضمونا· فان تكتب الصحراء عند إبراهيم الكوني معناه أن تحفر بعيدا وعميقا بحثا عن مجالات أخرى مغايرة للكتابة، بحثا في الكتابة عن تلك الواحة الموجودة المفقودة التي ما انفكّ كتّاب كبار يبحثون عنها دون جدوى· وهو ما يقتضي طريقة جديدة في السرد والكتابة· وأول ما يلفت الانتباه في نصوص إبراهيم الكوني أنها قصيرة وقليلة الكلام، وحكاياتها تميل إلى الاقتصاد والكفاف، فتكتفي بالموضوعات القليلة على عكس الرواية التي تزخر بمشكلات وموضوعات لا حدّ لها ولا نهاية، وهذه من علامات التبذير والترف التي استمدتها الرواية من واقع المدينة· وهكذا، فنصوص الصحراء تؤسس كتابة لا تحبّ الثرثرة قدر ما تميل إلى التكثيف والاختزال و ما قلّ ودلّ، أي أنها تفضّل لغة الرمز والإيحاء والاقتصاد، بالطريقة التي تجعل الشكل السردي يبدو فقيرا بخيلا مثل أرض الصحراء الطبيعية، ولكنه يضمر، في الوقت نفسه، برمزيته واقتصادياته، كنزا بل سرّا عظيما· وكما الأمر في الصحراء، نجد الكتابة لا تستمدّ مقومات حياتها ووجودها من العالم الواقعي فحسب، بل من عوالم الأسطورة بالأساس· وعلى عكس النزعة الواقعية التي تهيمن على روايات المدينة، وتختزل الحياة والوجود في المعيش المادي الملموس، نجد الكتابة عند إبراهيم الكوني تتكلم لغة الأسطورة، فقد بات واضحا اليوم أنه لا يمكن للرواية من دون هذه اللغة أن تكون رواية قادرة على فك لغز الوجود، وهذا ما يقصده الكوني عندما قال: ''وجودنا لغز لا يكتمل وجوده إلا بوجود الثالوث: الرواية، الخلاء، الأسطورة· الرواية روح اللغز، والخلاء جسده، والأسطورة لغته· الرواية فيه روح، والأسطورة له روح هذه الروح··· السرد لا يبقى سردا، والرواية لا تصير رواية، إذا لم تتكلم لغة الأسطورة''· فرواية المدينة تمنح هذا الإحساس بحتمية الحياة داخل سجن اسمه الواقع، والكتابة عندما تتكلم لغة الأسطورة تكون لها قابلية توليد الصور الكونية البدائية التي تقول الرغبة في الحياة: صور الفردوس المفقود، الانبعاث بعد موت والعود الأبدي··· وهي صور تمنح الإحساس بإمكانية الحياة، بإمكانية استعادة الحياة الأولى· ولا تخفى قيمة هذه الصور التخييلية في ظل سياق معاصر يسوده الإحساس بموت التقدم المديني، والإحساس العميق بالفجيعة والموت بعد توالي الهزائم والفجائع على الإنسان المعاصر، والإنسان العربي خاصة· تعني كتابة الصحراء اكتشاف منطقة جديدة وخصبة في جغرافية الكتابة، تفتح بلا شك آفاقا خصبة أمام إشكالية الكتابة، في اقتصادياتها وجمالياتها الجديدة، في أسئلتها، في بحثها عن هذا الشيء الغامض الذي يفتقده الإنسان المعاصر· ü هذه المقالة خص بها الناقد المغربي المعروف الدكتور حسن المودن ''الاتحاد الثقافي'' بمناسبة فوز الروائي الليبي ابراهيم الكوني بجائزة الشيخ زايد للكتاب ـ فرع الآداب·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©