الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فنون المصاحف درة التاج في عصر محمد بن قلاوون

فنون المصاحف درة التاج في عصر محمد بن قلاوون
20 ديسمبر 2013 20:42
شهدت مصر خلال عصر سلاطين المماليك اهتماماً بإنتاج نسخ فخمة من المصحف الشريف، وكان السلاطين، والأمراء يتنافسون على تزويد خزاناتهم الخاصة والمكتبات العامة في منشآتهم من المساجد والمدارس بالمصاحف، التي ينتجها أمهر الخطاطين، والمزخرفين، والمذهبين، والمجلدين. ورغم أن عدداً من تلك التحف النادرة، التي تبرهن على رقي فنون إنتاج الكتاب، قد تسرب إلى عواصم أوروبا، فضلاً على اسطنبول وقت أن كانت حاضرة للخلافة العثمانية، فإن ما تبقى منها بمصر وجله من مقتنيات دار الكتب المصرية يبرهن على ما بلغته فنون المصحف من جمال وإبداع. شهد عصر السلطان الناصر محمد بن قلاوون نهضة كبرى في نسخ المصاحف وتذهيبها أسوة بما عرفه هذا العصر من نهضة عمرانية وفنية تشهد بها عمائر القاهرة ومقتنيات المتاحف العالمية الكبرى. وإذا كان البلاط في ممالك المسلمين بالشرق مثل بلاط حكام المغول المسلمين بالعراق وإيران، وبلاط أحفاد تيمورلنك بخراسان ووسط آسيا والهند، وبلاط الدولتين الصفوية والعثمانية قد عرفت فيه المراسم الملكية لإنتاج المخطوطات المصورة، فإن بلاط المماليك سبق الجميع إلى توظيف أفضل الكفاءات والمهارات لنسخ وتذهيب وزخرفة وتجليد المصاحف، وخاصة من تلك الربعات الضخمة التي كانت توضع في بلاط الملوك برسم القراءة فيها، أو توقف على مكتبات منشآتهم المعمارية لانتفاع أهل العلم بها، أو برسم قراءة القرآن ترحما على أرواح الملوك والأمراء، وفقا لشروط الواقف. خدمة مستقرة حرص الفنانون، الذين عملوا في خدمة بلاط الناصر محمد سواء في سلطنته الأولى التي امتدت لعشر سنوات أو في فترة حكمه الأخيرة، التي دامت قرابة 32 عاما على التوقيع بأسمائهم على تلك المصاحف، وبعضهم يشير إلى تلمذته على يد فنانين، نرى توقيعاتهم على أعمال سابقة، وهو ما يشير إلى أن هؤلاء كانوا يعملون في خدمة البلاط بشكل مستقر، وربما منعوا من العمل لغير البلاط المملوكي. وثمة نسخ مخطوطة من المصحف الشريف آلت بطرق شتى إلى المتحف البريطاني بلندن، والمكتبة السليمانية بأسطنبول تحمل توقيعات اثنين من مشاهير الخطاطين في العصر المملوكي، وكذلك ثلاثة من المزخرفين والمذهبين، الذين شاركوا معهم في إنتاج النسخ الملوكية الفخمة من المصحف الشريف. وأقدم تلك النسخ أجزاء من نسخة قسم فيها المصحف إلى سبعة مجلدات يعرف واحدها بالسبع، وقد تم عملها بناء على أمر من الأمير بيبرس الذي عرف بالجاشنكير، وهو اسم وظيفته كذواق للطعام، يقوم بتناول كل أصنافه قبل السلطان خشية من أن يدس له أحد السم. وقد سجل في الصفحة الأخيرة من سبع منها «أمر بكتابة هذا السبع الشريف المقر الكريم العالي المولوي المخدومي الركني أعز الله نصره أستاذ الدار العالية وكتبه محمد بن الوحيد حامداً الله تعالى ومصلياً على نبيه محمد وآله وصحبه ومسلماً وفرغ منها بأسرها في سنة خمس وسبعماية». ويشير هذا النص بوضوح إلى أن محمد بن الوحيد، هو الذي قام بنسخ المجلدات السبعة كلها أما الألقاب الفخمة، التي أسبغت على ركن الدين بيبرس بوصفه أستاذ الدار العالية فهي تعبر بوضوح عن نفوذ بيبرس الذي ضيق على الناصر محمد وسلبه كل صلاحياته حتى اضطر السلطان للفرار من سطوته إلى حصن الكرك بعد ثلاث سنوات فقط من إنتاج هذه النسخة المخطوطة. وتشير التوقيعات في بعض مجلدات هذه النسخة إلى قيام اثنين من المزخرفين، والمذهبين بالمشاركة في إنجازها، وهما عبدالله البدري وأبوبكر المعروف باسم صندل. زخرفة وعبارات ومن أجمل ما خطت يد محمد بن الوحيد في هذه النسخة صفحة بها بداية سورة الملك مكتوبة بخط الثلث باللون الذهبي المحدد باللون الأسود، ويبدو واضحاً جهد المزخرف والمذهب في رسم وزخرفة الفواصل بين السور، وتعيين نهاية السورة السابقة، التي كانت تأتي على يمين السطر وليس في نهايته من جهة اليسار. هناك صفحة من السبع الخامس بها زخرفة عبارة عن جامة مفصصة، تحتوي على زخارف نباتية على أرضية زرقاء، وفي أركان المربع الذي تتوسطه زخارف نباتية مماثلة أيضاً. أما النسخة الثانية، والتي كانت بقصر طوبقابي سراي قبل أن تنتقل للمكتبة السليمانية بأسطنبول فهي من عمل الخطاط شادي، والذي ينتهي بنسبه لسلاطين بني أيوب، وله أيضاً أعمال محفوظة في المكتبة الآسيوية في بطرسبرج بروسيا، وقد سجل فيها هذا الخطاط بيده في صفحتين متقابلتين ما نصه «نجزت الختمة الشريفة شرفها الله، وعظمها على يد العبد الفقير الراجي عفو ربه وغفرانه شادي بن محمد شادي بن داود بن عيسى بن أبي بكر بن أيوب تغمدهم الله برحمته»، ولتلك الكلمات مغزاها العميق من الناحية التاريخية ذلك أن هذا الخطاط الموهوب الذي شرف بكتابة المصحف في تلك النسخة هو حفيد الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وقد آلت به الأقدار لأن يعمل في خدمة بلاط الناصر محمد بن قلاوون ابن المنصور قلاوون الذي كان مملوكاً للصالح نجم الدين بن أيوب. وسجل بدائرتين في كل من الصفحتين ما يؤكد أن النسخة، التي اعتبرت من ممتلكات الأوقاف العثمانية كانت في الخزانة الملكية للسلطان الناصر محمد، بعدما أنتجت في عام 713 هـ أي في السنوات الأولى من سلطنته الثالثة، ويقول النص في الصفحة اليمنى «للخزانة العالية المولوية السلطانية الملكية الناصرية أدام الله أيامها ونشر في الخافقين أعلامها، وعظم قدرها وجعل ملوك الأرض طوع نهيها وأمرها آمين». أما في الصفحة المقابلة فنقرأ بها «وكان الفراغ من كتابتها يوم الثلاثاء لثلاث بقين من شهر رمضان المعظم عام ثلاثة عشر وسبعماية وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً. وقد عمل في زخرفة وتذهيب هذه النسخة عبدالله البدري، الذي استمر يعمل في خدمة بلاط الناصر محمد بن قلاوون، منذ إنتاج نسخة بيبرس الجاشنكير في عام 705 هـ مع تلميذ لأبي بكر المعروف بصندل، يعرف باسم محمد بن علي الرسام، وأعمال الاثنين من زخرفة وتذهيب تبرهن على استقرار الأسلوب الفني لمدرسة البلاط. إبداعات تتجلى إبداعات عبدالله البدري، الذي استمر يعمل في خدمة بلاط الناصر محمد بن قلاوون، منذ إنتاج نسخة بيبرس الجاشنكير في عام 705 هـ، مع تلميذ لأبي بكر المعروف بصندل، يعرف باسم محمد بن علي الرسام، تتجلى على سبيل المثال في غرة «السبع السابع» ففي الصفحة اليمنى نجد كلمة السبع مكتوبة بلون ذهبي وسط ترس لطبق نجمي محصور داخل إطار من زخارف مجدولة باللون الذهبي. وقد استخدم اللون الأزرق للأرضيات، التي تحتضن زخارف نباتية متقنة رسمت باللونين الأحمر والذهبي، ويتكرر ذات النسق في الصفحة اليسرى المقابلة، التي تضم بقلب ترس الطبق النجمي كلمة السابع، والصفحتان أحيطتا بشريط زخرفي عريض بالغ الرقة بما يحتويه من زخارف نباتية دقيقة رسمت بالأزرق والذهبي مع لمسات قليلة باللون الأحمر على أرضية ناعمة رسمت بلون وردي باهت. الملك الناصر محمد بن قلاوون..تولى العرش وهو دون العاشرة القاهرة (الاتحاد) - الملك الناصر محمد بن قلاوون.. ثاني السلاطين المماليك من أولاد الناس، ويعد أشهر سلاطين المماليك البحرية بمصر، وأكثرهم عناية بإنشاء العمائر، وإنتاج الأعمال الفنية التي نفذت بغرض استخدامه الشخصي أو لتزويد خزاناته الملكية. ولد الناصر محمد بقلعة الجبل مقر الحكم المملوكي بالقاهرة في 684 هـ «1285م» لوالده السلطان المنصور قلاوون، وقد ولي عرش السلطنة لأول مرة في 693 هـ «1293م»، وهو دون العاشرة من العمر بعد مقتل أخيه الأشرف خليل بن قلاوون، ولذا يعتبر ثاني السلاطين المماليك من أولاد الناس، وهو تعبير يعني أنه ولد لملك أو أمير. والحقيقة أن الناصر محمد استحق ذلك ليس فقط لكونه ابن المنصور قلاوون، ولكن أيضاً لأن أمه أميرة مغولية هي أشلون خاتون ابنة الأمير المغولي سكناي بن قراجين، الذي لجأ لسلطنة المماليك بمصر، ويعد هو وشقيقة الأشرف خليل أول أولاد السلاطين الذين ورثوا العرش واحتفظوا به أمام تحديات أمراء المماليك. ولكن الفترة الأولى لحكمه لم تستمر لأكثر من عام واحد، وقد قضاها تحت وصاية ثلاثة من الأمراء الكبار وهم زين الدين كتبجا وسنجر الشجاعي وبيبرس الجاشنكير، وانتهت سلطنته الأولى بعزل زين الدين كتبجا له وتولى السلطنة باسم الملك العادل زين الدين كتبجا. وبعد عامين من حكم كتبجا أرغم على الفرار للشام خشية من اغتيال الأمراء له، وجلس حسام الدين لاجين على العرش، وهو أحد قتلة الأشرف خليل بن قلاوون في عام 694 هـ. فقام بإرسال الناصر محمد إلى الكرك خشية على حياته ووعده بأن يعيده للسلطنة عندما يكبر ويصير رجلا نظير أن يتولى لاجين دمشق ولكن أمراء المماليك اغتالوا لاجين بعد عامين، وتم الاتفاق بين الأمراء على إعادة الناصر محمد للملك مرة ثانية في عام 698هـ على أن يكون بيبرس الجاشنكير نائبا للسلطنة. ورغم سيطرة الأميرين سلار وبيبرس على الناصر فإنه كفتى يافع حاول أن يمارس الحكم وقيادة الجيوش في الحرب ضد المغول بنفسه، وبعد عشر سنوات فر الناصر إلى الكرك في عام 708هـ بعد أن أوهم الأمراء الكبار بأنه ذاهب للحج فقام الأمراء بتنصيب بيبرس الجاشنكير سلطاناً. ولكن انخفاض فيضان النيل ونهم بيبرس بمصادرة أموال التجار أشعل المظاهرات بالقاهرة ضد حكمه، خاصة بعد تردد الأنباء بأن الناصر محمد غادر الكرك قاصدا القاهرة وكان شعار المتظاهرين هو هاتوا لنا الأعرج. وكان الناصر به إصابة بقدمه يجي الماء يتدحرج. وبالفعل عاد الناصر بعد عام واحد في عام 709هـ ليتولى الملك بعد فرار بيبرس الجاشنكير للصعيد، وكان قراره الأول هو إعدام بيبرس الذي عمل أستادارا له خلال سلطنته الثانية. وظل الناصر محمد حاكماً لسلطنة المماليك حتى وفاته في عام 741هـ «1341م»، وعني خلال سلطنته الثالثة بالعمارة فشيد مدرسة له بشارع بين القصرين، وجامعا لتؤدي فيه نخبة الحكم المملوكية بالقلعة صلواتها ولتقام فيه الخطبة كما شجع أمراء دولته على إنشاء المساجد والمدارس. وتشهد مقتنيات متحف الفن الإسلامي بالقاهرة على عنايته الفائقة بعمل أدوات ومهمات قصره من المعادن والأخشاب لتكون تحفا فنية رفيعة القدر، ويكفي أن نشير هنا إلى كرسي العشاء النحاسي المطعم بالفضة والذهب، والذي يعتبر درة مقتنيات المتحف. حوله بونابرت إلى سجن جامع الناصر محمد بن قلاوون.. جامع المماليك الرسمي القاهرة (الاتحاد) - يقع هذا الجامع داخل قلعة الجبل بالقاهرة، ويعتبر الجامع الرسمي لسلطنة المماليك عبر تاريخها، وفيه كان السلطان وحواشيه من الأمراء ورجال الدولة يؤدون الصلوات وتقام فيه خطبة الجمعة، وظل يتمتع بالوضع ذاته حتى مقدم الحملة الفرنسية إلى مصر بقيادة بونابرت في عام 1213 هـ «1798 م»، حيث قامت سلطات الاحتلال الفرنسي بتحويله إلى سجن حبس فيه بعض علماء الأزهر والثوار خلال ثورة القاهرة الأولى ضد الحملة الفرنسية قبل أن يلقى ببعضهم من فوق أسوار القلعة ليلقوا حتفهم. ونظراً لتغيير هيئته وسد أروقته بالجدران وجد محمد علي نفسه مضطراً لبناء جامع جديد ليكون مسجداً رسمياً لمكان الحكم. وأمر بتشييد هذا الجامع السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في عام 718 هـ «1318 م»، ولما رآه أقل مساحة من استيعاب صفوف المصلين أمر بهدمه وإعادة تشييده على هيئته الحالية في 735 هـ «1335 م». ويحتل الجامع مساحة مستطيلة يبلغ طول ضلعها 59 متراً والعرض 53 متراً، ويتبع الجامع في تخطيطه طراز المساجد الجامعة التي شيدت على غرار المسجد النبوي بالمدينة المنورة فهو يتكون من صحن أوسط مكشوف وأربع ظلات للصلاة أكبرها وأعمقها ظلة القبلة التي تتألف من أربعة أروقة تفصل بينها بوائك من عقود مدببة تحملها أعمدة رخامية. وتتألف كل واحدة من الظلات الثلاث الأخرى من رواقين فقط، وقد راعى مهندس البناء أن يكون أمام كل بلاطة من البلاطات الرأسية فتحة شباك معقودة بالجدران، وذلك لزيادة كمية الإضاءة الطبيعية بالجامع. ونلمح في هذا الجامع تأثراً كبيراً بطراز المساجد السلجوقية الأولى بإنشاء قبة ضخمة فوق منطقة المحراب، وهي من أوائل القباب التي كسيت خوذتها الخارجية ببلاطات من القاشاني لها لون أخضر مائل للزرقة. وحرصا من البناء على تخفيف الحمل على الأعمدة الحاملة للعقود قام بعمل نافذة مربعة مفتوحة فوق كل عقد، واستكمل التصميم الزخرفي لواجهات الظلات المطلة على الصحن بعمل صف من الشرافات المسننة تنتهي عند أركان الصحن بخوذة مضلعة محمولة على قاعدة من المقرنصات. ويوفقد هذا الجامع الجزء الأكبر من الكسوة الرخامية لجدرانه بسبب قيام الفرنسيين بتحويله إلى سجن أو نتيجة لغارات ولاة الفترة العثمانية لنقل أجزاء من تلك الكسوة لمبانيهم الجديدة، ويبدو واضحاً أن محراب الجامع كان مزخرفاً بالفسيفساء الرخامية المتعددة الألوان. اهتمام بالقبة عني مهندس الجامع بالقبة الحجرية الكبيرة فوق المحراب فشيدها على عقود تحملها عشرة أعمدة ضخمة من الجرانيت الأحمر، تحدثت المصادر التاريخية عن كيفية جرها لأعلى القلعة، ورغم ذلك فقد سقط بناء القبة في وقت غير معلوم وأعيد تشييدها في عام 1935 م على هيئتها القديمة، وبكسوة خزفية خارجية مماثلة للأصل القديم، ولكنها شيدت من الأجر ومنطقة انتقالها بمقرنصات من الخشب، وأسفل هذه المنطقة إزار خشبي سجل به النص الإنشائي، الذي يؤكد قيام السلطان الناصر محمد بن قلاوون بإنشاء الجامع في عام 735 هـ.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©