الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في نقد المطاعم الفاخرة

في نقد المطاعم الفاخرة
20 ديسمبر 2013 20:43
عاش الكاتب الإنجليزي جورج أوريل فترة من حياته مشرداً في باريس ولندن، وتخللت حياة التشرد والبطالة فترات قصيرة عمل فيها في مطاعم وفنادق باريس، وسجّل في كتاب له بعض مشاهداته وانطباعاته عنها. ورغم أن الفندق الباريسي الذي عمل به كان فاخراً، إلا أنه يصف حالهم في مطعم الفندق هكذا: «كنا نتحرك في بقعة من الماء المصوبن وأوراق الخس والورق الممزق والطعام المُداس». ولأنه لم يكن هناك حوض غسيل في المطبخ، وإنما مغطس للأواني والأطباق، فـ «لم يكن غريباً أن يغسل نادلٌ وجهه في الماء المستعمل لشطف الأواني. لكن الزبائن لا يرون شيئاً من هذا». وفي مقطع آخر يشير أورويل إلى كافتيريا الفندق التي تتراكم في زواياها المظلمة أوساخ مرّ عليها عام كامل، كما أن سلة الخبز تعج بالصراصير، وحين اقترح صاحبنا على زميل له القضاء عليها، أجاب: «لماذا نقتل الحيوانات المسكينة؟»، ووصلت القذارة هناك حداً جعل زملاءه يضحكون منه لأنه أراد في إحدى المرات غسل يديه قبل أن يلمس الزبدة، التي تذهب مباشرة إلى أفواه الزبائن. ويوضّح أورويل بأنهم لم يكونوا قذرين لأنهم أرادوا ذلك، لكن لأن الواجب الأول لعمال المطبخ هو الدقة، ولا يمكن أن يكون المرء دقيقاً إلا بإعطاء أمور الدقة وقتاً طويلاً، فكانوا يخصمون الوقت المخصص لنظافة المكان ولنظافتهم الشخصية، ويضيفونها للوقت الذي تحتاجه الدقة. ولا تعتقد عزيزي الذي تملأ بطنك بأكل المطاعم، ولا أنتِ عزيزتي التي هجرتِ المطبخ ونزلت الميدان لخدمة المجتمع ورد الجميل وبقية الكلام المنمق وغير المقنع، بأن أورويل كان يبالغ في مسألة الدقة، ففي كل الأماكن هناك أولويات ينبغي الاهتمام بها قبل كل شيء. أولوية الجريدة مثلاً هي ألا تطبع صفحاتها فارغة، والأولوية الثانية هي أن تطبع في وقت محدد، ثم تأتي بقية الأشياء. وأولوية الإذاعة ألا تكون هناك ثانية واحدة من الصمت التام خلال ساعات البث. وأولوية شركات الطيران ألا تسقط طائراتها، والأولوية الثانية ألا تطير في الجو خالية من الركاب.. وهكذا في المطاعم، الأولوية أن يجد الزبون على طاولته الأكل الذي اختاره، والأولوية الثانية هي أن يدفع قيمة ما طلب، سواء أكله أم نثره على الأرض. ومع القذارة التي لا يد لهم فيها لأنها ليست أولوية، هناك القذارة المتعمدة في المطاعم، فيقول أورويل: «لا أجافي الحقيقة حين أقول إن الطاهي الفرنسي سوف يبصق في الحساء إن لم يكن سيشربه هو». نقطة آخر السطر. فهو «فنان، لكن فنه ليس نظافة. إنه قذر إلى حد معين، لأنه فنان. ولكي يبدو الطعام ممتازاً ينبغي أن يعامل معاملة قذرة». ثم يشرح أن الطاهي حين تعرض عليه شريحة اللحم قبل أن تذهب إلى الزبون، يتناول الشريحة بأصابعه ويبسطها على الطبق، ثم يمرر إبهامه حول الطبق ويلعقه ليتحقق من مذاق الصلصة، ثم يتراجع بعض خطوات، متأملاً شريحة اللحم، كما يتأمل فنانٌ صورة، ثم يضغط القطعة في منتصف الطبق بحب، مستعملاً أصابعه السمينة الوردية التي لعقها مئة مرة منذ الصباح. ثم يمسح آثار أصابعه من الطبق بقطعة قماش، ويسلمه للنادل، الذي بدوره يغمس أصابعه في الصلصة، ربما ليوهم نفسه أنه هو الذي سيأكل شريحة اللحم في النهاية. والغريب أن هذا اللعاب، وتلك الأصابع السمينة الوردية، لا تكون إلا في المطاعم الراقية، إذ في المطاعم الرخيصة لا أحد يبالي بشكل وهيئة الأكل، فيُؤخذ من المقلاة بالشوكة ويُوضع في الطبق ويُدفع به إلى الزبون. ولا يترك أورويل القارئ يتساءل عن الدافع وراء كل ذلك، فهو يقول إن المشتغل في الفندق يضحّي بمسألة صلاحية الطعام للأكل لصالح الدقة والأناقة، وهو يعامل الوجبة باعتبارها «طلبا» وليس «أكلا»، كما يعامل الطبيب المصاب بالسرطان على أنه «حالة»، وكما يتعامل المقاول مع أحلام المرء ببيت العمر بأنها مجرد «مشروع»، وكما يتعامل الاستشاري مع المقاول باعتباره شريكاً استراتيجياً دائماً، بينما صاحب البيت هو عميل مؤقت وسيختفي من حياته فور تسلّمه مفتاح بيته. والقاعدة التي استخلصها أورويل من عمله في المطابخ: «كلما دفعت أكثر في طبقك، كلما أكلت معه عرقاً وبصاقاً أكثر». لكنني أعتقد أن قاعدة أورويل صائبة من حيث البصاق الفني فقط، إذ المطاعم التي تقدم وجبات رخيصة، تكون الأولوية فيها بطبيعة الحال هي أن تكون كل مكونات الطبق، والظروف المحيطة بتجهيزه، رخيصة إلى الحد الذي يجني المطعم ربحاً من بيع وجبة رخيصة، فالسندويتش الذي يباع بثلاثة دراهم فقط، لا يدفعه صاحب المطعم للزبون إلا وقد أجرى حساباً دقيقاً ومفصلاً لكل شيء، فهناك إيجار المحل، ورسوم الرخصة التجارية، والعمال وتأشيراتهم وإقاماتهم وأجورهم، والمخالفات التي قد تأتي بين الحين والآخر، وتجهيزات المطبخ، وأثاث المطعم، والمواد الغذائية ومكونات الطعام.. إلخ. وقد تقول يا حبيب المطاعم وعدو أكل البيوت إن أورويل كان يصف مشاهداته في مطاعم باريس، ويتحدث عن فترة بعيدة نسبياً، أربعينيات القرن الماضي، لكن يا عزيزي، هل بائع الزهور في هولندا يختلف مثلاً عن بائع الزهور في ماليزيا؟ وهل حائك السجاد في إيران يفكر بطريقة مغايرة لتفكير زميله في تركيا؟ وهل نظرة الحلاق لرأس الزبون، تختلف عن نظرة جده الذي كان يعمل في المهنة نفسها؟ ولأنني أعرف أنك تحب الجدال وربما كانت إجاباتك على الأسئلة السابقة هي «نعم.. تختلف»، فتعال معي لأضعك في الصورة عن تجربة شخصية لي في مطابخ المطاعم. فقد كنت لفترة من الوقت ذلك الشخص الذي يتهلل له وجه صاحب المطعم ظناً منه أنني زبون سمين لن أكتفي بوجبة واحدة، فإذا به يفاجأ بأنني ذلك الشخص الذي ينفرد به بعيداً عن الزبائن ويقول له: إما الدفع فوراً، أو الحجز على موجودات المطعم أمام الجميع ثم بيعها في مزاد علني يحضره أمة محمد. كنت أعمل في المحكمة، وكان من مهام عملي الانتقال إلى المؤسسات والشركات والمحال التي صدر ضدها حكم قضائي بسداد أموال للدائنين، فأضعها بين خيار الدفع أو الحجز، فإن «خرخشوا» جيوبهم ودفعوا ما عليهم، فإنني آخذ المال وأخرج من دون أن أتوجه لهم بالشكر بطبيعة الحال. وإن لم يدفعوا وقالوا لي، أو أومؤوا برؤوسهم، أن أعمل ما بدا لي، فإنني أبدأ فوراً في الحجز على كل ما تقع عليه عيناي، مع تقدير قيمتها، والتوقف متى ما بلغت قيمة الأشياء المبلغ المطالب به، ثم في فترة لاحقة أبيع تلك الأشياء في المزاد العلني حتى يستوفي الدائن حقه من حصيلة المزاد. والمهم في كل هذا أنني كنت أذهب مباشرة إلى مطبخ المطعم، فحين يكون المطعم مديناً بمبلغ كبير، لنقل مئة ألف درهم وأكثر، فإنه لا معنى للحجز على «شوية» طاولات وكراسي وملاّحات ومزهريات ولوحة «أهلاً وسهلاً»، وإنما الذهاب إلى حيث توجد الأفران، والمواقد، والثلاجات، والخزائن الكبيرة، وآلات الفرم والطحن والهرس والعجن والعصر وغيرها، وهي الأشياء التي لها قيمة فعلية في نظر الضباع التي تحضر المزادات وتتقاتل على شراء تلك الأشياء. ورغم أن اختصاصي كان يقع في مدينة مشهود لها بالكفاءة التفتيشية، فإنني بكل ثقة أقول إن أنظف المطابخ التي دخلتها كانت أقل نظافة من أسوأ مطبخ منزلي دخلته خلال مشواري الطويل مع الحياة. فالأرضيات مهيأة للتزحلق عليها بسبب طبقات الدهن والشحوم، والمرق في القدور المفتوحة راكد كأنه ديزل، ونتف الطعام يبست على أطراف الطاولات والأدوات وبين شعلات المواقد وحولها وفوقها وتحتها، والملح والبهارات مع القليل من الغبار فوق كل شيء، والخضراوات متناثرة هنا وهناك، أما المحفوظة منها في الثلاجة، فهي محشوة فيها وملتصقة على الباب الزجاجي للثلاجة، مثلما يلصق السجناء رؤوسهم على قضبان السجن وهم يتأملون الحرية. ولابد من وجود زاوية في المطعم، أو رف علوي، للكراكيب، وهي الأشياء التي لم أكن أقترب منها لأنها بلا قيمة مادية، وإن كان لها قيمة بيئية في توفير حياة كريمة للكائنات الصغيرة غير القابلة للانقراض. وكان كل هذا مفعماً برائحة لحم نيئ، مع بعض الحشرات التي كانت تخرج من بين الكراكيب أو الخزائن أو فتحات الصرف الصحي لتعرف ما يجري، فأنا أقف في وسط مقر سكنهم أحمل محضر الحجز في يد، وباليد الأخرى أكتب. والعمال بثيابهم غير النظيفة يراقبونني من بعيد، والنادلون يلتفون بملابسهم الأنيقة حول صاحب المطعم أو المسؤول عنه، والذي كان يجلس إلى طاولته يتمنى لو انحشرت يدي بداخل ماكينة فرم اللحوم، خصوصاً أنني كنت أقترب منها إذا كانت في وضعية التشغيل، وأوهمه بأنني على وشك أن أضع يدي فيها، لعله يبتهج قليلاً وينسى أمر المديونية والحجز القضائي وخراب بيته. ويشهد الله أنني لم أرَ قط فأراً في تلك المطابخ، ولا قطة تحوم بالقرب من القدور، لأنني أتحدث هنا عن المطاعم الراقية التي يأكل منها الجميع، فالفئران كانت حاضرة في المطاعم التي لا أعتقد أن قارئاً لهذا المقال سبق له أن أكل فيها، إضافة إلى القطط التي تعامل في تلك المطاعم بمنتهى الرحمة والشفقة والتدليل، كما كانت تعامل الصراصير في المطعم الباريسي الفاخر. me@ahmedamiri.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©