الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

برج.. يغتسل بالرماد

برج.. يغتسل بالرماد
28 ديسمبر 2011 17:04
المكان: المعيريض الزمان: القرن الخامس عشر عندما تستسلم الشمس مطفئة أنوار النهار، ذاهبة إلى غشاوة الليل البهيم، تطل هامة بلون الرماد، ورائحة التاريخ، عند اللسان الأسفلتي، وبالقرب من حشرجة الأساطير، ذلك هو البرج المعجون من طين، ولبن الأمهات القدامى، وعرق رجال تخندقوا لأجل فض الاشتباك ما بين الجشع وطموح البقاء بلا سلاسل حديدية تكبل الأمنيات. هنا في هذا المكان، طالما وقف الرجل الأشيب، مستدعياً زمانه، مستدرجاً الذاكرة لعلها تقص الحكاية من البداية، إذ أصبحت النهاية شبه أحلام تطيح بخرافة الفرح المزعوم، وتبني أعراشاً لكائنات بعضها يموء من شديد الوحشة، وبعضها يكدح حافراً في التراب بحثاً عن لقية أو أحفورة تجدد خلايا الذاكرة أو حتى تزيح الغبار عن عملة صدأت بفعل التقادم. يقف الرجل الأشيب، يرفع رأسه مشيعاً القمة المتهاوية نظرات التذكر والتفكر والتبصر والتحسر، وأحياناً التذمر، معتقداً أن الأشياء تموت عندما يلفها النسيان، ويطوي لفيفها الإحساس بالفقدان. يتلفت يمنة ويسرة، يسرد الحكاية لنفسه وكأنه يحاضر في جمع من تلاميذ العصر ليقول لهم إن هذا المكان في ذلك الزمان كان متراساً ونبراساً لحراس الحقيقة حينما وطأت أقدام الجيوش البرتغالية الجرارة وأفنت وأبادت الآلاف وأحرقت أربعين سفينة عسكرية، ثم يأخذ الرجل نفساً عميقاً ثم يفتقد حصاه، ويجلس كبوذي في ساعة تأمل، وعرفان، يجلب الذاكرة، وهو المعتصم بحبل الوحدة، فلا وجود لكائن بشري، يمزج السكون بالحركة، ويقول لنفسه إن المكان، البرج، في مثل هذا الوقت يحترس منه الناس، يشيحون عنه في وجوم خشية المس أو الضرر، وقد سمع في مرة أن امرأة أصيبت بالجنون وأدخلت العناية الصحية، ولم تزل تعاني من الصفعة الجنية لأنها دخلت الباب الخشبي المهترئ بحثاً عن عنزة تاهت عنها في الأزقة، ولم تجد بداً من ملاحقتها في داخل البرج، لعل وعسى أن تعثر على أم الحليب واللبن. من ذلك الوقت أصبح مزاراً للخوف والرعب، وموطناً للوحشة، ولا أحد يدنو من قامته المستلقية على الفراغ، وجميع من يمرون يلقون النظرة من بعيد ثم يهرولون حتى لا يلتقطهم الجن، ويهوي بهم في قاع الجنون المريع. ويضيف الرجل الأشيب أن قوة ما تدفعه لأن يدخل سوار البرج، وقوة أخرى تنهره بوحشية، مانعة إياه من التفكير في أمر هذا المجهول المرعب.. لكنه بين الفينة والأخرى يلاحظ أشياء ما، كائنات هلامية تتحرك داخل البرج، يراها من خلال الثقوب المحفورة في الجسد الذابل، فتساوره القشعريرة وينتابه شعور غريب، فيقول: كيف يمكن للجن أن يعافوا الأبراج الزجاجية الأنيقة المتلاصقة مع نجوم السماء، ونقطن هذا المكان الرث، المعتق برائحة الجيف والبقايا والفضلات؟ يضحك بسخرية، يمقت هذا الإحساس، لكن لا يستطيع أن يتجاوزه، ولا يستطيع أن يقتحم مكاناً تسور بأسطورة الخوف.. يستمر استنشاق الرائحة، يمضي في مداهمة الفكرة، ولكن كل الأفكار تبدو ضئيلة أمام مكان أخرسه الزمن، وصارت الحكايات التاريخية حوله مجرد خدعة بصرية، لأن الناس المحدثون لم يرق إلى بالهم أن من هذا المكان، ومن نوافذه الضيقة كانت تنطلق الرمايات القاتلة لتلاحق أجساد الفارين من هول الشراسة في التصدي.. يقول الرجل الأشيب: كيف يمكن للذاكرة أن تخلع نعليها وتمشي حافية على هذا الأسفلت وتمر مرور الكرام أمام هذا البرج دون أن تنبش في الغبار، لعل وعسى تجد من تحت الركام ما يعيد التوازن للنفس، وما يجلي كثيراً من الخرافات ليقتنع أهل تلك المريضة المختلة عقلياً أنها لم تصب بيد الجن، وإنما بسبب الخوف لأن للخوف مخالبه التي تقتلع المساحة الداكنة في النفس، وتحولها إلى منطقة متهورة تفشي أسرار الضعف البشري المريع. يقف الرجل الأشيب، يصرخ بصوت مدوٍ، يخرق صداه الفضاء الوسيع.. قائلاً: الخوف.. الخوف من الزمن أطاح بالبرج، فاستحال إلى بقايا ذاكرة مثقوبة، والخوف من الجن، جسد هذه الكائنات بصورة مرعبة ما أفضى بالمرأة إلى فقدان العنزة وخسارة العقل.. يسمع الرجل صوت فرقعة بالقرب منه، فيرتعب، فكر أن يهرب، لكنه تراجع في اللحظة المناسبة، أمسك بتلابيب الحصاة التي افتقدها، وراح يقلب ناظريه يمنة ويسرة، ويفرك جفنيه، يريد أن يعرف مصدر الصوت المخيف، يرى سيارات تمر من حوله، مضيئة بالكاشفات، مزمجرة بهدير أشبه برغاء الإبل، لكنها كائنات حديدية، منعمة بمجمل التكنولوجيا الحديثة، تزعق بشجاعة الفرسان وهي ترمق البرج المطحون بقديمه المزري، والسائقون مشغولون بالأنغام الراقصة، ولا منطقة في أذهانهم تحفظ وداً لهذا المكان.. وبالتأكيد ذلك لن يحصل لأن السواد الأعظم من هؤلاء يحتلون المنطقة الخضراء من الذاكرة، وإن نظروا بغضاضة فن النظرات لا تعدو أكثر من التفاتة باتجاه كاعبة أو ناعسة.. وكل يقول في سره لعل وعسى.. والرجل الأشيب يفتل شاربيه، ويمسح اللحية ولكنه يقول: هذا البرج لا يقل شأناً عن سدرة تتوسط فناء البيت، ورغم قدمها وعجرفة أعوادها، إلا أنها لم تزل تأوي العصافير، وتحفظ أعشابها، فقد لا تنمو نبتا لكنها في الحقيقة تنبت أشواكاً، وتفتح أحداقاً باتجاه الفضاء، وهذا ما يجعلها تحب الحياة رغم عروقها المتورمة من شديد العطش.. يردد الرجل الأشيب كلمة الأشواق، ثم يسفر عن مشاعره المتوهجة بلواعج زمنية قديمة قدم الزمان، قدم هذا البرج.. فيقول الأشواق هي التي قادتني إلى حيث يستقر هذا البرج الخاوي، ويبقى المضمون في الخلايا بالغة النضج في العقل.. إذا كان يتحدث عن العقل الباطن، وما يستجلبه من مفردات زمنية تحول الأشياء البائسة الى رونق يحتفل بشبابه اليافع، وفحولته اليانعة.. ولكن كم من الزمن سوف يستغرقه هذا البرج في الصمود طالما لم تمتد إليه الأيدي الحانية، وتتذكر محسناته البديعة فتهديه أنشودة الحياة من جديد من خلال إعادة ترتيب عناصره، وتهذيب مكوناته، وإضاءة أحشائه لطرد خرافة الشياطين ليستتب أمر الدورة الدموية في التاريخ بعدما تجد الجغرافيا عافيتها، وتستيقظ الأحلام من جديد مع صحوة ثقافة الاحتفاء بدون اختباء تحت جلد الأيام التالفة من زمن الإنسان.. ينهض الرجل الأشيب، يستعيد غفلته ويغادر لعل وعسى، يصحو بعد حين من استرخاء ويعرف أنه جاء في المكان الصحيح في الوقت الخطأ.. لعله ينجو من صهد النظر إلى الفراغات دون معرفة جسامة القلق حين لا يكون مصحوباً بالحلول المثلى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©