الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مزيج النوبة..

مزيج النوبة..
21 ديسمبر 2011 22:06
هذا كتاب قديم وجديد، كان في الأصل رسالة علمية قدمت إلى جامعة القاهرة عام 1958 وصدرت في كتاب مطلع الستينيات من القرن الماضي، بعد أن أجرى المؤلف بعض التعديلات العلمية عليها، وها هو الكتاب يطبع من جديد بعد اكثر من نصف قرن على صدور طبعته الأولى، كان العنوان الأصلي للرسالة “ممالك النوبة المسيحية.. اضمحلالها وسقوطها” وحين صدرت في كتاب حمل عنوان “الإسلام والنوبة في العصور الوسطى”، والحقيقة ان معنى الكتاب ومضمونه أوسع من ذلك إذ يقدم بانوراما كاملة لمنطقة النوبة، تاريخها وثقافتها وسكانها أيضا. لم تكن النوبة تاريخيا، كما نعرفها نحن اليوم، فقد كانت تمتد من اسوان شمالا إلى منطقة التقاء النيلين الأزرق والأبيض جنوبا بالاضافة إلى بعض المناطق جنوب النيل الأزرق وحتى منطقة الحبشة شرقا وإقليم كردفان وكذلك دارفور غربا، أي انها كانت تشمل السودان كله، او جمهورية شمال السودان الآن، أما جنوب السودان فحتى القرن التاسع عشر كان وحده وبتعبير المؤلف لم يكن معروفا. أطلق المؤرخون القدماء على النوبة تسميات عديدة منذ القرن الثالث قبل الميلاد، لكن كلمة “نوب” أي الذهب كانت من بين الكلمات التي أطلقت عليها منذ اقدم عصور التاريخ المصري واستقر عندها المؤرخون والأهالي. شعب قديم النوبيون حاميو الأصل مثل قدماء المصريين في عصر الأسرات الأولى وما قبلها وهم شعب قديم، ومنذ عهد الأسرة الثالثة المصرية وما بعدها من عصور أخذت بلاد النوبة في استقبال جماعات حامية من الشرق ومن الغرب وجماعات مصرية من الشمال ومن الجنوب استقبلت جماعات افريقية “زنجية” وأصبح لدينا خليط من المجموعات السكانية ظهرت آثاره الثقافية بوضوح في بلاد النوبة، ومارس أهالي النوبة الزراعة والرعي، كانت الزراعة حرفتهم الأساسية، بفضل مياه النيل وعلى هامشها كانت المراعي، ولوحظ اختفاء المؤثرات المصرية لدى أهالي النوبة في بناء المقابر وطرق دفن الموتى، والحضارة النوبية تمثل خليطا من حضارات بيزنطية ومروية، كما انها لم تخلى من الآثار البدائية، واللغة النوبية ذات أصل “حامي” ودخلتها بعض المؤشرات الزنجية، وتبين وجود بعض شبه بين اللغة النوبية حول النيل وبعض لغات جبال النوبة بكردفان وغيرها، وفسر بعض المؤرخين ذلك بأن السكان يرجعون إلى أصل واحد في المنطقتين، ولكن الرأي الغالب ان ذلك بسبب بعض هجرات نوبية من النيل إلى منطقة كردفان ولعله بسبب التبادل التجاري والاتصال بين النوبيين وغيرهم من سكان الجبال. خضعت بلاد النوبة لنفوذ دولة كوشن التي ظلت تمثل مركزا للحضارة المصرية حتى فقدت اهميتها منذ منتصف القرن السادس قبل الميلاد وخلفتها دولة “مروي” من عام 300 ق.م وفي تلك الفترة أخذت الثقافة المصرية تضعف تدريجيا حتى صارت مزيجا من ثقافات مصرية ويونانية ورومانية فضلا عن مؤثرات ثقافية حبشية، ولم يتمكن حكام مروي من بسط نفوذهم على كل أقاليم المنطقة لذا فإن بعض الجهات استقلت تحت حكام وأمراء وطنيين خاصة في المنطقة من جنوب أسوان، ولاحظ المؤلف ان البطالمة لم يميلوا الى التوسع جنوبا ومن ثم نشأت علاقات طيبة أدت في النهاية ان اعلن حكام هذه المنطقة “الوطنيون” الانضمام إلى مصر وساد الوئام في المنطقة. تراجع وانهيار في القرن السادس الميلادي اعتنق أهالي النوبة المسيحية، وساد الممالك النوبية كلها مذهب الكنيسة المصرية، ولعب المصريون في ذلك دورا كبيرا، خاصة الذين هاجروا من مصر إلى النوبة اثر الغزو الفارسي لها عام 619 والهجرات اثر اضطهاد البيزنطيين الملكانيين للمسيحيين المصريين، وظلت جماعات من النوبيين على وثنيتها أو ديانتها القديمة، وانتشرت المسيحية بين النوبيين بعد الفتح العربي لمصر وظهرت ممالك مسيحية بها. غير أن هذه الممالك المسيحية تراجعت وانهارت، لأسباب داخلية وبعضها خارجية والأسباب الداخلية تتركز في ان الخليط الثقافي بالنوبة كان يحمل في داخله عوامل الانهيار والاندثار، فضلا عن نموذج الحياة الذي كان يعيشه أهل النوبة، أما القوى الخارجية فتتمركز في تأثر النوبيين بالثقافة العربية الجديدة عليهم، إذ طبعتهم بطابع مختلف تماما عن الطابع الذي اتصفوا به في العهد المسيحي وكان وادي النيل قد استقبل بعض الجماعات العربية من جزيرة العرب قبل الإسلام عبر باب المندب أو البحر الأحمر وعن طريق برزخ السويس لغرض التجارة او الهجرة، لكن هذه الهجرات كان تأثيرها محدودا بالقياس إلى الهجرات العربية المنظمة بعد الإسلام التي شقت طريقها من شمال الوادي “مصر” نحو الجنوب، وكانت الهجرات زادت بعد حملة عمرو بن العاص على مصر، وقد حاول العرب غزو النوبة عام 652 ميلادية بقيادة عبدالله بن سعد بن ابي السرح ودخلوا دنقلة العاصمة واستولوا عليها لكنهم لم يحتلوها كما فعلوا من قبل في العديد من المناطق ولم يطبقوا على أهلها القواعد التي تطبق في البلاد المفتوحة واكتفوا بأن ضمنوا حرية التجارة والعبادة في بلاد النوبة ونشر الدعوة الإسلامية على يد التجار المسلمين والعرب، وكان قبول النوبيين بذلك دليلا على عجز حكومة النوبة عن ممارسة اي دور خارجي، وهكذا انتشر الإسلام وفي أواخر القرن التاسع الميلادي تأسست أول إمارة عربية إسلامية في ارض العلاقي وإقليم اسوان ودل ذلك على ما صار عليه العرب من قوة في بلاد النوبة وقد التزمت الدولة الفاطمية بهذه الإمارة ونال زعيمها أبو المكارم هبة الله لقب كنز الدولة وحسب الايوبيون لهم ألف حساب فيما بعد، وقام العادل أخو صلاح الدين بغزوهم وهزيمة “بني كنز” مما أدى إلى رحيلهم عن اسوان وهاجروا إلى الداخل. ولعب التبادل البشري دورا مهما في ذلك وقدمت مصر الإسلامية بعض العناصر على الدولة وكانوا عناصر عربية ضاقوا ذرعا بسيطرة العناصر التركية على الحكم في الدولة والجيش فهاجروا وأسرهم إلى النوبة مما أدى إلى انتشار الإسلام وفي نفس الوقت لوحظ هجرة عدد من النوبيين إلى مصر وظهروا في الجيش المصري منذ عهد ابن طولون، وهؤلاء ضاقوا بالحياة في بلداتهم مما كشف ضعف الممالك المسيحية. لم يتعامل أهالي النوبة مع الإسلام كدين فقط، لكنه تحول إلى ثقافة إذ جاء طلاب نوبيون للدراسة في الأزهر وعادوا إلى بلادهم، وصار منهم الفقهاء، وانتشرت بينهم الطرق الصوفية ولعب المتصوفة دورا كبيرا هناك. إعادة نشر هذا الكتاب الآن في وقتها، إذ انه يؤكد التلازم بين شمال ووادي النيل وجنوبه، وبمعنى أدق مصر والسودان، كانت العلاقة بينهما قبل المسيحية ومع المسيحيين ثم مع الإسلام والثقافة العربية. الكتاب: الإسلام والنوبة في العصور الوسطى المؤلف: د. مصطفي محمد سعد الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©