الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحب القاتل

الحب القاتل
22 ديسمبر 2011 19:56
(القاهرة) - اختفى الثلاثة فجأة من القرية، بشكل مريب يترك وراءه العديد من علامات الاستفهام والتساؤلات، فهذا «عباس» وزوجته «نعمات»، والثالث «عواد» الذي شاع في القرية كلها عشقه «لنعمات»، وقد رفضت أسرتها تزويجها له من قبل، وتزوجها «عباس» منذ أكثر من عامين، الا ان هذه لم تكن النهاية، لان المرأة والرجل الذي تبادله الحب مازالا على العهد ولم يفقدا الامل، يلتقيان كلما سنحت لهما الفرصة، ويتبادلان العشق، لا ملجأ أمامهما الا الصبر المر الذي كاد ينفد، أما السؤال الذي يلح على جميع الرؤوس فهو كيف تلتقي النار مع الماء، فلو كانت «نعمات» اختفت مع عشيقها، فلا يمكن ان يكون الزوج معهما وأصبح السؤال محيرا وتحول الى طلسم لا يمكن الوصول الى حل له. الكل يضرب أخماسا في أسداس محاولا ان يقدح زناد فكره من أجل الوصول الى تفسير لما حدث، الا انه كان أكبر من اي عقل، فلن يتفق الثلاثة أبدا على شيء واحد، بل هذا هو رابع المستحيلات، لان هناك عداوة بين الرجلين وتنافسا على امرأة وحربا خفية حينا وظاهرة أحيانا لهذا لا يمكن الجمع بينهما، فالاول يرى ان الثاني يريد ان يأخذ منه زوجته وهذا في حد ذاته كاف لاكبر خصومة لانه على الاقل طعن في رجولته، والثاني يرى ان الاول خطف منه محبوبته بغير حق ويجب ان يسترد حقه بشتى السبل ولن يتنازل عنه مهما كلفه الامر ولم يفقد الأمل حتى بعد زواجها، وخاصة انها تريده وقد تمت الزيجة رغم أنفها. أربعة أيام مضت بلا جواب عن اي سؤال، لكن عندما فاحت رائحة كريهة من حظيرة الحيوانات الخاصة بعباس، اتجهت اليها العيون ليتم البحث وراءها ومعرفة سببها، كانت رائحة غريبة لم تعتدها الانوف، شاع خبرها بسرعة البرق بين أهالي القرية المترقبين المتعطشين لسماع اي خبر أو جواب لما حدث، لكن الخبراء منهم وكبار السن فهموا وأدركوا مقدمات الامر، لكن لم يبوحوا به خشية الفهم الخاطئ، وما هي الا لحظات حتى جاء القول الفصل لما ذهبت اليه عقولهم، وبالفعل وجدوا آثار حفر في المكان فقاموا بنبشه ومع رفع الاتربة تزداد الرائحة انبعاثا، لم يتحملها أحد وتلثموا بعمائمهم وسدوا أنوفهم، يا للهول إنها جثة «عباس»، مؤخرة رأسه مهشمة، ملابسه ملوثة بالدماء كادت معالم الجثة ان تتغير لانها في طريقها الى التحلل لكن معالمها حتى الآن واضحة. الآن ليس هناك الا تفسير واحد، فقد قام العاشق «عواد» بقتل «عباس»، واصطحب الزوجة وهربا من القرية، اتضحت الحقيقة التي لم يختلف عليها اثنان، لكنها خلفت وراءها مصائب لا يمكن تداركها فقد تسببت المرأة في فضيحة لاسرتها لا يمحوها الزمن، وأسرة الزوج تريد الثأر والقصاص من الذي قتل ابنها بلا ذنب، والاهم ان القاتل فر بجريمته ولم يعرف أحد له أثرا، حتى ان أجهزة البحث الجنائي بكل امكانياتها فشلت في معرفة المكان الذي هرب اليه هو وعشيقته، بعدما فتشوا عنهما في كل مكان يحتمل وصولهما اليه. كبار القوم استطاعوا ان يحقنوا الدماء مؤقتا حتى يتبين الامر وعلى المجرم ان يدفع وحده ثمن جريمته ولا يؤخذ بريء غيره بجريرته، والافضل للجميع التحلي بالصبر والا يشعلوا نار الفتنة التي يمكن ان تأتي على الاخضر واليابس، وساعد على نجاح تلك الجهود الحكم الغيابي الذي أصدرته محكمة الجنايات بمعاقبة العاشق «عواد» بالإعدام شنقا. حدث هذا كله منذ أكثر من ربع قرن من الزمان، أجيال رحلت كانت شاهدة على الاحداث الدامية المرعبة وعاشت تفاصيلها، وأجيال جاءت سمعت عنها فقط كأنها أحجية أو حدوتة مخيفة للاطفال، وبين هؤلاء وهؤلاء من نسي ذلك، فالسنون طويلة وقادرة على محو الاحداث المتتابعة باستمرار، وان كانت هذه الحادثة غير عادية، وقد راح القاتل بلا عقوبة وفاز بالمرأة التي كان يريدها ويمرح حرا طليقا، ولا يستبعد كثيرون ان يكونا هما الآخران قد ماتا أو انتحرا معا حبا حتى لا يفرق أحد بينهما، وإن كانا على قيد الحياة فلابد أنهما عجوزان وهنت قواهما، لكن كل هذا رجم بالغيب وتوقعات تتوارد على الاذهان لا دليل على اي منها. هذا الاسبوع، ألقي القبض على «عواد» عجوز تجاوز الخامسة والستين، وهن عظمه، وتساقط شعر رأسه الا قليلا من الشعيرات البيضاء، ضعف بصره، لا يرى الا الاشياء القريبة ويعتمد كثيرا على عصاه، تم ضبطه بالصدفة البحتة لانه لايحمل تحقيق شخصية، غير انه لا يعرف ان الكمبيوتر يحفظ كل بياناته، هو لا يريد ان يناور ولا يراوغ، فقد نسي انه مطلوب في جريمة قتل بعد كل هذه السنين، فذكر اسمه الحقيقي، ومعه جاءت البيانات تؤكد انه محكوم عليه بالاعدام، ولم يصدق الشرطي وهو يطالع هذه المعلومات وقبل ان يخبره بها يعود ليسأله عن اسمه رباعيا ومحل ميلاده وإقامته فيعيدها عليه، وتأتي النتيجة بانه هو المطلوب رأسه، ويتم إبلاغه بالحكم، فيصمت قليلا، تذكر فجأة ما حاول ان يتناساه، وما اعتقد انه أصبح ماضيا وتم دفنه مع جثة ضحيته لكن الحقيقة غير ذلك، وكأن الجريمة وقعت للتو، ولم يمض عليها الا دقائق معدودة، وراح يتمتم: حقا إن ربك لبالمرصاد. اقتادوا المتهم العجوز الى النيابة، لاتخاذ الاجراءات لإعادة محاكمته، لان الحكم السابق كان غيابيا ومن دون التحقيق معه، ولكي تكون محاكمته عادلة لابد من سماع أقواله، وفتح المحضر الذي كان مغلقا منذ ربع قرن وجلس المتهم ليجيب عن كل التساؤلات التي كانت بمثابة أسرار دفينة، ولا يعرفها إلا هو، وكشف عن المفاجآت التي أدهشت من تبقوا على قيد الحياة ممن شهدوا الجريمة، ومن جاءوا من بعدهم وعلموا بها. قال «عواد» إنه فلاح بسيط، لم يتلق اي نوع من التعليم، لكن هذا لا يمنع من ان يدق قلبه بالحب مثل كل البشر، أحب «نعمات» ابنة قريته، وإن كانت ليست أجمل البنات الا انه كان يراها كذلك، وقد فهم من نظراتها انها لا تمانع، الى ان تصارحا، غير ان القرية الصغيرة لم تكن قادرة على إخفاء سر حبهما، علم به الجميع، تبادلوا الحديث عنه لا كعلاقة حب بريئة، وانما كفضيحة لم يعتادوها، فمجتمعهم لا يعرف سوى الزواج المباشر بلا مقدمات، حينها كان العريس لا يعرف العروس، وقد لا يراها إلا في ليلة العرس، أسرة «نعمات» اعتبرت مشاعر ابنتها و»عواد» خروجا على القيم والعادات والتقاليد، وكان موقفها صعبا عندما تقدم طالبا يدها، رفضوه لان زواجه منها عيب ويعني انه لطخ شرفهم والعقاب له ان يرفضوه زوجا لابنتهم. ويضيف «عواد» في اعترافاته: انه اعتبر رفضهم له اغتيالا لقلبه، وانتقاصا من كرامته، لانه لايرفض الا من هو دون المستوى، ومن لا يكون كفؤا للعروس، خاصة وان أسرتها وافقت على تزويجها لمن هو اقل منه مالا وحسبا ونسبا، وكانت هذه صفعة إضافية له ما جعله يغلي ويريد الانتقام بأي شكل مهما كلفه ذلك، الا انه بعدما التقى بالعروس نفسها، طلبت منه التعقل وألا يلقي بيده الى التهلكة، وهي من جانبها مازالت تحبه ولن ترضى عنه بديلا ولكن يجب التفكير ببعض العقلانية، وصولا الى التصرف السليم، ووعدته بان تطلب الطلاق ولكن بعد فترة حتى تبتعد عن القيل والقال. وقال: عامان مرا على زواجها، ولم يتم الطلاق، وانا قد بلغت الاربعين من عمري ونفد صبري ، لا أستطيع ان أتحمل أكثر من ذلك، لابد من الوصول الى النهاية، فكرت معها كثيرا ولم نجد الا التخلص من زوجها، والهروب الى مكان لا يعرفنا فيه احد، في المساء وعندما خيم الظلام على القرية، لم تكن هناك كهرباء، كان «عباس» كعادته يتأخر في حظيرة الماشية وتسللت اليه، وانهلت على رأسه بشومة، وسقط قتيلا في الحال وبعد ان تأكدت من انه فارق الحياة، حفرت له حفرة ودفنته فيها، كانت «نعمات» في ذلك الوقت قد استعدت، واصطحبتها الى المدينة حيث الزحام ولا احد يعرف أحدا، وقررت الا أذهب الى اي من معارفي، لانهم لن يقبلوني، وسيتم القبض علينا. عقدت قراني على «نعمات»، ولانني لا أعرف حرفة الا الزراعة، توجهت الى مزارع في منطقة صحراوية بعيدة عن بلدتي بمئات الكيلو مترات، انقطعت عن العالم كله، أعيش انا ومحبوبتي، لكني لم أنعم معها بيوم واحد، لان شبح القتيل كان يطاردني في يقظتي وفي أحلامي، يجثم على صدري ويكتم أنفاسي طوال هذه السنين، رغم انني أنجبت ولدين أحاول ان أنسى لكني لم استطع. سارت بي الحياة وانا اعتقد اني نجوت من العقاب، فقد مضت أعوام طويلة هرمت فيها وأصبح ابناي شابين، وشاخت زوجتي، ثم توفيت منذ سبعة اشهر، ولا أعتقد ان أحدا مازال يتذكرنا، ومن العدل ان أدفع ثمن جريمتي، قد استطيع الآن ان أنام في السجن، ان كان في العمر بقية، أو أستريح بعد الإعدام.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©