الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أنا على خشبة وأغراضي في صندوق

أنا على خشبة وأغراضي في صندوق
23 ديسمبر 2011 20:19
فجأة انقلب وجه حاج كان رفيقاً لي وآخرين في غرفة واحدة، إذ خرج من الغرفة وهو لا يزال يضحك على نكتة قالها أحدهم، لكنه عاد كاسف البال وجلس على سريره بصمت غير معهود من ثرثار مثله. ولأننا كنا بلا عمل تقريباً، ولا شيء يشغلنا سوى التعبّد وتبادل الأحاديث الوديّة، فقد ألححنا عليه ليخبرنا سرّ حزنه، فقال وهو يهز رأسه يمنة ويسرة بأنه أخذ إحرامه إلى مغسلة قريبة. ويبدو أن الإحرامات اختلطت على عمّال المغسلة لتشابهها، فهي كلها تتكون من قطعتين من القماش الأبيض غير المخيط، وسكت عند تلك النقطة كأنه أصدر حكماً في القضية. عند ذلك شعرنا، على الأقل أنا شعرت بأن صاحبنا معتوه أو بخيل أو شيء من هذا القبيل، فنحن في مكة والإحرامات تباع في كل مكان، وبأرخص الأسعار. لكنه قطع علينا سوء الظن به وقال إن الإحرام الضائع كان يخصُّ والده المتوفى الذي حجّ قبل سنوات وأعطاه الإحرام ليحجّ به. إذن المسألة ليست في الإحرام بشكل عام، وإنما في ذلك الإحرام بالذات، فهو ذكرى غالية من شخص عزيز لا يعوّض، وربما كان صاحبنا يحلم بأن يؤدي المناسك مرتدياً إحرام أبيه ليساعده على تذكّره في كل لحظة والدعاء له بشكل متواصل. ولولا احترام ذكرى والده، وهيبة الموت، لقلت له: لا تحزن يا أخي، فأنت تستطيع أن تتذكّر والدك حتى بعد ضياع الإحرام، لكن كل ما في الأمر أن دورة حياة التذكّر ستكبر، فبوجود ذلك الإحرام كنت ستتذكّره مباشرة، وبضياعه ستتذكّر خروجك من الغرفة ضاحكاً، ثم ذهابك إلى المغسلة، ثم اكتشاف ضياع الإحرام، ثم تتذكّر أن الإحرام يخصّ والدك المرحوم، ثم تدعو له أو تنشغل عنه بالدعاء على عمّال المغسلة. وفي اليوم الأخير وأثناء تجهيز حقائبنا للعودة إلى البلاد بعد أداء فريضة الحج، أخذت الإحرام الذي كنت أرتديه وكنت على وشك وضعه في الحقيبة، لكنه كان متسخاً، فقرّبته من أنفي وحاولت أن أوهم نفسي بأن رائحة الإيمان تفوح منه، وفعلاً استطعت أن أقع ضحية ذلك الوهم، وشعرت بسعادة بالغة. وبقيت للحظات أخيّر نفسي بين أخذ الإحرام أو تركه في الشقة. وقررت في النهاية أخذه معي، وقلت في نفسي: سأغسله وأضعه في مكان بارز من خزانة ثيابي، ليردعني كلما زلّت قدمي، فلا شيء سيذكّرني بأنني حاج إلا هذا الإحرام المبارك، فرأسي الذي أصبح مثل البلورة الزجاجية في يوم النحر، سيعود إلى سيرته الأولى مليئاً بالشعر، وتحت كل شعرة سيقبع شيطان لعين، وذكرياتي الجميلة في الحج ستتبخّر بحرارة الجحيم الذي ينتظرني، وحلاوة الإيمان على لساني سيتحول إلى «بقلاوة» العصيان، كل ذلك سيذهب وسيبقى الإحرام. وفي هذه الأثناء دخل ذلك الحاج الذي أضاع إحرام والده، فقلت في نفسي: أخشى أن يتحول إحرامي إلى شيء مقدّس في نظر أبنائي بعد انتقالي إلى العالم الآخر، وسيواجهون أحد هذه الخيارات. إما أن يتنازعوا بشأن من يحق له الاحتفاظ بإحرام أبيهم المقبور، فيجذبه كل واحد منهم من طرف من أطرافه إلى أن يتقطّع، وإما أن يزهد فيه الجميع وتأخذه زوجة أحدهم لاستعماله في المطبخ. وأما الخيار الثالث فهو أن يحتفظ به أحد أبنائي برضا الآخرين ثم يحجّ به، فيضيع في المغسلة ويقعد يبكي ويلعن، وربما يستطيع المحافظة عليه ثم يورّثه لابنه الذي سيفاجأ بهذه التركة الخفيفة الثقيلة، ففوق أنه لا يعرفني ولا تربطه صلة بي سوى التشابه بين اسمه الثالث واسمي الأول. فإن إحرامات ذلك الزمان قد تكون متطورة، ربما تصدر منها الأدعية والابتهالات مع مراعاة الشروط الشرعية في الإحرام، فالصينيون لا يتوقفون عن التفكير في دعم تديّننا بمنتجاتهم، ابتداءً باللعبة الحمراء التي تشاهد من خلالها الأماكن المقدسة، مروراً بساعة التنبيه التي يخرج منها الأذان والسبحة الإلكترونية والسجادة المزوّدة ببوصلة، ولا نهاية لمنتجاتهم الغريبة. وكل هذه الاحتمالات ستجعلني أصرخ من أعماق قلبي، أو بالأحرى من أعماق قبري، لكن لا حياة لمن يُنادي. ولأنني متطرف بعض الشيء، فقد خطر ببالي أن أخفي جميع معالم وجودي قبل خروجي من هذه الدار، لئلا تكون أشيائي سبباً لحزن أبنائي، أو حزني، فإذا تعلّقوا بأغراضي ووضعوا عليها ختم القدسية، فإنها ستكون عبئاً عليهم، وعلى أسرهم، خصوصاً زوجاتهم، وبالذات حين يتشبّث أولادي بأفكاري في جانبها الأخرق، فيكون انتقامهن مني من خلال رمي أغراضي في برميل القاذورات، أما إذا تخلّص أبنائي من أغراضي بلا مبالاة، ومن دون ذرف دمعة واحدة عليها وعلى صاحبها المسكين، فإنني الذي سيحزن، على الأقل عظامي ستتقرقع وستفسد على الديدان متعتها بأكل هيكلي العظمي. ولأن هذا المقال يمكن أن يبقى بعد تخلّص البشرية مني، بينما ورقة الوصية قد تضيع، فإنني أوصي من هذا المنبر بتجهيز صندوق كبير إلى جانب الخشبة التي سأطرح عليها، وعلى أسرتي وضع كل ما يخصني في الصندوق: ثيابي، نظارتي، كمبيوتري، خزعبلاتي، والكراكيب الأخرى التي أحتفظ بها نتيجة مرض الاستحواذ. ثم حرق الصندوق بمحتوياته في أقرب منطقة رملية، فلا همٌ يقلق نومهم ولا هم يحزنون. أحمد أميري me@ahmedamiri.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©