الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المقال القادم

المقال القادم
23 ديسمبر 2011 20:20
حان موعد المقال الذي أسلمه لمجلة شهرية، ولم تكن عندي أفكار على الإطلاق، لا يوجد موضوع واحد يصلح. المجلة طابعها خفيف ولا تسمح بمقال سياسي جاد أو علمي رصين، كما أن المقال يجب أن يكون طويلاً كالثعبان. هكذا رحت أفكر جاهدًا، رحت أبحث في دفاتري القديمة عن فكرة تصلح، لا يوجد شيء، معظم الأفكار كتبتها من قبل أو مملة أو سخيفة أو تافهة أو لا تعني أحداً، ما العمل ؟. لابد من تسليم المقال خلال يومين. هنا اتصل بي صديقي العزيز، إنه مهموم تمامًا ويتحدث بصوت مبحوح: - «سوف أجري جراحة خطيرة بعد أسبوع، سوف يستأصلون جزءًا من أمعائي» شعرت بأسف بالغ له، ورحت أواسيه، تذكرت أيام الصبا معًا عندما كنا نحب الفتاة نفسها وكيف تشاجرنا مرارًا، كيف كنا نقرأ شعر ناجي ونحفظه وكيف كنا نقرأ «آلام فيرتر»، كيف سافرنا معًا للخارج لننام في الشارع ونجمع العنب في فرنسا، و.. هنا وجدت أنني وقعت على فكرة مقال ممتاز. سأكتب هذا كله دامعًا، فقط هناك مشكلة واحدة، سوف يكون المقال رائعًا لو كان في رثاء هذا الصديق العزيز، لن يقبل أن يموت من أجلي على الأرجح، هذا صعب، الصداقة لم تبلغ هذا الحد بعد. اتصلت به أسأله عن الجراحة، لماذا لا يجريها غدًا بدلاً من إجرائها بعد أسبوع ؟. كنت صريحًا معه كما اعتدت فقلت إنني سأكتب عنه لو مات مقالاً رائعًا، مقالاً مذهلاً تتناقله الأجيال، سوف أخلد ذكراه لفترة لا بأس بها إلى أن يلقي الناس بالمجلة في القمامة. كاد يحتج، لكنني حاولت أن أكون منطقيًا، قلت له إن الأعمار بيد الله ولست أنا من سيحييه أو يميته، إذن لماذا لا استفيد استفادة جانبية من وفاته ؟. لو نجا بحمد الله فلسوف يكون المقال مهمًا كذلك لأنه يتحدث عن قلقي على هذا الصديق. وعدت أتوسل له: - «أرجوك، اجر الجراحة غدًا». - «ولم الاستعجال يا أخي ؟» - «لأنني لن أستفيد بهذا لو حدث بعد أسبوع، وقتها سأكون في رحلة البحث عن مقال جديد، أنا بحاجة له الآن». هنا وضع سماعة الهاتف في وجهي. لا أدري ماذا أصاب الناس؟. لماذا صاروا بهذه الفظاظة وقلة الذوق؟. دعك من أنهم لا يساعدون أخاهم المتورط أبدًا. يبدو أنني حزنت جدًا لأنني أصبت في المساء بنوبة قلبية، وفي المستشفى قال لي الطبيب إن شراييني التاجية مسدودة وإنني بحاجة لتركيب دعامة قلبية في أسرع وقت. هو ليس مسؤولاً عن حياتي بعد أسبوع. ذاع الخبر فوجدت صديقًا لي في الجريدة يتصل بي.. الوغد يطلب مني أن أجري الجراحة سريعًا لأنه أعد مقالاً ممتازًا عني في حالة لو حدث لي شيء! يريد أن يلحق بعدد بعد غد من الجريدة. قلت لك إن الناس تغيرت ولم يعد هناك خير في العالم. وقاحة لا يمكن وصفها. ليس هذا ألطف شيء يقال لرجل على حافة القبر. على إن رب ضارة نافعة. في صباح اليوم التالي كتبت مقالاً جميلاً أودع فيه العالم وأنعي نفسي... لقد جاء الإلهام من حيث لم أتوقع. لو لم أمت أثناء الجراحة فلسوف يكون مقال الشهر القادم عن فرحتي بالنجاة. هكذا أكون قد ضمنت موضوع مقالين، أما لو مت فقد كتبت مقالاً مناسبًا لوفاتي، والأجمل أنه لا توجد مجلة تطالبني بمقال قادم! د. أحمد خالد توفيق
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©