الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

صنع اللـه إبــراهيم يعيد توزيــع شواغــل النـاس

17 يونيو 2007 23:28
لاحظنا في قراءة رواية صنع الله إبراهيم ''التلصص'' أن عوالم السياسة المباشرة التي طغت عليها النبرة الأيديولوجية، وارتبطت بالرفض والإدانة للتطورات الاجتماعية الراهنة، قد خفّت حدتها إلى درجة كبيرة، نتيجة للالتزام الصارم بمنظور الصبي المراهق، باعتباره واصفا محايدا يقوم بدور عين الكاميرا فحسب، ولا يتدخل في السرد تعليقا على الأحداث والمواقف، وغاية ما يشغله هو المشاهد التي يتذكرها عندما كان ينعم بصحبة أمه وأبيه معا بدون الإسراف في التحنان أو ''النوستالجيا'' التي تصبغ عوالم الكبار عند استحضارهم للماضي· كما لاحظنا أنه في هذه الرواية يعيد توزيع شواغل الناس طبقا لضرورات وجودهم الحيوي بقدر كبير من العدالة والتوازن، بما يمكّنه من تحقيق مستوى شعري رفيع، حيث تحتل قضايا الحركة اليومية في المسكن، والملبس، والطعام، والعلاقات المباشرة بؤرة القص، مع التركيز على لحظات الشهوة والجنس ضمن مساحتها الطبيعية في حياة الصغار والكبار، خصوصا الأب والجيران الذين يرصد الراوي تفاصيل حياتهم، كما تنتثر التعليقات السياسية في مجالس الكبار بحجمها المعقول· وإن ظلت الأحداث القليلة والمشاهد المتوالية كلها منقوعة في ماء السياسة العميق الذي يسري في نسغها مثلما يسري الماء في خلايا كل شيء حيّ· ولنأخذ نموذجا طريفا لهذه التعليقات السياسية التي ينقلها الصبي حرفيا، وإن كنت لا أزال مندهشا من استيعابه لهذه الحوارات، وكأن الكاتب قد وضع في يده ''جهاز تسجيل نانو'' مما اخترعته الأجيال التالية، وقام بتفريغه على صفحات الرواية· وغاية ما يمكن أن نستخلصه نقديا من هذا التباين بين قدرات البشر العاديين ورواة الأعمال الفنية أن هؤلاء الأخيرين يتميزون بخواص خارقة، غير طبيعية، حتى يتمكنوا من تمثيل أقصى درجات الطبيعة في عوالمهم· يكتب صنع الله على لسان الصبي واصفا بعض حوارات الكبار، مثلا ''يقول رأفت أفندي: على رأيك شوف خبر النهارده عن يهود اليمن، وازاي انجلترا بتهرّبهم لفلسطين· من ساعة التقسيم والمراكب رايحة جايّه تلمّهم من كل حتة· يضيف بصوت خافت: إن طلبة الجامعة مزقوا صورة الملك ولقبوه بلقب مصر والسودان، و''سامية جمال'' من مدة استبدالها بأم كلثوم· يقول المحامي: إنها وضعت جهاز تكييف في فيلتها· يقول الشيخ المعمم: إن ابنه حصل على البكالوريا بالمجانية في الجامعة (كذا) فعمل في مديرية قنا بست جنيهات درجة تاسعة· يقول المحامي: إن لطفي السيد باشا رئيس المجمع اللغوي يأخذ 9 جنيهات شهريا وعلاوة غلاء 3 جنيهات· وكان يأخذ 4 جنيهات في الشهر عندما توظف في النيابة من خمسين سنة· يقول الشيخ: أقة السكر بالكوبون 75 مليما، وفي السوق السوداء ثمنها 200 مليم· يسأل الحاج عبد العليم: قريتم فكري أباظة؟ بيطالب بفرض الضرائب التصاعدية وتحديد الملكية تخالف الدين، وأن شيخ الأزهر أفتى بذلك''· ومن الواضح أن هذه الأمشاج من أخبار السياسة، والاقتصاد، والمجتمع كانت تمثل سبيكة الحياة العامة، وهموم الناس، ونميمتهم في نهاية الأربعينيات، كما ظلت تمثلها حتى اليوم مع اختلاف بعض الأسماء والمواقع والتفصيلات، وأنها في نهاية الأمر هي جوهر سياسة الحياة التي يدور حولها الفن· عالم المراهقة يرصد الراوي بدأب عجيب كيفية تشكّل عوالم المراهقين، وبزوغ اهتماماتهم الغريزية بين رفاق اللعب وفي نطاق العائلة، مازجا كعادته بين مستويات السرد في الحاضر الموصوف والماضي القريب؛ ولئن كانت تجربة المراهقة تتمثل في اكتشاف الجسد بين الأولاد والبنات خلال اللعب عادة عند أبناء هذا الجيل، فإن مشاهد الأسرة الكامنة في لا وعيهم هي التي تحدد دلالات هذا اللعب، ويظل طابع التلصص هو الذي يدفع مشاهد الرواية في كل تفاصيلها، سواء كان تلصص التطفل على دنيا الكبار وأحاديثهم، أم على علاقاتهم الحميمة أو مظاهرهم وأجسامهم· وهو لون من الفضول الفني- إن صحت العبارة- يساوقه فضول لغوي، وزمني في مزج الكلمات والمستويات، وهو تلصص لا يعبأ بالمحرمات، ولا يخضع لمعايير الأخلاق المجتمعية، لأنه تعبير غريزي عن الشهوة عند تبرعمها قبل أن تنبت منها زنابق العلاقات الإنسانية· وربما كانت ذروة هذا التلصص هي التي تتيح للراوي أن يعقد نهاية سرديته بعد أن تتضح نسبيا معالم الصورة، وكيف ماتت الأم، والأحداث الكبرى في حياة الأب، بمجموعة من الأحداث الشاحبة، لكن المشاهد تبلغ أقصى احتدامها عندما يفاجئ الصبي أباه فوق الخادمة محاولا دون جدوى، فيصيح بهما في احتجاج: ''ينعل أبوكم'' مما يمكن اعتباره رمزا لسقوط الأب وفقده هو الآخر· ومهما كانت تعقيدات الأحداث التي يشكّلها القارئ استنتاجا من هذا الرصد المتلصص، فإن الرواية تقدم نموذجا ناضجا لأقصى ما يصل إليه الأسلوب التوثيقي في السرد من آفاق شعرية وإنسانية جميلة· ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة
المصدر: وكالة الأهرام للصحافة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©