الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سنكسبكم يوماً..

سنكسبكم يوماً..
13 ديسمبر 2012
في كتابه عن داعية حقوق السود الأميركي مارتن لوثر كينغ، والذي يتصدى اسمه عنوان الكتاب، يعيد مارشال فرادي إلى الأذهان، حالة الجنوب الأميركي، حيث كانت جموع السود تعاني شظف العيش تحت السطوة المتأججة للرجل الأبيض. وفي هذا الإطار يقول فرادي: يبدو الآن كأن ما يقرب من زمن جيولوجي غابر قد انقضى منذ تفتّحت صفحات تلك الملحمة الأخلاقية العظيمة العامرة بالإيمان والعنف في الأعماق الآسنة لجنوب الولايات المتحدة الأميركية في غمار حركة الحقوق المدنية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. ويصعب بعد مضيّ كل هذه السنين تذكّر كيف كان هذا الجنوب يبدو كأنه بلد آخر داخل الولايات المتحدة في ذلك الوقت. كان الجنوب أسير نظام “الأبارتهايد” الخاص به للتفرقة العنصرية الشاملة، وهو النظام الذي كانت تطبّقه بلا هوادة السلطات القانونية والسياسية الجنوبية في جميع مناحي الحياة الاجتماعية. وكان الجنوب في الواقع يشبه جنوب أفريقيا أكثر مما يشبه بقية الولايات المتحدة آنذاك. في الوقت ذاته، بدا الجنوب كمنطقة خارجة من سيناريو وضع إنساني أقدم عهداً وأشدّ بدائية وأكثر جلافة، وضع قبلي متخشّب ومميت ومختلف تماماً عن السياق الأميركي العام المتسم بالحساسية والعقلانية والتفاؤل. ومع ذلك، كان من نصيب الجنوب الذي وسمته العبودية واستمراريتها تحت قناع التمييز العنصري، أن يؤدي دور البوتقة التي دارت فيها جميع صراعات الضمير التي خاضتها الأمة دورياً بشأن علّتها العنصرية المستوطنة والمستشرية. وحتى في زمن مبكر يرجع إلى عهد الرئيس توماس جيفرسون، بدأ تكوّن وعي بأن الأزمة الجذرية المستعصية الوحيدة التي تواجه هذه الجمهورية والتي تفجّرت في نهاية المطاف هي الهوّة العنصرية، وبأن المشروع السياسي الأميركي الرائد الذي وُلد بأمل مقدام وفكر رحب الأفق ربما حمل منذ بدايته الأولى بذور دماره عندما وطئت أرض القارة الأميركية قدم أول رجل أسود مكبّل بالأغلال، فهذه الجريمة الأصلية ما انفكت تواكبنا بشكل أو آخر منذ ذلك الحين. وبدا أن الجنوب الذي عاش أكثر من سواه في أحضان هذه الجريمة بصورة مباشرة وحميمة، كان الأرضية الطقسية العنفية المختارة للجهود المتقطّعة التي بذلتها أميركا لتطهير نفسها من هذا العار وهذا الذنب الأصليّين. التطهير والتطهّر ويستعيد المؤلف واقع حركة الحقوق المدنية، التي كانت أحدث محاولة قامت بها أميركا لإجراء عملية تطهّر في الجنوب تخلّصها من خطيئتها الأصلية، وتبيّن أن هذه العملية كانت أعظم دراما أخلاقية ملحمية عشناها منذ الحرب الأهلية ذاتها. وما حدث خلال تلك السنوات القليلة المليئة بالانفعالات كان بشكل ما مشهدية شاعرية مؤثّرة قدّمتها الروح الإنسانية على المسرح اللامعقول لمدن صغيرة كئيبة وبلدات متهالكة منغلقة على نفسها في الربوع المتوارية للجنوب الأميركي الهاجع تحت الشمس اللاهبة. وبدا الجنوب على امتداد هذه المشهدية وكأنه انتقل هو نفسه إلى مسرح اللامعقول، فأصبحت أريافه محطاً لزوار غرباء من الدعاة الجادّين الشباب الآتين من صقيع الشمال البعيد ودفء الفردوس الكاليفورني، مشبَعين بحماسة الفكر الإنساني الراديكالي الذي استمدّوه من حلقاتهم الدراسية في جامعة هارفرد ومناقشات الليل بطوله خلف المكتبات المحيطة بجامعة بركلي. وصلوا إلى ولاية ميسيسيبي وجنوب ولاية جورجيا متعرّقين وشاحبين تحت الوهج الحارق، وعليهم سمات الدماثة العابرة للمثقفين المنعّمين التائهين قليلاً، لابسي النظارات والمتمسّكين بنظام غذائهم النباتي. وكان معهم مناضلو الحركة المتجوّلون من الشباب السود ذوي العيون المتوقدة وقبعات المزارع الكاريبية، والمناديل الحمراء الكبيرة المدسوسة في أعلى جزماتهم المصنوعة من جلود الغزلان، وهم يتنقلون بين بلدة وأخرى على طرق ترابية مغبرّة في شاحنات صغيرة متداعية وعربات صغيرة موحلة. كانوا لا يكفّون عن الكلام بغضب وهوس، كانوا لا يفرغون من الكلام... كانت تلك الأيام من زمن النشوة الإيمانية. ويقول فرادي مؤلف هذا الكتاب، انه كان يعمل مراسلاً في مكتب مجلة “نيوزويك” في مدينة أتلانتا خلال الصيف في أواسط الستينيات ولا زال شاباً ريفياً، عندما رُمي في حماوة الاضطرابات الشعبية. وذات ليلة في بلدة صغيرة في ولاية ألاباما وجد نفسه واقفاً في الجهة الخلفية لكنيسة مؤقتة صغيرة مكتظة برعية من السود مؤلفة من خادمات وبوّابين ومزيّنات ومعلّمات ومعلّمين وجميع نوافذها مفتوحة على هواء الليل الساخن في الخارج فيما كانت مراوح كرتونية طبع عليها إعلان لجمعية الجنازات الشعبية تتأرجح جيئة وذهاباً فوق الصفوف المتراصّة للوجوه اللامعة. وكان واعظٌ محلي ثقيل البنية وغارق في عرقه وخارج لتوّه من السجن عصر ذلك اليوم، يقود الرعية في إنشاد إحدى تلك الترنيمات الآسرة للألباب التي تحبّذها الحركة: يا حرية! يا حرية! يا حرية انزلي عليّ، انزلي عليّ... خرج من الكنيسة ليقف في الظلمة. فيما كانت الأصوات الآتية من الكنيسة تتصاعد وتخترق ظلمة الليل: وقبل أن يصبح عبداً، سيدفن في قبره ويعود إلى وطنه، إلى ربه وسيكون حراً. كانت التظاهرات الأخلاقية التي شهدها الجنوب صورة مكبّرة لما بدأ أصلاً بصورة غامضة وعرضية تقريباً كاحتجاج على حادثة تمييز عنصري في حافلة ركّاب في كآبة شتاء مدينة مونتغومري بولاية ألاباما في عام 1955. لكن القسّ الوقور الشاب الذي دُفع رغم تردّده إلى قيادة الحركة، مارتن لوثر كينغ الابن الذي بقي في بؤرة تشعباتها المتوسعة في ما بعد، والذي التقاه المؤلف لأول مرة في بلدة سينت أوغسطين في عام 1964 كما ذكر، كان شخصاً خالياً من أيّ جاذبية إلى درجة غريبة، كان رجلاً قصيراً مكتنزاً ذا سلوك وقور رتيب ثقيل الوطأة تفصح عنه بوضوح بذلاته الداكنة الرزينة اللائقة برجل دين. كان وجهه المستدير الأسود كالقار يتحلّى بنظرة وادعة تكاد تكون آسيوية في خلوّها من التعبير، نظرة غير متوقّعة في رزانتها البورجوازية. فإن التحوّل الروحي الذي طرأ على الجنوب أثناء فترة عمله التبشيري والذي تمثّل في صحوة السود كشعب طال إخضاعه وإذلاله، وفي صعودهم السياسي بعد ذلك، وفي الانتشار الراهن لثقافة امتزاج البيض والسود على نطاق واسع، كان معلماً مميزاً لذلك العصر بجميع المقاييس تقريباً. وما كان لوديعة التآلف العرقي التي تبلورت بصورة مدهشة بعد ذلك التحوّل أن تتحقق على الأرجح لولا المثابرة العنيدة التي أبداها كنغ في دعوته الإيمانية الماورائية اللاعنفية إلى التفاهم والتسامح الشافيين للنفوس، وحتى إلى شعور المعذّب بالأسى حيال معذّبيه. وقد صاح مرة بصوت هادر انطلق من مؤخرة عنقه المكتنز وخرج كالزئير من فمه المفتوح إلى آخره عندما واجه المتظاهرون الكلاب والهراوات وخراطيم المياه في مدينة برمينغهام: “سنواجه قوى الكراهية بقوة الحب... علينا أن نقول لإخوتنا البيض في جميع أنحاء الجنوب إننا سنقابل قدرتكم على التسبب بالمعاناة بقدرتنا على تحمل المعاناة... ارموا قنابل على منازلنا وسنظل نحبكم... هكذا سنخاطب قلوبكم وضمائركم إلى أن نكسبكم مع الوقت”. بصيرة كينغ لكن بصيرة كينغ الأخلاقية دفعته قبل مضيّ وقت طويل إلى القيام بمهمة خارج حدود الجنوب، مهمة أعظم حتى مما سبقها وانتهت بصورة مأساوية، باشرها كمرسل إلى المجتمع الوطني بأسره في أوج تألق أميركا بعزتها وقوتها. وبلا هوادة راحت حملته التبشيرية ضد الإثم العنصري المتوارث منذ الجريمة الأولى لقايين بحق أخيه، وضدّ إنكار وجود رابط طبيعي بين ضحايا التمييز والبشر الآخرين، ما ينزلهم إلى مرتبة الأشياء ويبيح ممارسة أي نوع من العنف عليهم، تتطور إلى حملة ضدّ ما اعتبره الغيبوبة الأخلاقية لنظام قطاع الأعمال والتكنولوجيا الأميركي برمته، وضدّ خوائه المادي الصارخ الوحشي وعزله الأفراد بعضهم عن بعض وتنصّله التقني من تأثيرات مصالحه وسياساته على البشر، وضدّ الخراب اللامحدود الذي كان هذا النوع الجديد من بربرية التقنية المتقدّمة لا يلحقه بأميركا فحسب، بل بأماكن أخرى من العالم أيضاً، ولا سيما فيتنام كأبرز مثال في ذلك الوقت. وقد وضع كنغ نفسه في الواقع في مواجهة مع عصره بكامله، وألزم نفسه قبيل نهاية حياته بشن حملة اجتماعية شاملة، لا من أجل السود فحسب، بل أيضا من أجل المنحدرين من أصول لاتينية (الهسيانيين) وسكان أميركا الأصليين والبيض الفقراء وجميع المحرومين والمهمّشين والمنسيين من قبل المجتمع الأميركي، وذلك لفرض إعادة ترتيب جذرية لقيم الأمة بأسرها ولنظام القوى فيها، فانتهى به المطاف أن يصنّف كالمخرّب الأكبر في أميركا. لكن ذلك كان طموحه النهائي الأعظم الذي استوحاه من غاندي والذي أصبح شغله الشاغل: أراد استخدام ذات النوع من المجابهات الجماهيرية اللاعنفية التي أعادت تكوين الجنوب لتحقيق غاية لم تكن أقلّ من إعادة خلق أميركا نفسها وتخليصها من إثمها. ومن سخرية القدر أن تكون ذكرى كنغ قد انزوت على مرّ السنين التي انقضت منذ ذلك الحين في ضبابية مظاهر التمجيد المتبرجة لتستعاد في المسيرات والحفلات الموسيقية ولتخلّد بإطلاق اسمه على مدارس وشوارع وحدائق وبإعلان يوم مولده عيداً وطنياً، وبوضع صورته على طوابع بريدية. لكن غمامة من النسيان غير المتعمد أخفت في هذه الأثناء المدى الذي بلغته أمارات الوهن والتعطيل والشك التي اعترت التقدّم من مونتغومري إلى ممفيس عبر تلك السنين، والمضامين الثورية الحقيقية النهائية لرسالته. والأدهى من ذلك أن الرجل نفسه انتُزع من حقيقة ذاته المتوهجة المعقدة وأعيد تصويره بشكل ما كدمية موقّرة لامعة لا وزن لها وإن شبهت شخصه في حياته. إن تبجيل الرمز يكاد يكون تبجيلاً للرجل نفسه، والحقيقة هي أن كنغ كان على الدوام روحاً بالغة التعقيد إلى حدّ موجع بما يتجاوز كثيراً الأوصاف التبسيطية التي ألصقت به لاحقاً من خلال تقديسه الجماعي. وقال دافيد ل. لويس الذي كان أحد كتّاب سيرة كنغ: “بتقديس الأمة لمارتن لوثر كنغ... سعينا إلى تذكره من خلال نسيانه”. انها خصال الأقل نبلاً لدى رواد الدعوة الأخلاقية الكبار في التاريخ لا تكاد تقلل من عظمة مثل هذه الشخصيات، فقد كان في وسع غاندي نفسه، وفق شهادات أدلى بها رفاقه في وقت لاحق، كما ذكره الكاتب، أن يضمر حقداً مفرطاً وأن يكون بارداً فظّاً مع أفراد أسرته وسواهم من المقربين إلى شخصه، كما كان يهوى السلطة بلا حدود ويسعى إليها بلا هوادة. بل إن هذه الخصال تسبغ على أشخاص من هذا النوع مدلولاً إنسانياً أعظم كثيراً من مظاهر التمجيد الشعبية الضحلة التي يحاطون بها في آخر الأمر. لكننا لم نتعلم بعد أن نستوعب في فهمنا لمثل هؤلاء الأشخاص حقيقة كان ذوو البصيرة القدماء وسوفوكليس ومؤرخ الملك داوود وشكسبير وسرفانتس يعرفونها وهي أنه فيما يستطيع الشر أن يبلي السلوك الأكثر تحضّراً وعقلانية واستقامة، يمكن للخير أن يبدو متخبطاً متعثراً ومعاكساً إلى درجة مثيرة للسخط، ومشوباً بعيوب كثيرة مثل أحد قدّيسي الكاتب الإنكليزي غراهام غرين الفاسقين الخسيسين الملاحَقين بلعنة إلهية. وما ينبغي أن تخبرنا به حقيقة مارتن لوثر كنغ الكاملة في نهاية المطاف، وبما يتجاوز الرهبة منه والاحتفال به، هو مدى الغموض والتعقيد اللذين يكتنفان خلطة الأشكال التي يتلبسها فعلاً أبطالنا المعنويون...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©