الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

توسلات في زمن الجفاف

توسلات في زمن الجفاف
13 ديسمبر 2012
ما أصدره أصدقاء الروائي الراحل عبدالعزيز مشري عمل يستحق الثناء والتقدير، فبعد أن أصدروا ثلاثة مجلدات جمعت تجربته السردية في الرواية والقصة، يحملون لنا مفاجأة جميلة في المجلد الرابع الذي احتوى على مجموعة من كتابات الروائي المتنوعة وقصائده ورسوماته، وربما لو حظي كل مبدع بمثل هذا الاهتمام والتقدير والبحث في خزائنه وأسرار إبداعه والتنقيب عما لم يسعه أن ينشره لاكتشفنا المزيد من الإبداع الذي لايزال حبيسا للأدراج. ما فعله الأصدقاء الأوفياء وفي مقدمتهم الشاعر علي الدميني لاتكمن أهميته في كونه يحمل رسالة وفاء لمبدع راحل ولا لمجرد أنه صديق فقط، بل هو أيضا دور المثقف أحيانا في البحث عن مبدعي هذه الجزيرة وخصوصا من لم يسعفهم الإعلام ولا الأضواء الساطعة اليوم في أن ُيعرفوا فضلا عن أن ُيقرأ، ولكن هذا أيضا لم يكن مفاجئا لمن عرف مشري عن كثب وعرف عشقه للكتابة في مواجهة الألم وضراوة الحياة. وبعد سيرة حافلة مع الكتابة الروائية الحديثة وكونه أحد روادها، ومع القصة التي كتبها سابرا أغوار البشر وحياته ومرضه ومشتغلا بهموم الناس ومعاناتهم، لم يكن مفاجئا أن يعثر على تلك الأوراق التي يشير الكتاب إلى أنها قصائد مشري التي كتبت أثناء وجوده في مدينة الدمام، ونشر بعضها في جريدة “اليوم” بين عامي 1974 و1978، علاوة على نص آخر لم يسبق له أن نشر كان قد كتبه عام 1981 في القاهرة. ويحمل ديوان مشري عنوان “توسلات في زمن الجفاف” وقد رسم غلاف الديوان المخطوط بيده، ونشر داخل هذا الكتاب مع مجموعة تعبيرية أخرى من رسوماته التي تتكئ على رمزية حديثة في بعضها أو التي رسمت وكأنما يختبر إحساسه وقدرته على الوصول لتلك الملامح. يتدفق مشري شعرا فيكتب متسائلا وعاشقا وحائرا بطريقته وطائرا لايسعه الفضاء يرسم لوحة الفقد والرحيل والانكسار والأحلام والانتظار الطويل قصائد حب، ثم يفتح أسئلته نحو الحياة وجودا وبشرا وأغنية وحمامة سلام، وسأما وضجرا وثائرا وحزينا كما يليق بشاعر. إنه المسافر الذي خدع السراب لمرات عديدة ولكن الألم تواطأ ضده، والحالم الذي ظل يترقب أمنياته بأمل يتسع مع كل قصيدة، والمفتون بالحياة والحب برغم القسوة التي تعرفت عليه جيدا ولذا بذل لهما قصيدته الرقيقة وهنا يقول: “يحزنني أملك المعلق خلف السراب لأنه يلتقي بحزني في السراب”، وهو لايكف عن هذا الحوار الخافت مع الأشياء.. إنها طريقته في تفجير دواخله المليئة بالأسئلة تارة من خلال الأنثى الحلم التي علمته الأمل والكتابة والخيال ومن ثم العزلة التي كانت ملاذا، والحنين الذي بنى مستعمراته على كل جرح. وها هو يقول: “لو أن دفتر العمر يحترق ماضيا.. فأصنع من رفاته الضئيل عمرا من الطفولة.. لايشيخ.. لو أنني أستطيع”. المشري الباحث عن لحظة أمل، عن أمنيات تجيء ولا تجيء يظل متسائلا: “أصطاد لحظة الرجاء.. أنثر في ثوانيها زهورا.. أسقيها بأماني الأمل: ألا يزال العالم بخير؟ ألا يزال العالم بخير؟”. تلك الرومانسية التي تكتب بلغة حديثة وتلامس الوجدان بعمقها لتكون تجربة إنسانية استطاعت أن تعبر بصدق عن أمنياتها وأحلامها وقلقها واحتراقها وترحالها ليصنع مشري عالما من جنة الكلمات وخلاصا في كل قصيدة برغم لمسة الحزن الشفاف وهاهو رومنسي بواقعية أنيقة يقول: “طوفي بقاع المدينة الشمطاء.. تمشي بين حاراتها السوداء.. اقتلي صراخ الأعمدة.. عانقي الأضواء الخزفية، واقرئي سحنتي الحزينة”، إلى أن يضع حزنه صديقا ودليلا في كل شيء: “ستجدينها مزروعة على كل رصيف مبعثرة بين أوراق الشوارع.. مسافرة في صفير القطارات.. في زعيق السيارات.. في كل شجرة خريف..” إلى نهاية هذه القصيدة الجميلة التي عنونها بخط يديه “حبنا موت وقدر” مع ثمانية عشر قصيدة أخرى تقريبا، شكلت تجربة لم نكن لنقرأها لولا جهود الشاعر علي الدميني وأصدقاء عبدالعزيز مشري، تلك التجربة التي تشير ضمنيا إلى حداثة مشري الشعرية المبكرة والتي ربما لم يكن يعيرها اهتماما كبيرا في مقابل افتتانه الأكبر بالسرد والتي جاءت في مجلدات سابقة كما ذكرت واشتملت على جميع أعماله. يذكر أن مشري رحل عام 2000، متأثرا بكفاحه الطويل مع المرض، وكان قد ولد عام 1374 هجرية في محضرة إحدى قرى الجنوب التي استلهمها كثيرا في رواياته وفي رسوماته المنشورة في هذا الكتاب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©