الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في روضة الحواس

في روضة الحواس
13 ديسمبر 2012
خلال مسيرته الفنية عرف الفنان التشكيلي الإماراتي محمد أحمد إبراهيم بنزوعه الدائم نحو التجريب، إن لجهة الشكل حيث هاجر مراراً من اللوحة المسندة الى فضاءات الأعمال التركيبية والمفاهيمية المفتوحة على مديات أكثر اتساعاً في طرق العرض، مختبراً إمكانياتها في قول ما يعتمل في داخله من هواجس وأفكار ورؤى صاغها وعي حداثي يمنح الفن ما يستحقه من مكانة في مسيرة الحياة الشخصية والمجتمعية. أو لجهة المضامين التي تنوعت وفق تمرحلاته الحياتية والفنية، وفي الحالتين كانت أعماله تثير الكثير من الأسئلة وتطرح على ذهن المتلقي انشغالات عميقة الغور، بعيدة الدلالات فيما تجترحه من لوحات أو أعمال أو صيغ تشكيلية.. كما بدت، غير مرة، قادرة على أن تنجز لصاحبها بصمة فنية وتسمه بميسم خاص.. شـهـيرة أحـمـد في مشروعه الجديد الذي يعرض حالياً في جزيرة ياس بأبوظبي شيء من هذا الرحيل الدائم والمغامر باتجاه لوحة مختلفة أو متميزة على الأقل، إذ يعمل الفنان أو يشتغل في تلك المساحة التي بين البصر والبصيرة.. بين العين المغمضة والعقل المستيقظ والقلب المتوثب لرؤية ما ينطبع على شاشته من خيالات وأشكال هلامية أو سوريالية بعد أن يغمض الفنان عينيه. في إغماضتها التي قد تطول وقد تقصر ترى العين الكثير من المشاهد والصور التي تترى وتتدفق أحياناً بلا توقف، بل إنها تزداد انثيالاً كلما ركز الفنان في التقاطها، ومن ثم تحويلها إلى أشكال بصرية غنية بالحمولات النفسية والفكرية. حقول من الرموز بالطبع، كلنا يمكن أن يرى خلف عينيه المغمضتين مثل هذه الخيالات، لكنها تظل مؤطرة في حدود تجربتنا وخبراتنا الحياتية وثقافتنا ووعينا وقدرتنا على سبر أغوار ذواتنا وقراءتها؛ في حين يمتلك الفنان ذاكرة بصرية بامتياز، نظراً لعلاقته الوطيدة بالفن وقراءاته وتجاربه وخبراته وممارسته الدائمة للفعل التشكيلي والأهم بصيرته المدربة على التقاط العنصر التشكيلي من بين عناصر الذاكرة المنثالة. من هنا، تبدو أعماله أشبه بحقول من الإشارات والرموز التي تغطي فراغ اللوحة بالكامل. لكن اللوحة مع ذلك ليست مجموعة من الأشكال والأفكار وحسب، بل اقتراحات جمالية وصيغ بصرية جرى توظيفها بدراية لتصبح مؤثرات حسية وشفرات شعورية تحرك في أعماقنا عوالمها الساكنة، وتوقظ الغافي من الخيال، وتحرض العين على الإبصار بشكل مختلف، وتأخذ العقل إلى آفاق تساؤلية لا تقف عند حدود الدلالات المباشرة لما تراه بل تذهب في البعيد، البعيد الخاص الذي يستوطن في ذاكرة المتلقي ولا وعيه، والبعيد العام الذي يصل إلى سر الوجود والطريقة التي بها نرى، ونحس، ونسمع، ونحيا.. في ما تحمله من شيفرات ورموز لا تكتفي اللوحات بذلك الخطاب الفكري الذي تقود إليه المتلقي وهي تؤلف مجازاً لما تعرضه من أفكار، بل تفتح باباً واسعاً على روضة الحواس الفاتنة، لتعيد صوغ تلك العلاقة التي ربما تبلدت أو بهتت أو صدئت بيننا وبينها. عندها، تركض الروح نشوى بين الرموز، تقرأ وتحدق وتضع خطوط الأهمية هنا وهنا، وتحلق في عالم الخيال الذي تفتحه لنا البصيرة. تحتشد لوحة الفنان محمد أحمد ابراهيم بمجموعة كبيرة من الرموز التي تؤلف في مجملها صيغة فنية ذات مفردات وعناصر مترابطة، وهي تحتل فراغ اللوحة كله بحيث لا يكاد المرء يرى لون الكانفاس، مع ذلك، ورغم خطورة الوقوع في التناظر والتشابه، تستقل كل مفردة بنفسها ولا تتشابه رغم أنها كثيرة (20) لوحة. ربما يكون أحد أسباب النجاة من فخ كهذا صغر حجم اللوحات. وربما سمح النضج الفني الذي تحصَّل عليه الفنان عبر ممارسته الطويلة للرسم او أشكال الإبداع التشكيلي الأخرى، بأن يمده بزخم كبير من الأشكال والموتيفات الصغيرة التي وفق إلى توظيفها، بشكل دقيق ومدروس يعكس حساسية عالية ووعياً، في خدمة فكرته العامة من جهة، وفي تحقيق وظيفة العنصر الجمالية والتعبيرية (البصرية) من جهة ثانية. والحصول على التناسق بين حجم اللوحة وبين تكويناتها وتفاصيلها الدقيقة، مما جعل العمل يتميز بالحميمية وتتوفر له قدرة الإبلاغ أو الإفصاح عن المضمون. علاوة على تحقيق التوازن في توزيع هذه التكوينات الصغيرة في أرجاء اللوحة، بحيث جاءت في إيقاع متناغم فلا هي كثيفة مكتظة في جزء من اللوحة ولا هي مبعثرة كيفما اتفق. بل موزعة بشكل فني يخلق نوعاً من أنواع الإيقاع الحركي الذي يأسر عين المشاهد ويدفعه الى ملاحقتها من لوحة إلى أخرى ليكتشف الافتراقات التي تجعلها تتمايز عن بعضها أو الخصائص التي تؤلف بينها. بيد أن أعمال الفنان محمد أحمد إبراهيم تحتاج قطعاً إلى عين مدربة على التذوق الفني، وبصيرة قادرة على ارتشاف الجمال الكامن في تلك التكرارية التي قد تبدو لغير المختص نوعاً من العبث، وعقلاً متسلحاً بالمعرفة لكي يستطيع المرء دخول عوالمه الفنية. اللون في أوله لا يكتفي محمد أحمد إبراهيم بما تبوح به أشكاله بل يتكئ ايضاً على ذاكرة اللون، بدءاً من الأسود الفاحم أو الكابي الذي يدخلك في عوالم الكهوف القديمة والحضارات السحيقة بما فيها من رموز ورسومات، لتشعر أنك أمام خريطة للجنس البشري.. ثمة مختزلات لتكوين الإنسان تأتي في أشكال مصغرة ونسخ متكررة مع اختلافات طفيفة في التفاصيل، تماماً كما هم البشر يتشابهون في تكوينهم العام ويختلفون في السمات والملامح، نسخ تتراكب فوق بعضها البعض، كما لو أنها الحبل السري لرحلة الإنسان على هذه الأرض.. كأنها ذاكرة البشر الحضارية والتاريخية بكل ألقها وتشوهاتها. يستفيد الفنان في هذه الأعمال من الأشكال الهندسية ومدلولاتها: المربع، المستطيل، الدائرة، المثلث، وغير ذلك.. تأتي مرة كما هي في وجودها الحقيقي وتأتي مرات محورة أو تم تكسيرها عمداً. في انكساراتها توحي بالحدة والصرامة والقسوة، وفي انحناءاتها توحي بالمرونة والوداعة.. وفي استقامتها ثمة رسوخ ينبت على حواف الدلالة، لعله الرسوخ البشري في قيم متوارثة، تراتبية، نمطية. وفي الدائرة يتسع القول بما يكفي للبوح بالشوق الأزلي الى التحرر والانعتاق. يضيق الأسود على رحابته، فيذهب الفنان إلى الألوان الأخرى.. ينجز بعض اللوحات الأحادية اللون، كأنه يتقصد إطلاق طاقات اللون إلى أقصاها، تفجيره أو تهشيم دلالته النمطية التي ترسخت في الذاكرة. أو يزاوج بين لونين أو أكثر على أرضية محايدة (بيج أو رمادي). عادة لا يبصر المرء حين يغلق عينيه الكثير من الألوان، لكن عين الفنان قادرة على استرجاع ذاكرته اللونية الثرة: أخضر، أزرق، أصفر، بنفسجي، برتقالي، أزرق. تتغير الخلفيات في أعمال أخرى لتصبح مضيئة (خضراء أو صفراء). تتغير الأشكال والرموز أيضاً: معين، مربع، حروف، علامات ترقيم، وترتبط الأشكال فيما بينها بما يشبه السلاسل الصغيرة بعد أن كان كل شكل مستقلاً عن غيره. في لوحات أخرى تصبح الأشكال أكبر ويظهر الإطار الذي يحدد اللوحة، كأنها إشارة إلى ما يعتري الحياة من أعباء تثقل كاهلها يوماً بعد يوم. يستخدم الفنان اللون بنقاء واضح. لا تتداخل الألوان في لوحته بل يكتمل كل لون في مساحته. إنه اللون من أجل نفسه لا ليخدم الشكل. اللون مسنوداً بما يتضمنه من قيم جمالية وحسية كامنة فيه، وبما يثيره من أحاسيس وما يحركه من نزوعات وجدانية. اللون ذي الدرجة الواحدة الذي يضعه الفنان في مساحات محددة، متجاورة ومتباينة لونياً، فيمنح الشكل حيوية وألقاً. ينجز الفنان عالمه اللوني هذا بتمكن واقتدار، ورغم ما في الأعمال من أشكال متراصة إلا أنها مريحة للعين، ربما بسبب الانسجام اللوني.. وربما لأنها هادئة، مطفأة، ليست صارخة ولا طاغية، تقف على أول درجات اللون لتقطف منه شحنة نفسية توائم تلك الطبيعة الشفيفة والغائمة للكائنات التي تتحرك أمام العين في إغماضتها الزاهرة. إلى ذاته وأعماقه ومختزنات ذاكرته ذهب محمد أحمد إبراهيم في سفره الداخلي، باحثاً عن جديد يضيفه إلى تجربته الفنية، ربما ليقتنص جمالاً ما، وربما ليكشف عن قيم تشكيلية تتجاوز تجربته السابقة، وربما ليجيب عن أسئلة تؤرقه.. وأياً كان السبب فإنه عاد بغنيمة مقدرة، وأفضت به الرحلة إلى تجربة خاصة، إلى ابتكارات تحمل الكثير من الإبداع، ناهيك عن التحول من تصوير الموجودات التي تبصرها العين في الخارج إلى الأشكال المبتدعة التي ترتسم على شبكية الداخل، عن المخيلة النائمة التي استيقظت لتهبه فيوضات بصرية متعددة ومتنوعة، وتلهمه صيغاً تشكيلية تخلصت من أسر الموضوعات والأشكال المألوفة، وتلك واحدة من ميزات الذاكرة وخصوبتها اللامتناهية. تتسع مدارات القول في هكذا أعمال، تتسع الدلالات وتنداح الرؤى.. وينبثق من اللوحة شغف تكويني عبرت عنه منظومات مبتكرة وصبوات جمالية ربما تستغلق أحياناً على العقل، لكنها تفلح في مخاطبة الحس الإنساني بما تملكه من إحالات على عوالم روحية هي القاسم المشترك الأعظم بين البشر. فضلاً عن تلك الطاقة السحرية التي تشق طريقها إلى المتلقي لتخاطب إحساسه ومشاعره وإن لم يدرك كل مضمرات اللوحة أو وشاياتها الملفعة بالرمز.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©