السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وحدي في الحياة

وحدي في الحياة
14 ديسمبر 2012
(القاهرة) - رزقني الله بابني الوحيد بعد فترة من الزواج تخطت سبع سنوات، كنت قبلها في حالة نفسية سيئة، لولا أن زوجي كان يقف بجانبي وللحقيقة كان أكثر صبراً وتحملاً مني، أنا متعجلة، بينما هو يتذرع بالصبر، وطبيعتي الأنثوية تجعلني أشعر بالضعف، وقد وقف زوجي بجانبي خاصة أمام أسرته التي كانت تتهمني بالعقم، وساندني كثيراً حتى تجاوزنا تلك الظروف وجاء ولدي إلى الدنيا. ابني في طفولته كان هادئاً إلى أقصى حد، خفيض الصوت خجولاً إلى الحد الذي كان يقلقني، مهذباً كما كنت آمل فيه، مجتهداً في دراسته ومتفوقاً وقد كانت سعادتي لا توصف وأنا أتسلم شهاداته في نهاية كل عام دراسي وأطالع الدرجات النهائية التي حصل عليها، وفي كل مرة يتكرر المشهد وأنا أبكي وتتساقط دموع الفرح من عيني، أما الفرحة الكبري، فكانت عندما حصل على الثانوية العامة بمجموع اقترب من المئة في المئة، والتحق بكلية الطب. يوم مشهود في حياتي عندما توجهت معه لأشتري له المعطف الأبيض وبعض الأدوات والأشياء التي يريدها وأنا أتخيله بعد أن يتخرج ويحصل على الشهادة العالية التي يتمناها كل شاب وكل أب وأم، وأداعبه ببعض الكلمات بأنني إذا مرضت أو بلغت من الكبر عتيا فسأجد طبيبي بجواري بشكل دائم، ولن أكون بحاجة إلى الانتقال إلى المستشفيات والعيادات، يومها نسيت كل المعاناة في حياتي التي سبقت، بدأت مرحلة جديدة وتخطيت كل الآلام التي كنت أكابدها من قبل. شعرت بأنني أمتلك الدنيا كلها وأنا أرى فلذة كبدي يحمل معطفه الأبيض في الصباح ويتجه إلى الجامعة، أكون قد سبقته في الاستيقاظ وأعددت له الإفطار والملابس، وأظل أراقبه من النافذة حتى يغيب عن عيني ويستقل سيارة أجرة إلى الكلية، لكن بعدها يظل قلبي معلقاً مضطرباً كالمعتاد قلقة أنتظر عودته بسلامة الله، وأتوجه إلى عملي وأحاول أن أعود قبله هو وزوجي لأعد لهما طعام الغداء وقد اعتادت أسرتي الصغيرة تناول الوجبات الثلاث معاً مهما كانت الظروف، وسواء كان ذلك في البيت أو في الخارج. اعترف بأنني أهملت بعض الشيء في أمور زوجي، بعد مجيء طفلنا إلى الحياة والى الآن، لكنه لم يشتك ولم يعاتبني وتقبل ذلك بصدر رحب من قبيل حبه أيضاً لابننا الوحيد، وقد كنت أحياناً أعتذر له عن ذلك وأحاول أن أعوضه حتى بالكلام والتمس مراعاة ظروفي، ولم يكن ذلك يمثل أو يرقى إلى حد المشكلة وإنما هي ملاحظات عابرة تخطيناها بالتفاهم والنقاش المستمر، فإننا دائماً نناقش كل أمورنا ونتحاور حولها ونسعى لاتخاذ القرارات بالتوافق، فأسرتنا بحمد الله لا تعرف الخلافات، وأمورنا مستقرة. الهدف الوحيد الذي كان أمامي ويشغلني هو مستقبل ابني واحتياجاته فيما بعد التخرج بجانب المصروفات العالية والنفقات التي كانت تثقل كاهلنا، لكن حتى هذه المعاناة كانت لذيذة وقد نستمتع بها، خاصة عندما نتوصل إلى حلول لها، وأتفانى أنا وزوجي ونتبارى في التضحية من أجل استمرار السعادة، وكي تظل ترفرف علينا، ولكن بعد العام الثاني من دراسة ابني للطب لم نعد قادرين على مواصلة الحياة بنفس الأسلوب والمستوى، وجدنا أنفسنا بحاجة إلى مبالغ ضخمة تفوق إمكاناتنا بكثير، نقف عاجزين عن تلبية احتياجات ابننا الضرورية بعد تخرجه، ولو ظلت الأحوال على ما هي عليه الآن فسنكون أمام أزمة حقيقية، فأنا وزوجي موظفان وما نتحصل عليه من رواتب يكفي بالكاد الاحتياجات والنفقات اليومية، ولا يمكننا أن ندخر منها أي شيء. فكرت أنا وزوجي بعيداً عن ابني حتى لا نشغله بمثل هذه المشاكل عن دروسه واستمراره في التفوق، وصلنا إلى قرار هو الوحيد المتاح أمامنا بأن يحصل زوجي على إجازة من دون مرتب ويبحث عن فرصة عمل بالخارج، على الرغم من أنني أعرف أنني غير قادرة على فراقه وأنني سأعاني في غيابه، وأقسم أنني لست راغبة في ابتعاده، وإنما لم يكن أمامنا خيار آخر، فتقبلناه حتى وإن كان مراً وقاسياً، وبدأ زوجي يسعى جدياً إلى أن تمكن من الحصول على عقد عمل في الخارج، غادرنا وقد ودعته بالدموع كعادتي، فأنا أبكي عند الفرح وعند الحزن بنفس القدر، حاولت جاهدة أن أخفي مشاعري أمام ابني حتى لا يتأثر أيضاً، ولكنه كان فطناً ويدرك ما أنا فيه ويحاول أن يخفف عني قدر المستطاع. على الرغم من أنني موظفة مع انشغالي بأمور ابني فإنني بدأت أشعر بفراغ كبير مع غياب زوجي، ولم تكن الاتصالات الهاتفية بيننا كافية لتعويض جزء من غيابه، وقد تسرب القلق والأرق إليَّ وأصبحت أنام بصعوبة من كثرة التفكير، وبالتالي أستيقظ في الصباح مجهدة حتى ترك ذلك أثره على وجهي، وتحملت وتحاملت من أجل تحقيق الهدف الأكبر، وهو تأمين مستقبل ابني، وشهراً بعد شهر وعاماً بعد عام أعلنت خلالها حالة الطوارئ الاقتصادية وربط الأحزمة والتقشف وكل الإجراءات التي يمكن أن توفر كل فلس من أجل تقصير فترة غياب زوجي، مضت السنوات السبع لابني في كلية الطب وتخرج طبيباً، وتحقق حلمي الأكبر، وما كنت في الماضي أتخيله وكان مجرد أحلام أصبح حقيقة واقعة، ويوم تخرجه بكيت أيضاً كثيراً لفرط سعادتي وبكيت أكثر لأن أباه لم يكن حاضراً تلك اللحظات التي لن تتكرر وانتظرناها طويلاً. خطتي التقشفية استغرقت خمس سنوات وجاءت بثمارها المرجوة كاملة I1، فقد تمكنت خلالها من شراء شقة فاخرة وعيادة في منطقة متميزة ومعروفة وادخرت مبلغاً يكفي لزواج ابني، لكن تركت تأثيث الشقة لمزاج العروس التي سيختارها فيما بعد، فقد أصبحت أذواق أبناء هذا الجيل مختلفة تماماً عن أذواق جيلنا، وعاد زوجي من غربته لا لأننا فقط حققنا ما نريد، ولكن أيضاً لأنه أصيب بمرض عضال لم يمهله بعد ذلك إلا أشهراً معدودة انتقل بعدها إلى جوار ربه، أصبحت فعلاً يتيمة، وشعرت بمرارة اليتم بفقد زوجي أكثر مما شعرت به بفقد أبي، أصبحت حياتي خاوية وفيها فراغ كبير لا يمكن لابني مهما فعل ومهما انشغلت به أن يملأه، تقتلني الوحدة وفقدان الأمل، فقد كنت في سنوات غيابه أعيش على أمل عودته، وانتظر اللحظة التي يلتئم فيها شمل الأسرة مرة أخرى، لكنها لم تجيء، ولن تجيء فقد قضي الأمر. انشغل ابني بعمله وحياته، ولم يعد لديه أدنى وقت للجلوس معي، فهو بين العمل في المستشفى والدراسة صباحاً وبين العيادة مساء، يواصل دراساته العليا في الماجستير والدكتوراه ليل ـ نهار، يجري ويهرول دائماً في عجلة من أمره يتناول إفطاره، وهو واقف على قدميه، الغداء والعشاء «طعام سريع»، لم يعد يأكل معي أي وجبة إلا مرة في الأسبوع أحياناً، هذه الأوضاع زادت من معاناتي ووحدتي وآلامي، تسببت في ظهور آثار الشيخوخة على وجهي وضعفت قواي، خاصة وأنا اقترب من الستين، تجمعت كل العوامل لأشعر بأنني ضعيفة من كل النواحي وأخاف من الحياة لا من الموت، أخشى أن أفارق الدنيا وأرحل قبل أن يطمئن قبلي على فلذة كبدي كما كنت أحلم وكما أريد. جاءت الحلقة قبل الأخيرة من سلسلة السعادة في حياتي وكلها تتعلق بابني، فهو مصدرها الوحيد، فقد جاءني وهو كعادته في عجلة من أمره يخبرني أنه اختار إحدى زميلاته لتكون شريكة حياته، وكانت تلك هي قمة أمنياتي، باركت اختياره قبل أن أعرف الفتاة أو أراها، لأنني أثق تماماً بحسن اختياره وأنه لن يرضى إلا بواحدة على شاكلته من الخلق والالتزام، وبالفعل عندما التقيتها صدقت ظنوني ووجدتها أفضل مما تخيلت وتوقعت. قدمت له الأموال التي ادخرتها له من عمل أبيه الراحل، وانطلقت على الرغم من كبر سني وضعف خطاي أساعدهما في تجهيز وإعداداً مسكن الزوجية وكل شيء حسب اختيارهما، واستغرق ذلك عدة أشهر، خلالها بلغت الستين وتقاعدت عن العمل ولم يعد لديَّ ما يشغلني إلا شؤون ابني، فأنا لا أريد شيئاً من الحياة بعد أن يستقر واطمئن عليه تماماً، وجاءت الليلة الكبيرة التي شهدت زواجه، وكانت كل الاحتفالات عندي بالدموع، كلما نظرت إليه وكلما تذكرت أباه، وكلما ذهب تفكيري إلى ما بعد تلك اللحظات من غير أن يكون في رأسي شيء محدد. طار العروسان إلى الخارج في رحلة شهر العسل التي استغرقت أسبوعاً واحداً، وعادا بعده إلى العمل مباشرة، ووقعت الطيور على أشكالها في الانشغال، فكلاهما في الظروف نفسها بين المستشفى والعيادة والدراسة وقد أضيف إلى ذلك الحياة الزوجية، وهما لا يلتقيان إلا قليلاً بسبب ذلك، أما أنا فقد نالني النصيب الأكبر من التباعد غير المقصود، ويقتصر على الاتصالات الهاتفية، ولم أكن غاضبة منهما ولا ألومهما لأنهما لم يتعمدا التقصير وألتمس لهما كل الأعذار، وإن كنت اشتاق لهما كثيراً وافتقدهما لكنني لا أحاول أن أكون حجر عثرة في طريق حياتهما. شعر ابني وزوجته بما أنا فيه من وحدة قاتلة، خاصة أنه لم يعد هناك ما يشغلني على الإطلاق، فأظل في بيت لأيام عدة من دون أن أفتح الباب، لا أخرج إلا للحاجات الضرورية، وقد كان لذلك تأثيره على عظامي وتحركاتي، ولم تعد لي طاقة ولا قدرة على متابعة التلفاز، واقترحا أن انتقل للإقامة معهما، حتى يتمكنا من رعايتي، لكنني رفضت لأنني لا أريد أن اشغلهما بي وهما في تلك الظروف، كما أنهما غير موجودين في المنزل، فبذلك سأكون انتقلت من وحدة إلى وحدة مماثلة، ولا أستطيع أن أغادر المكان الذي شهد حياتي وشبابي وذكرياتي والماضي كله. أفكر الآن في اللجوء إلى إحدى دور المسنين لأجد هناك من يؤنس وحدتي أو يرعاني أو إذا جاء الأجل أجد من يخبر ابني، لكنني حائرة في اتخاذ القرار، لقد أديت رسالتي وتحققت أمنياتي وأراني أصبحت بلا هدف في الدنيا ولم يعد للحياة معنى، ولا أجد أيضاً إلا الدموع، فيها ومعها عزائي في الأفراح والأحزان وكل الأحوال.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©