السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جمعة الفيروز.. ابن القصيدة النبيل

جمعة الفيروز.. ابن القصيدة النبيل
25 ديسمبر 2013 19:23
في البيت القديم، بقايا صور، وأناشيد، ورائحة القصيدة، ونثَّات من القصّة القصيرة، والحكاية أنك لقنت الطير غناء السواحل، ووشوشة الموجة، وهمس الريشة، ساعة الخلوة والخلود.. سيدي، في غيابك تشرق الذاكرة بإضاءات تبدو كأنها وجهك المبتسم. كأنك أنت الذي صنعت الابتسامة على وجه القمر، وهو يتدحرج، على سفح فضاءات غريبة. كأنك أنت الغريب الذي اشتاقت الطرق لآثار أقدامه الحافية، لانسكابه كأنه الأشواق المتدفقة من أفئدة النجوم. كأنك سيدي أنت الذي علمت السحابات كيف تخفق بالماء العذب، لتبلل وجه التراب القديم، وتحيي رميم الشجر، المصفوف كأنه طغمة مسافرين تشردوا بعد عناق الفراق الأبدي. نعم تحدثت كثيراً سيدي عن الأبد، وقلت ما قاله نيتشه عن براءة الصيرورة، وأمعنت النظر في العقل الصافي كأنك كانط. كأنك الفلسفة الكونية في حد ذاتها. كأنك الفكرة بالغة النصوع عندما تتوهج في عقل بوذي معتزل. نعم سيدي، ربما لا نسمعك الآن عندما تعلي النشيد لكنك بالتأكيد تسمع ما ينشده الطير على رؤوس الأشهاد، وتسمع خرير الماء المتدفق في عروق النخلة الوالهة لقطرة، لفكرة، لعبرة، لصورة واضحة مثل وجهك النابض بالبراءة، المحدق في عيوننا التي طالما تغمض الجفون لكي لا نتذكر النبلاء من أبناء القصيدة المبجلة... أنت في السكوت نعم سيدي أنت الآن في الملكوت، في السكوت في معية الصفوة، الذين جفلت خيولهم فترجلوا لكي يحيط أديم الأرض بخطوات أحلى من أثر الفراشات على رقعة الورود المعلقة ما بين السماء والأرض. نعم سيدي، قد لا تفهم بعض الطيور معنى أن تطير عالياً، لكنها عندما تطير يصبح للأجنحة رفرفة تصفق معها الأفئدة، وتغلق السماء أبواب القلق الوجودي لتفتح نوافذ الحلم، حلم إنسان يعربي، رقصت أصابعه على أوتار العود كما زحفت شفتاه على خيط الابتسامة الرقيقة، ثم فجأة يعلن اكتمال الحكاية، ويطوي سجل القصيدة ليفسح الطريق للذين يغسلون عيونهم بحبر القصائد ثم يدثرون القلوب بمقاطع من حلم الأمس، وآمال الغد، فأنت الذي وصفت القصيدة بالألم، والأمل. وأنت الذي أيقنت باكراً أن القصيدة شمعة ودمعة ولمعة، وكلمة وتصريح أخير لكائن لا تهيضه الانفعالات، بقدر ما تروضه القصيدة ليصير في أحسن حال عندما لا يبقى في الكون سوى عبارة واحدة تحيي الذاكرة لأجل أناس سيأتون بعدنا، وأناس نحب أن يحملوا في اليد وردة وفي الأخرى قلماً لا يجف ريقه. وأنت سيدي لم يساورك الظن يوماً في إطفاء الشموع، لأجل أن يغسل الظلام بعض أدران الجدران القديمة.. ولأجل أن يخاطبك الرب في أسئلة المبهم وما جرى للثقافة الضائعة في أتون الحكايات والأساطير والأحافير، وما قالته الشجرة، للعصافير عندما وجلت الأغصان من الرفرفة وعندما جفلت القلوب من غاشية وفاشية... نعم سيدي في المقام الأول أنت من صنع القداسة في محراب القصّة، وأنت من وقف راهباً نابهاً، متشابهاً مع فخامة الكون العريق، وكأنك من فكر في البدء في صياغة النسق ثم أشاح ساعة ولوج الفكرة في متن القصيدة المحرضة... نعم سيدي أنت فكرت في تحريض الطيور بألا تقترب كثيراً من الموجات الطائشة وأنت من أنذرت وحذرت من كائنات تشبهت بالبلابل، وأنت من أعطى للسنابل لونها الأخضر، وأنت من منح الفواصل نقاطها التعريفية.. نعم سيدي، أشعر الآن وكأني في حضرة كائن كهنوتي يغيب لساعة ثم بعد الغفوة، يصحو ليحدث العالم عن فكرة ما خطرت على بال بشر.. نعم سيدي أنا هنا في حضرتك أشعر وكأني طفل يحث الخُطى لأجل اللحاق بكائن أسطوري لا يشبهه إلا هو، لذلك، لا تبدو الكلمة إلا قطرة على أرض يباب، ولا تبدو الفواصل إلا أحجاراً على ساحل تفرقه الموجة بالضجيج. جمعة الفيروز، تسأل عنك فيروز الشطآن وبيان الحكمة، وبنيان القصيدة حلم ليلة كنت فيها في نشوة العزلة، تكتب عن الأحبّة، وعن حبيبة يدها لم تزل، معشقة بالعطر، ورائحة الثوب الشفيف، تفوح كأنها الغيمة الرابضة في حضن الأشواق المؤجلة.. جمعة الفيروز لم تزل اشتياقاتك لرأس الخيمة، تبث لواعجها، وتمطر بالحنين، ولا يبدو أبداً أنك في السرمد تبحث عن ذات ربما، لم تحصد غير الأنفة، وتشذب أغصانها بالقلم الرصاص، لعل وعسى تنبري الأشواق، عن لقاء قريب لعلّ اللقاء يسفر عن حب جديد، لعلّ الحب، يسقي شجرة في سيرورة، يبست عروقها جراء الجفاف العاطفي واثر موجات الاغتراب المريرة. جمعة الفيروز، لا شك أنك لم تكمل دائرة الأسئلة ولم تفض إلى شيء رغم علامات الاستفهام العملاقة التي علقتها على مشجب الأيام، لكنك سيدي على يقين من أن الخيل عندما تجفل لا يعني أن الفارس فقد السيطرة على اللجام، ولكن هناك سؤالاً لا يفض فماً، ولا يطبق شفاهاً، سؤال الوجود الذي كنت أنت جوهره ومحوره وأسوره وكنت الحدقة وكنت الدفقة، وكنت الأنامل التي تصفق على الورق بأناقة الأوفياء، ورشاقة النبلاء ولباقة النجباء، ولياقة الأكفاء، كنت الصورة المثلى لفيلسوف أغلق الأبواب عند جبل الطور، ثم قال للنسل القويم، سآوي إلى جبل يعصمني من غشاوة الرؤى، وبدائية الرأي، وأعلنت جهاراً نهاراً أنك لا تستفتي القلب عندما يتعلّق الأمر بالحب، لأنك أحببت قبل أن تنشأ المضغة بين ضلوع الكون وبومضة أسرجت الخيل ورحلت. جمعة الفيروز، هذه قصة الرجل الذي اعتصم بحبل القصيدة وانبرى في محاريب الكلمة، كاهناً عريقاً لا تخذله العبارة عندما يتعلّق الأمر بالأحلام، فهي السراج الوهاج وهي النعيم الأليم، وهي الكليم الذي يخاطب القلب تحت ضوء البداهة، فلا يخبو وميض، ولا ينطفئ نور، وأنت سيدي من أولئك الذين نسجوا القصيدة من حرير الفلسفة وأنت من أولئك الذين لونها الكلمة من بياض الموجة، وأنت سيدي من أولئك الذين أحبوا تلوين الحياة من نسغ الفراشات وعبق الزهور، أنت.. أنت في الذروة القصوى أحرقت السيجارة، تزخرف الصدر، بدخان أصفى من الغيمة وأجمل من النجمة.. أنت سيدي، طائر النورس الذي حلق في فضاء القصيدة لأجل أن يطرب البحر، وترقص الموجة عند شفاة السواحل المقفرة. امرأة بثوب المخمل جمعة الفيروز.. القصيدة في خاطرك امرأة بثوب المخمل، وأنثى ضائعة في الشوق لأجل غايات نرجسية في كثير من الأحيان، لذلك كنت الفريد العتيد التليد الأكيد، الوحيد، في حلقة الحلم الشاعرية تطرز حياتنا بالأمل، وتقول للمشائين هذه القصيدة وحدها القرين المكين، لا نقطن إلا في سجايا الزلزلة، إن عانفتها تمنعت وان سادرتها تشدقت بالكبرياء، وإن جاوزت حدود الترويض جفلت وفزت مقايضة الحلم باليقظة.. جمعة الفيروز لربما يمكث الأصدقاء في حلقة الزار المزمنة، فتغيب الصورة عن أذهانهم، لكنك في المعنى تبقى الصورة والسورة والسيرورة، تبقى سيدي في الذاكرة نقطة الوصل ما بين العبارة، والعبارة، تبقى الجملة المستشارة، في تلافيف الحكمة الأبدية، تبقى سيدي الخُصلة، الخصلة تبقى الفاصلة، ما بين عبوس الزمن، وابتسامة القصيدة تبقى النخلة التي انطوت على الثناء فأسقطت رطباً جنياً. جمعة الفيروز، أنت الكتلة الجحيمية الناعمة، الناعمة، على بساط النعيم الأبدي، أنت في جنّة القصيدة تسير على صراطك مستقيماً قيماً على أيامك الصالحات، وتنكب متساقطاً كأنك المطر، كأنك السيل المنهمر، كأنك اللبن الفضي في أحشاء كون، ما تكون لولا بناء القصيدة المحكمة ولولا انشغال الشعراء بترتيب أثاث الأيام وتهذيب مشاعر الكائنات لكي تخرج من خضم العدمية، لكي تغسل أدرانها من بعد أثر أليم. جمعة الفيروز القصيدة ورطة لذيذة، وألذ ما في الشعر أنك كتبته بشفافية الأبرياء وعمق الفلاسفة، وصرامة المعتزلة، وعزيمة المنتمين إلى الحياة بدون مساحيق تجميلية.. جمعة الفيروز سنوات بعد الغياب، وكأنك تجلس الآن على شاطئ البحر، وتحكي لرأس الخيمة، عن الرحلة الأبدية، وتسرد في الصدق، أنك ما شاهدت شاعراً غاوياً، وما عرفت عن الغائبين سوى أنهم، يهيمون في فضاءات الحلم طيوراً بأجنحة بيضاء ويفضي هديلها إلى الفضاء، كأنه النشيد الأممي لأجل حياة لا تغلفها طلاسم وتفتك بأحلامها ملامح غامضة.. جمعة الفيروز، تبقى قصيدتك الشامة والصرامة، وشجرة الغاف تخربش في صمت الصحراء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©