الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هدّية الاستبداد !

هدّية الاستبداد !
25 ديسمبر 2013 19:24
ربما تكون منطقتنا العربية من أكثر مناطق العالم احتياجا إلى إقرار قواعد ومبادئ حقوق الإنسان. من يتابع حمامات الدم والقتل على الهوية في بلادنا يدرك ذلك، ولنتأمل أعمال العنف والتفجيرات في العراق يوميا، عشرات القتلى كل يوم في سوريا، وفي مصر قتل وسحل أربعة من المصريين لأنهم شيعة في إحدى قرى الجيزة، فضلا عما يجري في لبنان. هذه كلها بلدان ومجتمعات قديمة، ذات إرث حضاري ضخم وعميق، ومع ذلك تجري فيها تلك الحوادث البشعة، بسبب الاختلاف السياسي الذي يرتدي رداء المذهبية البغيضة والطائفية الكريهة والمقيتة. ولعل هذا الواقع يفرض أهمية خاصة لكتاب “نشأة حقوق الإنسان” الذي صدرت طبعته الأولى سنة 2007 وظهرت ترجمته العربية مؤخرا. صاحبته المؤرخة “لين هانت”، وهي معنية بالتاريخ الثقافي والفكري في المقام الأول.. الكتاب ليس عنا ولا عن بلادنا ولا عن ثقافتنا، هو يتناول ظهور حقوق الإنسان في المجتمع الغربي، بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية، لكن هذه الحقوق باتت عالمية وإنسانية، فضلا عن أن الأمم المتحدة أقرتها. والأهم من ذلك أن نرى ونتابع كيف ولدت وتكونت هذه الحقوق في مجتمعات كانت مليئة بالكراهية والبغض لأسباب عرقية وعنصرية أو لأسباب دينية وإنسانية، ومع ذلك أمكن تجاوزها والوصول إلى تلك الحقوق في نضال سياسي ومدني طويل وممتد. البدايات الأولى البداية من المسودة الأولى التي صاغها سنة 1776 توماس جيفرسون لإعلان الاستقلال، وتنشر “لين” فقرة من المسودة الأولى لها، ثم قام هو بإعادة تنقيحها، المسودة الأولى كانت هكذا “نحن نعتبر هذه الحقائق من المقدسات التي لا مجال لإنكارها، إن جميع الناس خلقوا متساوين ومستقلين، وأنهم يستمدون من هذا الخلق المتساوي حقوقا متأصلة ثابتة، من بينها حق حماية الحياة والحرية والسعي وراء السعادة..”. الصياغة هنا ركيكة وقلقة، لكنها بعد التعديل صارت: “نحن نؤمن بأن هذه الحقائق من البديهيات، وهي أن جميع البشر خلقوا متساوين وأن خالقهم قد حباهم حقوقا معينة لا يمكن انتزاعها، من بين هذه الحقوق حق الحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة..”. هذه الوثيقة استغرق الإعداد لها فترة زمنية وخضعت لمناقشات مطولة وتعديلات عديدة بلغت 86 تعديلا. لم يغب عن بال المؤرخة “لين هانت” أن الزعيم الأميركي توماس جيفرسون نفسه الذي وقف وراء مسودة الاستقلال كان من اكبر ملاك العبيد في الولايات المتحدة كلها، وانه لم يخطر بباله أن يمنح هؤلاء العبيد استقلالهم ولا تصور أن لهم نفس الحقوق، ومع ذلك فإن الوثيقة التي صاغها كانت البداية لإقرار مبدأ حقوق الإنسان. بعد 13عاما، كان الفرنسيون يعدون وثيقتهم الخاصة مع اندلاع الثورة الفرنسية ثم سقوط سجن الباستيل، كان جيفرسون موجودا في باريس وقتها، وكان صديقه الماركيز دي لافييت، وهو أحد المشاركين في حرب الاستقلال الأميركية يعد الوثيقة الفرنسية وتذهب “لين” إلى انه فعل ذلك على الأغلب بمساعدة صديقه توماس جيفرسون نفسه، وصحيح أن الثورة الفرنسية انتكست طويلا وظهر ما بات يعرف باسم عهد الإرهاب، وقام بروسبير بمذابح رهيبة، وظهر “اليعاقبة” المتشددون لكن مع نضال سياسي ومدني طويل وممتد تغيرت الأمور وتم إقرار حقوق الإنسان. عقبات وتعقيدات من أعقد المشكلات التي واجهت حقوق الإنسان، النزاعات القومية المتطرفة، التي أدت إلى كراهية الأجانب، في فرنسا كانوا يكرهون ظهور الإيطاليين بينهم وداخل بلادهم، وفي استراليا تم منع هجرة الآسيويين، وفي الولايات المتحدة تم التضييق على دخول الصينيين وبعد سنة 1917 كان هناك رفض لهجرة الآسيويين إلى أميركا وصدرت القوانين التي تحدد نسبة المهاجرين من كل بلد ليحافظوا على الطابع السكاني والديمجرافي لبلادهم وكانت هناك كراهية واحتقار حقيقي للمرأة وظل ذلك طويلا في مختلف البلدان الأوروبية. وتلاحظ “لين” أنه حين أعلنت الجمهورية الفرنسية كان اكثر من نصف سكان فرنسا لا يتكلمون الفرنسية، فقد كانوا يتحدثون لهجات محلية عديدة واقتضى ذلك جهودا جبارة لدمج المواطنين الفرنسيين، في لغة واحدة، الأمر نفسه في إيطاليا، حين اعلن قيام المملكة الإيطالية لم يكن رئيس وزرائها الكونت “كاميلو دي كافور” يتحدث لغة “البيدومونية” كلغة أولى، وكان اقل من 3 في المئة من المواطنين يمكنهم التحدث بالإيطالية الفصحى، إن جاز التعبير. أما مشاكل العداء للسامية وكراهية اليهود فكانت متفاقمة في دول أوروبا، في بريطانيا صدر سنة 1905 قانون الغرباء الذي يمنع دخول الغرباء، وكان الهدف منه منع المهاجرين اليهود من شرق أوروبا من الدخول إلى انجلترا، وفي فرنسا أثيرت قضية الضابط اليهودي دريفوس الذي اتهم بالتخابر لصالح ألمانيا، وأدين رغم أدلة البراءة، وكانت هناك صحف وجماعات ثقافية فرنسية تحرض علنا ضد اليهود وتمارس العداء للسامية، وتحت ضغط من أنصار الحريات تم العفو عن دريفوس في عام 1898 ثم بريء نهائيا من تهمة الجاسوسية في 1906 ومع ذلك بقي العداء للسامية والتعصب العرقي قائما في أوروبا، وظهر ذلك في ألمانيا النازية، حيث سادت نظرية النقاء العرقي أو النقاء العنصري، فكل من ليس ألمانيا ولا من الجنس الآري يعامل باحتقار بالغ. الكتاب مليء بالتفاصيل الدقيقة والمكثفة والمعنى النهائي أن حقوق الإنسان لم تكن فطرة لدى المجتمعات والدول الغربية، كانت هذه الدول مليئة بالكوارث الإنسانية والانتهاكات الصارخة، تجاه الغرباء في تعصب قومي حاد وكانت مليئة بالعداء للنساء ولليهود في عنصرية بغيضة طالت وامتدت لقرون، فضلا عن التعصب والحروب المذهبية بين الكاثوليك والبروتستانت، وفوق ذلك كله كانت هناك مشاكل العبيد والزنوج في أميركا وفي بلاد المستعمرات، ورغم هذا تم التوصل إلى حقوق الإنسان واعتبارها بديهيات لا يجوز التنازل عنها ولا التفريط فيها، ونحن في بلادنا ليست لدينا مثل هذه المشاكل والكوارث الإنسانية، لكن هل لدينا الرغبة والإرادة لإقرار حقوق الإنسان وإنفاذ بلادنا ومجتمعاتنا مما هي فيه؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©