استوقفتني سيرة الشاعر الأندلسي أبو الحسن الششتري في عدة محطات مرّ بها هذا الشاعر وكانت مميزة، لا من حيث كونها محطات لشاعر اعتيادي من شعراء الأندلس بل من حيث ما تعنيه وما تسجله في تطور الفكر الصوفي، والذي هو أقرب إلى الشعر لاعتماده على القلب في تحليل عناصر الوجود والتأمل في الحياة والموت.
تقرأ نثر الصوفيين فتدرك أنك تقرأ شعراً منثوراً أو غير موزون ولا يتقيد بقافية.. وتقرأ شعرهم فتدرك أنه يتحدث عن فكر ينبع من القلب ويستجيب له العقل.
استطاع أبو الحسن الششتري أن يقنع جميع من قرأ شعره ونثره بأنه وصل إلى غايته في الذوبان في المحبوب، وتجرد من حب الدنيا الفانية ولبس قشابته (ثوبه البالي المهترئ) وتجول في أسواق مكناس وفاس ضارباً على بنديره بكف يده (والبندير آلة موسيقية وترية قديمة)، مغنياً في الأسواق داعياً الناس إلى الحب الإلهي وإلى العودة إلى المحبوب بالقلب والعقل معاً.
واستكمالاً للحوار الذي بدأناه معه، قلت:
? أثارتني كثيراً قصة خلعك لثياب الرفاهية وحياة الجاه والعز واختيارك بمحض إرادتك حياة الفقراء والدراويش ونزولك إلى الأسواق مغنياً وضارباً على بنديرك.
?? لأنني اكتشفت الحقيقة وكان لابد أن أتبعها.
? وما هي تلك الحقيقة يا أبا الحسن؟
?? أن السعادة هي في الاقتراب من الحبيب.. والفقراء هم الأقرب.
? هل كنت مبالغاً في ذلك؟
?? بل كنت متأخراً.. كان يجب أن أفعل ذلك من بداية إدراكي للحياة.
? يقال يا أبا الحسن إنك كنت أول من أدخل الزجل إلى الفكر الصوفي؟
?? وتعرضت في ذلك لكثير من هجمات النقاد..
? لماذا فعلت ذلك؟
?? لأكون أقرب إلى الناس، أردت أن أتحدث بلسانهم وأن أجعل فكرتي واضحة لهم.
? والفصحى؟ أكانت غريبة عنهم؟
?? لا.. وقد نظمت آلاف الأبيات بالفصحى أيضاً.
? شويخ من أرض مكناس كانت القصيدة الزجلية الأولى؟
?? كانت بداية مرحلة جديدة، أتحدث فيها مع المحبوب.. وكان لابد من أن أعيش هذا الحب الصادق.. بكل صدق.
? ألم يكن الدافع إلى ركوب مطية الزجل هو الرغبة في الغناء؟
?? الغناء ملازم للصوفيين.. صلاتنا غناء.. حتى كلامنا غناء..
? والشراب والسكر؟
?? نحن نسكر لا من خمر العنب.. ولكن من خمر العشق والاقتراب من المحبوب.. اسمع ما قلته في ذلك.. وهو أيضاً زجل.
? تفضل..
يا نديم املا الأواني
واسقني كأس حمّيا
أنا محبوبي دعاني
نغتنم ساعة هنيا
? ? ?
? ? ?
سرّي من علم الغيوب
لاحت الأنوار عليّا
ويكون حاضر وغايب
حتى نسكر بالحميّا
ذا الشراب له أواني
لا يذقه من هو جاهل
إلا من يدري المعاني
ويكن في الحب واصل
فافْنا وارْقا عن كل فاني
حتى تأتيك الرسايل
إلى الشاذلية
? عشت يا أبا الحسن في الأندلس، وكنت ابناً لأمير.. ووصلت إلى درجة وزير.. وبعد دخولك إلى عالم الصوفية وجدناك تترك الأندلس وتتجه إلى المغرب.. وتعيش في فاس وفي مكناس، ثم استمرت رحلتك إلى الشرق.. حتى وصلت إلى مصر.. ودخلت إلى الأزهر.. والتقيت بجماعة الصوفيين على المذهب الشاذلي.
?? بدأت حياتي الحقيقية بعد دخولي إلى دار الحبيب. في تلك الدار ولدت من جديد.. وأصبحت الأرض كلها وطني.. والناس جميعاً أهلي.. لا حد ولا سد يمنعني من الوصول إلى أي مكان.. فحبيبي منحني أجنحة أحلق بها في فضائه الرحب.
? أهذا ما يفعله الحب؟
?? نعم.. عندما تصل إلى قلب المحب.. ونبع الحياة.. فإنك لا تشكو ولا تتألم.. اسمع ما قلته في هذا المجال.
سُلوِّيَ مكروهٌ وحبُّكَ واجبُ
وشوقي مقيمٌ والتواصل غائبُ
وفي لوح قلبي في ودادك أسطر
ودمعي مدادٌ مثل ما الحسن كاتبُ
وقارئ فكري للمحاسن تالياً
على درس آيات الجمال يواظبُ
أنزِّهُ طرفي في سماء جمالكم
لثاقب ذهني نجمها وهو ثاقبُ
حديث سواك السمعُ عنه محرّمٌ
فكلِّي مسلوبٌ وحسنك سالبُ
يقولون لي تب عن هوى من تحبُّهُ
فقلت عن السلوانِ إني تائبُ
عذاب الهوى عذبٌ على كل عاشق
وإن كان عند الغير صعبٌ وواصبُ (1)
? قل لي يا أبا الحسن.. لماذا هاجمك ابن تيمية.. وصب جام غضبه عليك؟
? ? سامحه الله.. كان يكره الصوفية والصوفيين.. وكان يعتبرني أحد الأقطاب.
? شعرك كان وظل متوارثاً لدى الصوفيين وخاصة أتباع الطريقة الشاذلية.
?? لأن شعري كان تجسيداً لحالتي وفكري وحبي.
? ما اسمك الكامل يا أبا الحسن؟
?? اسمي علي بن عبدالله النميري الششتري اللوشي.
? النميري.. هل هو نسبة إلى بني نمير أحد بطون هوازن؟
?? هذا صحيح.
? والششتري؟
?? نسبة إلى ششتر في الأندلس
? واللوشي؟
? ? نسبة إلى قرية اللوشة بالأندلس، حيث قضيت جانباً من طفولتي.
مع ابن سبعين
? ماذا عن أستاذك الشيخ ابن سبعين؟
?? علّمني أصول الفلسفة.. وكان رحمه الله متبحراً في الفلسفة الصوفية الإسلامية.
? كان محيي الدين بن عربي أول من استخدم الموشح في خدمة الفكر الصوفي وكنت أول من استخدم الزجل.
?? حتى الزجل كان يصاغ موشحات.
? هل لنا أن نعرف البداية؟
?? بدأت حياتي تاجراً متجولاً.. تجولت في الأندلس وفي بلاد المغرب وفي إحدى رحلاتي إلى بجاية حضرت حلقة أتباع أبي مدين الصوفي المشهور ومن يومها لزمت مجلس القاضي محيي الدين ابن سراقة، وكان أحد تلامذة السهروردي صاحب “عوارف المعارف” وأخذت عنه التصوف.
? هل مذهبك في الصوفية هو مذهب المدينية.. مذهب أبو مدين؟
?? كان في البداية.
? وكيف تغير؟
?? عندما التقيت بشيخي العظيم ابن سيعين.
? متى كان ذلك؟
?? في عام 648 هجرية.
? وماذا كان لدى ابن سبعين حتى استطاع أن يغيرك؟
?? كانت لديه كلمات لها فعل المغناطيس.. لقد جذبني إليه بكلماته الصوفية الرهيبة.. ما زلت أذكر كلماته حتى الآن: (إن كنت تريد الجنة فاذهب إلى أبي مدين وإن كنت تريد رب الجنة فهلمَّ إلي).
? إذا هو الذي أدخلك إلى الطريق؟
? ? طلب مني أن أتجول فقيراً معدماً مغنياً في الأسواق.. ولقد فعلت..
? ومصر؟
?? نزلت أول ما نزلت في القاهرة واعتكفت بالجامع
الأزهر وكان لي مريدون في ذلك المسجد.
? وهل زرت مكة؟
? ? حججت عدة مرات.. وزرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم.. والتقيت هناك بشيخي ابن سبعين.
مع الرهبان والقساوسة
? أخذ عليك النقاد الإسلاميون أنك ترددت على كثير من الأديرة في صحارى مصر والشام، وأنك التقيت بكثيرٍ من الرهبان والشمامسة.
? ? هذا صحيح.. ولكنني مسلم في النهاية.. ولا ينهى الإسلام عن اللقاء بأصحاب الديانات السماوية الأخرى.
? هل ظهر ذلك في شعرك؟
? ? قلت الكثير من القصائد في هذا الباب.
? هل تذكر بعض الأبيات؟
تأدَّب بباب الدير واخلع به النعلا
وسلم على الرهبان واحطط بهم رحلا
وعظّمْ به القِسّيس إن شئت خطوةً
وكبِّرْ به الشماس إن شئتَ أن تُغلى
? إلى هذه الدرجة كان انفتاحك على الأديان الأخرى؟
? ? الحب يا ولدي لا يعرف التعصب.. وأنا ألتقي مع جميع خلق الله في حب الله.
? ما أسرع الوقت الذي يمضي في حوارك.. لم أرْتوِ بعد من إبداعك يا أبا الحسن..
? ? فماذا تقترح؟
? أن تُلقي عليَّ إحدى قصائدك.. ثم يكون لنا لقاء آخر.
? ? ليكن كما تشاء يا بني..
غير ليلى لم يبـن في الحيِّ (2) حيْ(3)
سل متى ما ارتبت عنها كلَّ شيْ
كلُّ شيء سرُّها فيه سرى
فلذا يثني عليها كل شيْ
قال من أشهدَ معنى حسنها
إنه منتشرٌ والكل طيْ
هي كالشمس تلالا نورها
فمتى ما إن ترمه عاد فَيْ
هل كالمرآة تبدي صوراً
قابلتها وبها ما حلَّ شيْ
هل مثل العين لا لون لها
وبها الألوان تبدي كل زيْ
والهدى فيها كما أشقى بها
ولها الحجّةُ في كشف الغُطَيْ (4)
جورها عدل فأما عدلها
فهو فضلٌ فاستزد منه أخيْ
هي في مربعها لا غيرها
فلذا تدعى بلا شيءٍ سُوَيْ
عجباً تنأى ولا أين لها
ثم يدنو وصلُها ملء يَدَيْ
ولنا من وصلها جمعٌ ومِنْ
بعدها فرق هما حالا إليْ
أسفرت يوماً لقيس فانثنى
قائلاً يا قوم لم أحبب سِويْ
أنا ليلى وهي قيسٌ فاعجبوا
كيف مني كان مطلوبي إليْ
? ? ?
معاني الكلمات
1- واصبُ: متعب
2- الحي: المكان الذي يعيش فيه الناس في المدينة
3- الحي: الكائن الحي.. الإنسان
4- الغُطيْ: الأغطية
المراجع:
1- ديوان الششتري: تحقيق وتقديم الدكتور علي سامي النشار
2- ويكيبديا الموسوعة الحرة
عدد اليوم
