يقولون إن لمدينة أبها في القلب منزلة اللؤلؤة داخل صدفتها، وسط الحر القائظ الذي يسود معظم مناطق المملكة ودول الخليج بوجه عام.. مما يجعلها في مقدمة المدن الجاذبة للسياح؛ فهي المصيف لموقعها الجغرافي، وجوها الساحر، وتربتها الخصبة، وأهلها الكرام، وهوائها الطيب الذي يهب من جبال تخترق السحاب.
لكن هذه الميزات ليست هي كل ما تتميز به هذه الساحرة، البهية، حدّ أنها تخطف الروح.. الغارقة في كحل الجمال التاريخي. المنطوية على جماليات عمرانية بديعة.. السابحة في ملكوت جمال طبيعي خلاب.
أبها، التي ترتدي حلة جمالية زاهية، لا تفتن الناظرين فقط بجمالها الطبيعي، بل بثرائها التاريخي والفكري والروحي.. بما تضمه في داخلها من مطمورات تحكي عصوراً مرت على المكان.. وتركت توقيعها على حجارته.
عسير سقف الجزيرة العربية الأخضر. يسـكنها ما يـزيد على المليون ونصف المليون من المواطنين. تتوفر على تنوع تضاريسي كبير، وتضم قوساً جمالياً يجمع بين الجبال الشاهقة والوديان، والغابات، والسهول الساحلية. فهناك، توجد عسير السراة وما تحويه من مرتفعات جبلية تتراوح ارتفاعاتها بين 2000- 3100 متر فوق سطح البحر، وتهامة عسير وهو الجزء الواقع بين سلسلة الجبال والسهول الساحلية المحاذية للبحر الأحمر، وتتميز بدفء شتائها، ووديانها وغطائها النباتي الكثيف وشواطئها الجميلة ورمالها الدافئة، مما جعلها مشتى سياحياً يؤمه أهالي السراة في الشتاء.
تقع مدينة أبها في جنوب غرب المملكة العربية السعودية وهي عاصمة منطقة عسير الإدارية. تزهو مدينة أبها في ثياب من الإبداع المعماري ووجود بحيرة السد التي تجعل المناطق المحيطة بها تتميز بإطلالة ساحرة على مياه البحيرة الهادئة وعلى مدينة أبها في وقت واحد. . ويعتبر الموقع المحاذي لبحيرة السد من الجهة الغربية من أجمل المواقع في مدينة أبها.
أصل الاسم وتاريخه
يعتقد بعض الباحثين أن مدينة أبها كانت تعرف في التاريخ باسم (أبقا) أو (هبقا) وهو المكان الذي يروى أن إبل بلقيس (ملكة سبأ) كانت تحمل منه الهدايا إلى النبي سليمان عليه السلام.
في عام 1338ه /1919م وهو العام الذي انضمت فيه عسير إلى الوحدة الوطنية الكبرى بقيادة الملك عبد العزيز إلى اليوم، وهي اثنتان وثمانون سنة، بينما بدأت مدينة أبها، قرية زراعية صغيرة على وادي (أبها)، وكانت مقسمة على أساس قبلي حيث خصصت لكل قبيلة أرضها. وكانت المنطقة الوسطى من أبها منطقة نشاط تجاري مزدحمة، تحيط بها مناطق أقل ازدحاما.
وفي عام 1233هـ خضعت لحكم المصريين، ومن ذلك التاريخ نالت النمو وتولى إمارتها الأمير محمد بن عائض وأقام فيها قصراً يعرف باسم (الشدًا) تحول الآن إلى متحف تراث شعبي. فقد ارتبط اسمها بحضارات ما قبل الإسلام كما ارتبط بعد ذلك بالحضارة الإسلامية في هذه البقاع. وتوجد في مختلف أنحاء عسير اليوم أثار كثيرة تتمثل في النقوش والرسوم المحفورة على الصخور وعلى جدار الكهوف وفي بقايا بعض المدن ولا تزال تلك المعالم الأثرية بارزة حتى الآن، ومنها: جرش قصر شدا، هضبة العروس.
معالم.. وعوالم
إلى عصر ما قبل الإسلام تأخذك جرش.. المدينة الأثرية القديمة التي تقع على مسافة 75 كيلومتراً من مدينة أبها، وتضم بقايا من الطراز المعماري الذي تركه أهلها اليشكريون ممثلاً في الأحجار الزهرية الضخمة التي كانت تستعمل في البناء. وتكثر فيها النقوش وبعض الأدوات القديمة ويتوسطها جبل حمومة.
وفيما تصافح عيناك جماليات قصر شدا المعمارية، تكتشف أنك تتجول في واحد من أهم المعالم الأثرية في مدينة أبها، حيث تم تشييده عام 1348هـ / 1927م بتوصية من المغفور له جلالة الملك عبدالعزيز، ويضم المتحف بين أدواره الأربعة العديد من الأدوات المنزلية القديمة والأدوات الزراعية والأسلحة والأزياء القديمة، وبعض المخطوطات والمصكوكات.
وقد روعي في طريقة العرض أن تكون حسب تقسيم البيت العسيري القديم وتحت مسميات الغرف القديمة. ويجد الزائر في الممرات وصالات القصر بعض الأمثال الشعبية وكذلك الصور الفوتوغرافية التي تعكس حياة مدينة أبها في النصف الثاني من القرن الماضي.
أما البرج الأثري، المقام على تبة عالية تغازل الفضاء فيحاكي في تصميمه قصر شدا، ويعيدك إلى سنوات عتيقة تشعل الحنين إلى أيام خلت.
ثراء روحي
في هضبة العروس، أنت على حافة الأسطورة، تمشي على أرضها وتستعيد ما جاء في التراث عن النبي ثمود. ثمة نقوش وكتابات ثمودية ورسوم أبرزها عروس على هودج. وترتبط النقوش والرسومات الموجودة فيها بأسطورة لا يزال بعض سكان المنطقة يرويها، وتفيد بأن عروسا فائقة الجمال كانت في طريقها إلى زوجها يوم زفافها وعندما وصلت إلى موقع الهضبة اختفت العروس والهودج الذي كانت بداخله إضافة إلى الجمل الذي كان يحملهما، وفسر الأمر حينها بأنه الهضبة ابتلعتها بفعل الجن فما كان من عريسها الذي كان ينتظر قدومها إلا تخليد ذكراها ونقش صورتها والهودج والجمل على الهضبة التي أصبحت معروفة باسم (هضبة العروس) ونقوشه تغلب عليها رسوم الإنسان بأشكال فلكلورية.. إضافة إلى بعض القلاع والحصون والمساجد المنتشرة في المنطقة منذ عهد العثمانيين مثل قلعة (شمسان، الدقل، أبو خيال) وطريق الفيل؛ وهو طريق فيلة أبرهة الحبشي التي ما زالت أثارها ظاهرة إلى الآن.
عشاق شاعريون
هذه الـ «أبها» عروس للطبيعة لكن لها عشاق كثر، لعل أولهم الغيم. تغنى بها الفنانون وهام بها الشعراء وكانت وحياً للوحات الرسامين الذين وجدوا في حكاياتها وأساطيرها ومعمارها وتراثها موضوعات لإبداعاتهم. فالحياة الاجتماعية. ويعرف عن الحياة الاجتماعية في عسير أنها تخضع لمنظومة متينة من الأعراف والعادات والتقاليد القائمة على النظام القبلي وتختلف عادات هذه القبائل وطرق معيشتها وفنونها وأنظمتها الاجتماعية.
الحروف إن نظمتها شعراً و نثراً لن تصف محبوبتي أبها مُلهمة الشعراء، ومعشوقة الأدباء، رائعة البهاء بمناظرها الطبيعية ومعانقتها للسحاب كجبال السودة. أميرة الغرابة كما خاطبها الشاعر صالح الزهراني في رسالته قائلاًً:
«أبها» يصير المدى غيماً ووشوشة
وفي دمي يا نشيدي يغرق البلد
«أبها» هواكِ غريبٌ لن يفسره
شعرٌ ولن يجتلي أسراره أمد
هواك لحن جميل لا نظير له
عندي وعزفٌ على الأشواق منفرد
«أبها» تظل عيونُ «الفجر» ضاحكةً
وأعينُ «الليل» فيها يعرك الرمد
«أبها» تظل سواقي الحب مورقة
ويذهب الزيف يا ليلاي والزبد
في داخلي ألف سرٍ عن محبتنا
في موطنٍ حارساه الحب والرَّشَدُ
أناخ فيه بريد الحب ناقته
فزمجروا في بقاع الخزي وانتقدوا
وأورقت في رباهم كلُّ ساقطةٍ
وأرقَلَت صوبنا الأضغان والحسد
أبها نموت كهذا النخل شامخةً
رؤوسنا ما ثنى إشراقها كَمَد
كل الأحاديث عن أهلي ملفقة
ولن يصِح حديثٌ ما له سندُ
ديوان أبها الشعري واسع وفسيح؛ تغنى فيه الشعراء بهذه الفاتنة وألهمتهم كثيراً، كما يقول الشاعر أحمد الصالح:
أبها لها في مدار السحب منزلةٌ
سريرُ هدهده نفح الصَّبا فَهَما
أبها وهذا ثراءُ الحسن أبدعه
من أبدع الكون أرضاً أخصبت وسما
تلفتت أعين العشاق مبصرة
ما أبهج العين أو أغرى بها القدما
وكما يقول الشاعر غازي القصيبي:
يا عروس الربا الحبيبة أبها
أنـت أحلـى مـن الخيـال وأبهـى
كلمـا حـرك النفـوس جمـال
كنـت أزكـى شـذا وأنضـر وجهـا
وإذا ما ارتمى على الجفن حلم
كنت في حلمنا أرقى وأشهى
تبقى أبها مدينة الجمال طبيعتها وسحر تاريخها وتلك العلاقة الدائمة مع لغة الغيم والمطر.
عدد اليوم
