الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أوهام الانعزالية اللغوية !

أوهام الانعزالية اللغوية !
25 ديسمبر 2013 19:38
لعل من المناسب عند الحديث عن اللغات عموماً، ونحن نحيي اليوم العالمي للغة العربية... أن نلاحظ ابتداءً أن كلمة اللغة تعني - بشيء من التبسيط - ملَكة الكلام بصفة عامة، ولذا فإن اللغة الإنسانية في الحقيقة لغة واحدة وهي القدرة على تعاطي هذه الإنتاجية الصوتية للإخبار بها أو الإخبار عنها، وفق نسق ملفوظ ومفيد. ومن هنا فإنه ليس من الفصيح في لساننا العربي أن نقول مثلاً “اللغة العربية”، فاللغة ملَكة إنسانية مشتركة... ولكن الصحيح والفصيح هو أن نقول “اللسان العربي” أو “اللسان الفرنسي” وهكذا... ولذلك اختار العلامة ابن منظور الإفريقي، رحمه الله، تسمية معجمه الخالد “لسان العرب”، ولم يقل لغة العرب... وهذا توضيح لغوي عام، وليس بحال توضيحاً لسانياً على نحو ما فعل دي سوسير وبعض منظري اللسانيات الحديثة في تمييزهم بين اللغة والكلام، أو اللغة واللغو... الخ. على ذكر حقيقة وحدة اللغة واختلاف الألسنة، قد يكون من المناسب أيضاً الإشارة، في هذا المقام، إلى أحد المأثورات القديمة التي كانت رائجة في نظريات فلسفة اللغة خلال القرون الوسطى وهو حكاية تقول إن البشر كانوا أصلاً يتكلمون لغة واحدة، يذهب العبرانيون والأراميون والعرب - ضمن تحيزات ثقافية مفهومة - إلى أنها لغتهم باعتبارها هي الأقدم... وإن كانت ثمة الآن أدلة لسانية كثيرة، ليس هذا مقام التفصيل فيها، تدل على أن لغة العرب خاصة هي الأقدم تاريخياً والأتم صوتياً ودلالياً - والأكمل والأجمل والأبدع والأروع - بين جميع اللغات العالمية اليوم. بلبلة التعددية اللغوية؟ وبحسب حكاية “اللغة الأم” المبنية على أساس من نظرية الخلق التي نؤمن بها، فإن البشر جميعاً كانوا يتحدثون لغة واحدة، أخذوها عن أبيهم آدم عليه السلام الذي علمه الله - سبحانه وتعالى - الأسماء كلها. وهذه إشارة إلى أن اللغة ظاهرة ثقافية توقيفية لدنية وهبة من السماء، وليست ظاهرة وضعية أو تواضعية من صنع البشر. وحسب هذه الرواية القديمة، وبعبارات مبسطة جداً، فإن البشر ظلوا يتكلمون هذه اللغة الواحدة المشتركة حتى العصر البابلي، حين أمعن الناس في بناء مدينة بابل ذات الحدائق المعلقة والصروح، ونجم الكفر وعدم الإيمان... فأرسل الله عليهم عاصفة ليلية هوجاء وأركس مآلهم وأربك حالهم ودمر مدينتهم وراحوا من شدة الهول والجزع والفزع يتكلمون لغات مختلفة، فتبلبلت ألسنتهم وراحوا يتحدثون منذ تلك الليلة الليلاء بلغات متباينة، ظلت الشقة تتباعد فيما بينها بتباعد أحوال الأقوام والأوطان، في المعمورة إلى يوم الناس هذا. والشاهد في أمثولة الأصل الواحد للغة البشرية هو أن هذا وضع مثالي في حد ذاته... أن يتكلم الناس لغة واحدة، تكون فيها الكلمة نعمة، والعبارة عبَّارة للأخوة الإنسانية، وجسراً للتواصل والتكامل لتحقيق أسمى معاني التآخي والتلاقي والتفاهم والتناغم بين البشر أجمعين. وخلال الأزمنة الحديثة تمكن العلماء من إيجاد نوع من هذه اللغة الواحدة في مجالات العلوم البحتة خاصة، من خلال استخدام الرمز الرياضي كلغة إجرائية كمية صامتة، لا مكان فيها لأحكام القيمة والمعاني الكيفية لشحنة الألفاظ، بل هي رموز أكثر من كونها ملفوظات. كما سعى علماء ومناطقة كثيرون خلال القرن الماضي خاصة لإيجاد لغة رمزية أو عالمية موحدة يمكن الاستعانة بها في مختلف الثقافات والخلفيات اللغوية، ولعل من أشهر تلك المحاولات لغة “السبيرانتو” وكذلك بعض تنظيرات المدرسة الوضعية المنطقية وتفرعاتها اللاحقة. ولكن مع شرف مقصد وحدة اللغة، إلا أنها كحلم إنساني مُجنح، لا تعني أيضاً أن ثراء لغات العالم الراهن وتعددها ليس مكسباً ثقافياً إنسانياً يستحق هو الآخر أن ينال من يُدافع عنه، ومن يصبو إليه. وفي عالمنا الراهن هنالك أكثر من 5 آلاف لغة حية، وإن كانت حركة انقراض اللغات المحكية خاصة وتلاشيها المتواتر بفعل تغول اللغات والثقافات السائدة، لا يني عن إثارة قلق المهتمين وصناع القرار الثقافي على مستوى العالم... ولذلك تدعم المنظمات الدولية المعنية، بأشكال مختلفة، استمرار الثراء اللغوي، وتعمل جاهدة على تطويق آثار العولمة السالبة والسلبية على اللغات الأصلية، وعلى ثقافات مجتمعات الفطرة- البدائية، المختلفة- المختلفة. أوهام “الانعزالية اللغوية”! لا شك في أن تغول اللغات السائدة الآن في سياق العولمة مثل اللغتين الإنجليزية والفرنسية هو الخطر الأكبر على ثراء العالم اللغوي، وتعدديته الثقافية، إذ ليس خافياً أن كل لغة تنقرض وتنسحب من التداول تنقرض معها ثقافة كاملة، وتغيب طريقة فريدة في التفكير، وتخسر الإنسانية، استطراداً، بسبب ذلك تراكمات وتقاليد استراتيجية فعالة في تسمية العالم وتمثله وفهمه. والأخطر في تغول اللغات “السائدة” على حساب اللغات “البائدة” هو أحكام القيمة الضمنية الكامنة في هذه العملية، وأول تلك الأحكام هو تكريس نوع من أوهام المركزية اللغوية، وذُهان التمركز حول الذات، والوقوع في غواية النرجسية الثقافية، وهذا هو حال الثقافتين واللغتين الفرنسية والإنجليزية، اللتين تفرضان اليوم تبعية ثقافية إلحاقية على كثير من شعوب العالم وخاصة في قارتي إفريقيا وآسيا. وقد ولدت هذه التبعية اللغوية والثقافية ردود فعل جادة تتبنى مبدأ «المقاومة» الثقافية، بقدر ما أثار أيضاً في الوقت نفسه ردود فعل أخرى حادة بلغت درجة استخدام العنف الرمزي، بل حتى العنف المادي كما هي حال جماعة “بوكو حرام” في نيجيريا، التي ينفذ المتطرفون المنتسبون إليها أعمال التفجير والتدمير والإرهاب ضد المدارس التي تعلم بنظم تعليمية تعتمد اللغة الإنجليزية، وقد اشتق اسم تلك الجماعة أصلاً من موقف رافض للتعليم المتغرب “بوكو” الذي تصفه بأنه “حرام”. ومع أن مواقف وأوهام أولئك الغلاة المتطرفين خاطئة ومنافية لمقاصد الشريعة الإسلامية التي تدعو إلى الانفتاح والتعارف والتعاون بين البشر في عمارة الكون، إلا أن أوهام غلاة الفرانكوفونية الإلحاقية مثلاً، ومنظري بوتقة الصهر الأنجلوفونية، ربما لا تقل أيضاً خطأ وخطلاً وانعزالية وفجاجة، لأنها، بدافع من تمركزها على ذاتها، تريد فرض ذاتها وثقافتها وطريقتها في التفكير والتعبير على شعوب أخرى تفصلها عنها البحار والمحيطات والقارات. وهذا هو حال فرنسا خاصة معنا نحن المغاربيين والأفارقة. فهي وعملاؤها الفرانكوفونيون المحليون يفرضون على شعوبنا لغة فرنسية لم تعد وسيلة انفتاح بالغة الفعالية مقارنة مع الإنجليزية. بل إن منتقديها يرون أنها أصبحت اليوم وسيلة تقوقع وتشرنق ثقافي في العصر الرقمي، بالنسبة لهذا الجيل الذي يعاني من فائض تواصل، ويعيش الأحداث والوقائع بالصوت والصورة وفي وقتها الحقيقي IRT في القارات الخمس، وفي واقع من الانتشار اللغوي والاتصالي تُخرس فيه الأرقام الموثقة أية أحكام مسبقة، وقد أكدت إحصائيات الوكالة الدولية المعنية بإحصاءات نسب انتشار اللغات على الإنترنت أن الفرنسية حلت -بالكاد- العام الماضي في الترتيب الثامن بين اللغات العالمية، وهي في ذلك متأخرة عن اللغة العربية بأشواط... ولكن... يا ليت قومي يعلمون.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©