الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تركيا وفرنسا·· مشاهد من الانبهار والكراهية

تركيا وفرنسا·· مشاهد من الانبهار والكراهية
27 يونيو 2007 01:06
المشهدالأول ما أن عاد إلى الأناضول في نهايات العقد الثاني من القرن الماضي، وبعد أن أنهى دراسته العسكرية بدأ ''مصطفى كمال'' المبهور بفرنسا يسلك طريقاً يحاكي نمط الحياة على غرار أهل باريس، فصار يحيي الجيران بالتحية الفرنسية صباحاً ومساءً، لكن الأم ''زبيدة هانم'' لم ترض بهذا التفرنج الذي لا يليق بالأناضول، وبحسم، طلبت من الابن الكف فوراً عن هذا السلوك ''المعيب'' والعودة إلى أصوله والتمسك بلغة الأجداد· والحق كان في داخل الأم كراهية خاصة لفرنسا شأنها في ذلك شأن سكان هضبة الأناضول، ففي العقل الجمعي لا ينسى التراث الثقافي التركي تلك الحكايات التي تناقلها الرواة، وفيها تشبيه الحصار العثماني لفيينا في العقد الثالث من القرن السابع عشر بوضعه على هيئة قطعة عجين صارت ''الكرواسان'' الشهير وبحيث يمضغها كل أوروبي بتأنٍ في الإفطار صباح كل يوم· بطبيعة الحال لا يمكن أن تمر تلك الأسطورة من دون أن يعرفها كمال الذي سيؤسس بعد سنوات قليلة جمهورية فتية سوف يشار لها بالبنان، لكن ما يهمنا أن نتوقف عند ملاحظتين، الأولى: أن حكاية الكرواسان المشينة لم تكن سبب رضوخه لرغبة أمه في الامتناع عن ترديد الكلمات الفرنسية بيد أنه لم يعرف عنه قط أن خالف الأم· أما الملاحظة الثانية أن مصطفي كمال سيتجاوز كراهية الأساطير لفرنسا وينصب جل اهتمامه على استلهام ''مونتسيكو'' و''جاك جان روسو'' وتنوير ''فولتير'' ومكتسبات العلمانية الفرنسية ليضعها نبراساً لعالمه الجمهوري الجديد عوضاً عن الإمبراطورية العثمانية المنهارة، ولكنه فقط سيؤجل واحداً من شعارات الثورة الفرنسية ألا وهو الحرية فاتاتورك (اعتبارا من 1934) كان مصراً على أن الأناضول أمامه بعض الوقت كي يستوعب الديمقراطية على النسق الأوروبي·، الغازي لن يكتف بذلك فحسب بل سيعتبر دحره للأطماع الفرنسية في بلاده أوائل العقد الثالث من القرن الفائت، من الماضي الذي يحققه المؤرخون، أما الحاضر فيتطلب علاقات قائمة على الاحترام المتبادل لكن هذا على ما يبدو لم يكن ليشفع لأنقرة!!· المشهد الثاني وقف منتظراً لبرهة قصيرة طبقاً لقواعد البروتوكول، وما أن صعدت درجات القصر الرئاسي انحنى الرجل (وهي العادة التي سيحرص عليها ''جاك شيراك'' طوال وجوده كرئيس لفرنسا) يقبل يد السيدة الجميلة ''تانسو تشيللر'' رئيسة الحكومة التركية في الفترة من 1993 ـ 1996 )· وأثناء المباحثات -وانطلاقاً من رؤية الأليزيه بضرورة تحقيق التقارب بين شطري المتوسط- أكد شيراك لضيفته دعم باريس الكامل لجهود أنقرة من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي· في نهاية التسعينات سيتفق اليمين الديجولي واليسار الاشتراكي على المواقف المبدئية الذاهبة إلى قبول انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وبالتزامن سيبذل شيراك اليميني ومعه رئيس وزرائه الاشتراكي آنذاك ''لونيل جوسبان'' قصار جهدهما كي لا يقر البرلمان مشروع قانون يحمل تركيا العثمانية وزر إبادة مليون ونصف المليون أرميني أثناء الحرب العالمية الأولى، غير أن هذه الجهود لن تفضي إلى شيء، بيد أن شيراك سيضطر في نهاية المطاف المصادقة على القانون الذي أقرته الجمعية الوطنية الفرنسية · شيراك لم يفعل ذلك لأنه غير مؤمن بمزاعم الأرمن بقدر حرصه على مصالح الأمة الفرنسية، وعقود بملايين الدولارات تذهب لمصانع السلاح الفرنسي، وتبادل تجاري يعود بالنفع على المواطن الفرنسي أولاً وأخيراً، وهو ما يعني أن المصالح أحياناً تكون لها الأولوية، ولا بأس من التغاضي عن ما يعتقد أنه من الثوابت، بيد أن اليمين الديجولي لن يتذكر وهو يوقع وثيقة هلسنكي في ديسمبر 1999 التي أقرت ترشيح أنقرة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مقولة مؤسسه الرئيس الراحل شارل ديجول ''مالنا وتركيا التي تنتمي إلى الشرق المعقد''· المشهد الثالث على أي حال، لن يستمر التعاطف ''المصلحي'' الفرنسي -إن جاز التعبير- حيال تركيا طويلاً، وبالتالي ما تم نسيانه أو تناسيه من ثوابت التاريخ ومأثورات الزعماء سيعود من جديد مع وعد أن يظل في ذاكرة أجيال الأمة الفرنسية، وهكذا جاء التراجع، وكانت البداية إرجاء الزيارة الرسمية لجاك شيراك لأنقرة والتي لن تتم في نهاية الأمر، وقيل في ذلك تفسيرات عديدة، كان أقربها للمنطق هو أن شيراك في حال قيامه بالزيارة سيكون مضطراً في أن يضع باقة ورد على قبر مصطفي كمال أتاتورك، الأمر الذي سيثير حتما حفيظة الجالية الأرمينية، فضلاً على أنه قد يفسر من قبل الغوغائية العنصرية وكأنه مكأفاة فرنسية لأتاتورك لأنه قام بمقاومة نزعتها الاستعمارية!! ثم جاءت الخطوة الثانية في مسيرة التراجع والتي تزامنت مع صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، ففي بهو جامع السلطان احمد بقلب اسطنبول، وبمناسبة انعقاد قمة حلف الأطلنطي، (في اسطنبول وليس في أنقرة والاختيار لم يكن مصادفة وذلك لتلافي القادة الأوروبيين من الحرج المحتمل بزيارة ضريح آنك كبير)، تأكد لجاك شيراك -على الرغم من أنه بدا سعيداً ومفتوناً وهو يقف وجها لوجه أمام فنون وثقافة الأناضول- أن تركيا لن تكون في الاتحاد الأوروبي (وهو ما أكده استطلاع للرأي في أجرته مؤسسة ايبسوس الفرنسية في ديسمبر نهاية 2002) والحقيقة لم يكن هذا قاصراً على فرنسا وحدها، فقد ظهر هناك تيار أوروبي عام مناوئ لانضمام تركيا خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر عام ·2001 ومع اقتراب مغادرته الاليزيه، وفي زيارته الرسمية للعاصمة الأرمينية ''باريفان'' انطلقت صيحة ''شيراك'' -التي اخترقت جبال ارارات الحدودية مع تركيا لتصل بسرعة البرق إلى قلب العاصمة أنقرة- على تركيا أن تقدم اعتذاراً للشعب الأرميني عن مذابح التي طالته قبل تسعة عقود· المشهد الرابع مصادفة تبدو مذهلة في أكثر من وجه، نذكر اثنين فقط، الأول كان قبل مايزيد على ثلاثة قرون ونصف، عندما قام الملك المجري ''فرديناند'' الثاني بتكريم الجد الأكبر لأسرة ''ميهالي ساركوزي'' لاستبساله في مقاومة الأتراك المتوحشين على أسوار فيينا، وها هو الحفيد نيكولا يعيد المجد نفسه بقوله: لا مكان لتركيا في الاتحاد الأوروبي· بالطبع لا يجعل الماضي سبباً، ولكن يرجع رفض طلب تركيا كون الأخيرة وبحكم الجغرافيا ومفهومها الكلاسيكي لا تقع في أوروبا وإنما في آسيا الصغرى، ''ساركوزي'' سيزيد متهكما على منافسته الاشتراكية ''رويال'' أثناء مناظرة جرت بينهما خلال السباق على الاليزيه أن أنقرة في الاتحاد الأوروبي يعني أن حدود أوروبا باتت مع إيران والعراق· أما الوجه الثاني: فيتعلق بالمجر ذاته وأقليته الساكنة في التشيك، والتي لم تجد مرفأً لعللها وهي كثيرة لا تنتهي، لكن الدولتين التشيك والمجر عضوتان في الاتحاد الأوروبي، وعلى الرغم من ذلك، ليس هناك في الأفق من أمل لإيجاد مخرج للأقلية المجرية· المثير في هذا أن ''ساركوزي'' المجري الأصل ينسى -أو يتناسى- تلك المعضلة ولكن يتذكر جيداً الأقلية الكردية، وبطء السلطات التركية في إنصافها!! إذا كان هذا هو موقف ساركوزي، والذي أكد أنه سينفذ كل ما قاله ولن يحنث وعداً واحداً قطعه أمام ناخبيه، أذن فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا الزيارة التي قام بها مستشاره الدبلوماسي لأنقرة؟ وهل بالفعل أن جان ''دافيد ليفيت'' والذي كان سفيراً في واشنطن جاء فقط ليوضح موقف ساركوزي حيال انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي؟ وهل هذا الموقف في حاجة إلى إيضاح؟ الثابت أن ''دافيد ليفيت'' جاء ليسوق الاتحاد المتوسطي وشراكة أوروبية متميزة مع تركيا بعيدة عن الاتحاد الأوروبي، غير أن أنقرة لن تقبل بديلاً عن العضوية الكاملة، وفي الوقت نفسه لن تصعد مع باريس، مكتفية بالقول على ساركوزي أن يحترم توقيع بلاده على وثيقة هلسنكي التي قضت بقبول ترشيح تركيا للاتحاد الأوروبي· والآن ما رهان تركيا في المرحلة المقبلة؟ على الرغم من كل ذلك لا تبدو الصورة الحالية للعلاقات التركية الفرنسية قاتمة تماماً، بيد أن أنقرة عليها أن تغتبط مؤقتاً على الأقل، فالناخب الفرنسي لم يعط لـ''ساركوزي'' تفويضاً كاملاً، وها هو اليسار الاشتراكي المؤيد لانضمام تركيا العلمانية للاتحاد الأوروبي، وعكس ما كان يتوقع له، فهو يستحوذ على عدد مهم من مقاعد الجمعية الوطنية من هنا سيكون رهان تركيا·
المصدر: أنقرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©