الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بدع الورد (2)

بدع الورد (2)
1 ابريل 2009 23:18
ابن المعتز الذي كان يضرب به المثل في قوة التخيّل، وأصالة التصوير، يقول عن الورد: أتاك الورد مُبيَضًّا مصونا كمعشوق تكنفه صدودُ كأن وجوهه لما توافت نجوم في مطالعها سعودُ بياض في جوانبه احمرار كما احمرت من الخجل الخدود فهذا يعزف عن الأنواع الشهيرة من الورد الأحمر، ليتأمل الأبيض المصون عن الأنظار، ويراه معشوقا لا يبتذل نفسه بل يعتصم بالتأبي والصدود· وهو يرتفع من مدارج النظر إلى التحليق في الفضاء، فوجوهه التي تتوارد على الناظر تبدو كأنها نجوم السعد الطالعة في صفحة السماء· ينتقل الشاعر بسرعة من اللون الحسي إلى المعنى الكوني، لا يتلبث طويلا عند الشكل بل سرعان ما يتشبث بالدلالة· على أن بياض الورد عنده ليس خالصا بل يختلط بشيء من الحمرة التي تضفي عليه صبغة أنثوية طريفة· ولأن الورد قصير العمر في موسمه، فإن الصورة التي كانت غالبة على الورد هي تشبيه بالزائر، فابن المعتز ذاته يقول: أهلا بزائر عامٍ مرة أبدا لو كان من بشرٍ قد كان عطارا كأنما صبغته وجنتا خجلٍ قد حل عقد سراويل وأزرارا فلو رآه حبيسٌ فوق صومعةٍ لقال: في مثل هذا أدخل النارا وهنا يتكشف لنا الشاعر المبدع عن ساردٍ أصيل، فهو يسمي الورد ''زائر عام مَرَّة'' وكأنه يهدي فكرة ''زورونا في السنة مرة'' إلى من سيأتي بعده من شعراء الأغاني· لكنه يدهشنا بفكرة أخرى عجيبة، هي أن هذا الورد لو كان إنسانا لأصبح ''عطارا''، لماذا؟ لأن العطارة قديما وحديثا هي فن صناعة الطيوب والعطور والأصباغ وأنواع الجمال المختلفة، فخيال ابن المعتز يقفز بطريقة نزقة محببة من الورد إلى العطارين، كأنه ينتقل من بغداد القديمة إلى باريس المحدثة، ثم يضاعفها بصورة أخرى ''باريسية'' بالغة الطرافة؛ إذ طالما اقترنت حمرة الورد عند الشعراء بحمرة الخجل، لكنه هنا يرسم مشهدا لخجل بحكاية موجزة بليغة عن محبوب فاتن، يحلّ ـ بالرغم من خجله ـ عقدة سراويله وأزراره إغراء لحبيبه، فيصل إلى ذروة الفتنة، حتى لو رآه متبتلا ناسكا في صومعته لكف عن زهده، وانصرف عن جنته، وهتف في أوج غوايته: ''لمثل هذا أدخل النار''· واللافت للنظر في هذه الأبيات أن صنعة الشعر فيها لا تمثل عائقاً في سلاسة السرد، بل تساعد على إحكامه في أشد مناطقها التعبيرية حساسية وهي القافية، حيث تسهم كلماتها في احتدام لحظات التوتر، فتشبيه الورد بالعطار هو الذي أغرى الشاعر بقصة الغواية وحل الأزرار في القافية الثانية، مما أفضى إلى لحظة التوتر التالية التي جعلته يتمنى دخول النار ثمناً لمتعة إشباع الشهوة في ضربة ختام عالية الإيقاع· ولو كان ابن المعتز قد استثمر هذه الطاقة السردية لديه في مجموعة من القصص الشعري لكان قد فتح باباً جديداً في الشعرية العربية·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©