السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

موسم الهجرة إلى الكتاب

موسم الهجرة إلى الكتاب
14 مارس 2008 01:42
في أرض المعارض بأبوظبي يمكن للمرء الشغوف بخير جليس في الزمان، أن ينتشي ويتباهى وسط كائناته الأثيرة واللصيقة بمعدنه وهواه، فمعرض أبوظبي الدولي للكتاب، أصبح علامة أصيلة للنزعة الثقافية والفنية التي تحرس الأرض والإنسان في هذا المكان من العالم، هذا المكان الذي ظل لسنوات طويلة نائيا وبعيدا عن المشهد الثقافي، وهي سنوات كانت ضالعة في حفر الأساسات الأولى للملمح الحضاري القادم· واليوم عندما يبدأ موسم الهجرة إلى الكتاب من خلال هذا المعرض الكبير في مساحته والعميق في أثره اليوم وغدا وفي ذاكرة الأجيال المستبشرة بالقادم، فإن على المرء أن يستند وبثقة على حائط المعنى، وهو حائط لا يمكن أن يتداعى، لأنه قائم على الوعي والفكرة لا على الإسمنت والأزميل· ورغم أن المحللين المستقبليين يرون أن قارئ الكتب في المستقبل سيتحول إلى كائن نادر ومعزول ومغيب مثل الظواهر القابلة للانقراض، إلا أن مواسم الكتب تأتي كل مرة كي تحيل هذا التشاؤم على الرف مجددا· ومن يزر معرض أبوظبي للكتاب هذه الأيام يستشعر عن قرب مدى الألفة والحميمية التي تربط الناس بالكتاب، فهم يأتون فرادى وزرافات، صغارا وكبارا، ومن كل الأجناس والمشارب والمنابع، كي يلتمّوا على معنى واحد وعلى وهج مشترك، وكي يستعيروا حياة أخرى أجمل وأنبل وأرحب من كل هذا الهوس المزيف والإيقاع المتسارع نحو الزائل والمتقشر واللامتعين· وعند مقارنة أي معرض تجاري بمعرض الكتاب مثلا فإن الفوارق تتوضح من خلال الميل إلى جانب الروح عوضا عن الميل نحو ما ينفي ويقصي هذه الروح· ففي معرض الكتاب يمكن أن تصادف طفلا صغيرا وهو يتلمس الكتاب كما لو كان يتلمس أصابع أمه، وترى الشيخ المسن وهو يمسك الكتاب بقوة، كما لو كان يتكئ عليه· يقول الكاتب الأرجنتيني ألبرتو منغويل: إن العلاقة بين الكاتب والقارئ والتي بدأت في بلاد ما بين النهرين في يوم محفوف بالأسرار ، ستبقى قائمة أبد الدهر· هذه الأقوال المشعة بالتفاؤل ترصدها دون شك مثل هذه المعارض لأنها تعرض حقائقها على العين دون بهتان أو مزايدة، لأن فعل القراءة واقتناء الكتب سيظل دائما فعل تبجيل ومباهاة بقيمة الإنسان ككائن خلاق ومبدع ومتذوق لثمار الحضارة على طول التاريخ وعرضه،و بكل عذاباته وتضحياته انتشاءاته ومباهجه· فالقراءة تعلمنا فن الإنصات وبعمق لذاوتنا الخافية عن الظاهر المقلق والمشوش، إنها تعيد نبش إدراكاتنا الذهبية المطمورة تحت ركامات الجهل والنسيان والتشاغل اللحظي· وعند القراءة يقودنا الكاتب ـ الغائب والمجهول ـ إلى رحلة مليئة بالغوامض والمتاهات كما هي مليئة بالدهشة واللذة أيضا· والكتب أطول عمرا من مؤلفيها، وأكثرها خلودا تلك التي لا نريد الانتهاء منها والوصول لصفحتها الأخيرة، لأنها صفحة تشبه غطاء التابوت! إنها الكتب التي تتحول أغلفتها إلى أجنحة، وأجنحتها إلى غيمات تظلل عزلاتنا الأثيرة وتقحمنا في هامش الوقت وفي متن الروح، إنها كتب لا نعثر فيها على العبارة الأخيرة والكلمة الأخيرة والغلاف الأخير· وأقصر الكتب عمرا تلك المهجورة قصدا والمدفونة في ظلمة تمتد بين غلافين، تضيء العين الكتاب وتحييه، ولولاها يصبح الكتاب بضاعة التلف والهجران والمحو· والقراءة تعيد ترتيب أحوالنا المتناثرة، نحن المكسورين في ضجة المشاغل، واللاهثين في دروب ضالة، كما أنها تنعش وجودنا في صلب الحياة، وتعيدنا من عالم التشبيه إلى عالم الأصل، ومن الاستعارة إلى الفضائل الإنسانية العامرة· والقراءة الحرة هي قراءة البهجة أيضا، لأنها خارجة عن إطار الفرض والتلقين إلى رحابة الاختيار والهوى الشخصي· لذلك فإن معارض الكتب هي معارض مفتوحة على العين ، كما هي مشرعة على البصيرة، وهي السياحة بين كائنات صامتة ومغلقة على كنوز ومغانم كثيرة· وفي معرض مثل معرض أبوظبي الدولي للكتاب يمكن لتربية الذائقة أن تعيد القارئ الغائب إلى الكتاب الحاضر، وأن توازن بين الرصانة المعرفية وبين الانفلات الهش والعابر للتكنولوجيا الجديدة واللاهثة، وبشكل تفاعلي يخفف من عبء النظرة الحذرة للثقافة كونها منبعا أحاديا للنخبة المثقفة· كما أن هذه المعارض قادرة على تذويب المسافات الذهنية لدى الأجيال الجديدة والتي تعطل علاقاتهم بالكتاب· معرض أبوظبي الدولي للكتاب هو معرض أعياد وبشارات وهو يقفز من منطقة البهرجة والشكليات والأنماط التقليدية إلى منطقة الإشعاع الممتد إلى المستقبل، وإلى حقل الضوء الذي يطرح ألقه في كل يد وكل عين وكل ذاكرة· إنه معرض لترميم الذات وإعادة النبض للجمال المحتبس فينا·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©