الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عن البحث التاريخي: الأهواء والحقائق

عن البحث التاريخي: الأهواء والحقائق
20 ديسمبر 2012
نشر الأستاذ حلمي النمنم مقالة عنوانها “عبدالحميد سعيد مؤسس الشبان المسلمين في مصر: صاحب الشارع المجهول” في الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد “الاتحاد الثقافي” عدد 21 يونيو 2012. وتشمل عرضاً وتحليلاً لكتابي: “عبدالحميد سعيد ـ أسد البرلمان الثائر”. والكتاب المذكور يتناول قصة حياة خالي الدكتور عبدالحميد سعيد (1882 ـ 1940) الذي يعد واحداً من أبرز رموز العمل الوطني والقومي والإسلامي في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين. وهو شخصية متفردة في التاريخ المصري من حيث تنوع عطاءاته في مجالات متعددة. حتى يمكن القول بأنه جيفارا مصري وإن كانت قصة حياته أكثر تنوعاً وثراء من جيفارا نفسه.. حيث نذر حياته كلها في سبيل هدف نبيل هو خدمة مصر والإسلام. فقد شمل كفاحه كفاحاً علمياً حتى حصل على الدكتوراه من جامعة باريس عام 1912 وكان موضوعها عن محبوبته مصر التي ناضل في سبيلها منذ أن التقى وهو في الخامسة عشرة من عمره بمصطفى كامل. كما شمل كفاحه جهاداً عسكرياً ثم كفاح في المنفى مع زعيمه محمد فريد يناضل في سبيل استقلال مصر في كل مكان إلى أن عاد إلى وطنه بعد انتهاء سنوات النفي الخمس التي فرضتها عليه سلطات الاحتلال (1918 ـ 1923). عاد بعد تسع سنوات في الغربة مقاتلاً ومفاوضاً ثم منفياً مجاهداً.. عاد ليشغل مقعده والده في مجلس النواب ليصبح نائباً من أشهر نواب ذلك العصر ولتطلق عليه صحافة ذلك العصر لقب “أسد البرلمان الثائر”. وليخوض مجموعة من أشهر المعارك البرلمانية في عصره أشهرها معركة إلى جانب سعد زغلول ضد حكومة زيور (الموالية للقصر وللاستعمار) التي تلاعبت بالدستور وليقود إلى جانب سعد معركة اجتماع البرلمان من تلقاء نفسه في فندق الكونتننتال عام 1925 دفاعاً عن الدستور.. وهو الاجتماع الذي أسفر عن انتخاب سعد زغلول رئيساً وانتخابه (عبدالحميد سعيد) ومحمد محمود وكيلين. ومعركة ضد طه حسين عندما أصدر كتابه المثير للجدل “في الشعر الجاهلي” الذي أنكر فيه قصة بناء الكعبة كما وردت في القرآن الكريم. ومعركة مع الوزير مكرم عبيد بسبب تخاذل حكومته وموقفها الذليل أمام تهديدات الاستعمار بشأن قانون الاجتماعات والمظاهرات. وكان مشهوراً بمناصرته وتبنيه للقضايا القومية مثل وحدة مصر والسودان والقضية الفلسطينية ودعم الجيش المصري. كما أسس جمعية الشبان المسلمين عام 1927 وانتخب أول رئيس لها وظل يشغل هذا المنصب حتى وفاته عام 1940. وأصبحت الجمعية في عصره واسعة الانتشار في مصر وكثير من البلاد الإسلامية وبذلت جهوداً بارزة في سبيل الدعوة الدينية والقضايا القومية والاجتماعية. الكتاب والموضوع وقد أسعدني كثيراً اهتمام كاتب ومفكر معروف كالأستاذ حلمي النمنم بكتابي في عرض وتعليق يدلان على ثقافة واسعة ورؤية ثاقبة عرفت عن هذا الكاتب الكبير. كما أسعدني أيضاً قوله إن عبدالحميد سعيد يستحق أن تعرفه الأجيال الجديدة. ثم زادت سعادتي بقوله عن أهمية هذا الكتاب إنه “ينبه الباحثين والدارسين فضلاً عن المؤرخين إلى ضرورة الاهتمام بشخصية عبدالحميد سعيد لأنه لعب دوراً مؤثراً في الحياة (المصرية) العامة في النصف الأول من القرن العشرين”. وقد كان هذا هو أحد هدفين أساسيين سعيت إلى تحقيقهما من وراء تأليف هذا الكتاب. خاصة بعد أن أصبح المؤرخون يعتبرون عبدالحميد سعيد من الأبطال المنسيين. وإذا كان هذا رأي كاتب في وزن الأستاذ حلمي فإنني أكون قد حققت هذا الهدف. وكان للكتاب هدفاً ثانياً أساسياً مرتبطاً بالهدف الأول ولا يقل عنه أهمية. وهو أن تكون قصة حياة عبدالحميد سعيد قدوة للجيل الحالي يعرفها ويحاول أن يقتدي بها.. حتى يمكنه أن ينزله مكانه من الإجلال والتقدير جزاء ما قدم لوطنه وأمته العربية والإسلامية، وإذا كنت قد سعيت إلى تحقيق هذا الهدف الثاني بدفع من الحب والإنبهار بخالي كما قال الأستاذ حلمي فأنا لا أنكر ذلك. ومن ذا الذي لا يملك إلا أن ينبهر بمثل هذه الشخصية.. خاصة إذا كانت هذه الشخصية هي شخصية “خاله”. وحتى أكون موضوعياً وحتى يكون بحثي علمياً فقد رأيت ألا أقول رأي في خالي إلا بناء على آراء مجموعة من كبار مؤرخي مصر ومثقفيها. قال عنه الكاتب الكبير ثروت أباظة إنه “أسطورة وطنية ودينية”. أما أديب عصره الشيخ عبدالعزيز البشري فقد قال عنه إنه “أبو زيد الهلالي” أو “الزناتي خليفة” ولكن من العصر الحديث. في حين وصفه كبير مؤرخي مصر عبدالرحمن الرافعي مؤرخ الوطنية المصرية قائلاً: “كان قوة عاملة في الحركة الوطنية والنهضة الاجتماعية، كان زعيماً مجاهداً، قوي الإيمان، راسخ العقيدة، ثابت الفؤاد، عالي الهمة، جريئاً مقداماً، لا يهاب إلا الحق ولا يعمل إلا للحق.. وقف حياته على خدمة مصر والإسلام”. كما قال عنه حسن البنا في رثائه: “كان عبدالحميد سعيد علماً من أعلام الجهاد، وبطلاً من أبطال الوطنية. فقد كان الفقيد ملء السمع والبصر. أتاه الله بسطة في الجسم وجلجلة في الصوت، وشجاعة في الرأي، وصلابة في الحق، وثباتاً في الإيمان، رفعت ذكره وخلدت أثره”. لقد كتبت هذه الكوكبة اللامعة من كبار كتاب مصر ومفكريها وزعمائها الدينيين هذه الكلمات بعين الحب. ولم يكن عبدالحميد سعيد ينتمي بصلة القرابة لأياً منهم.. لكنهم لا يملكون بحسهم الوطني والديني ورؤيتهم الثاقبة إلا أن يعجبوا بمثل هذه الشخصية الساحرة. وإلى جانب ما قدمه الأستاذ حلمي من عرض ممتع وعميق لمحتويات الكتاب فقد قدم في نهاية مقالته مجموعة من أوجه النقد التي اعتبرها انتقادات بنّاءة أوافقه على بعضها وأعتقد أنه قد ظلمني في غيرها. وأوضح فيما يلي رأيي في هذه الآراء عملاً بقول الإمام الشافعي: “رأي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”. العاطفة والموضوعية أولاً: كتابة التاريخ بين الموضوعية وعين الحب يقول الأستاذ حلمي في تحليله لكتابي: “مشكلة هذا الكتاب أن صاحبه أعده بعين الحب لخاله فقط وليس بعين الباحث أو المؤرخ”. والحقيقة أن هذه العبارة قد استوقفتني وحيّرتني كثيراً. وتصورت أن الأمر التبس على الأستاذ حلمي وأنه يتحدث عن قصيدتي الشعرية التي نشرتها بأحد ملاحق الكتاب وتتناول قصة حياة “عبدالحميد سعيد” استكمالاً للملحمة الشعبية التي تتناول قصة حياته، إذا كان هذا ما يقصده فإنني أوافقه تماماً. ولكنني وجدته يقول “هذا الكتاب” فتبين أنه يقصد كتابي هذا. ثم وجدته يتهمني بأنني لم أعد هذا الكتاب بعين الباحث (أو المؤرخ). وهو بهذا يظلمني ظلماً كبيراً وأنا الذي قضيت عمري كله في البحث العلمي في جامعات مصر وبريطانيا والكويت في فرع من فروع العلوم الاجتماعية (مثل علم التاريخ) وحصدت مجموعة من الجوائز المصرية والبريطانية والعالمية في البحث العلمي (لا أريد هنا أن أسردها لكثرتها وحتى لا أتهم بالغرور ولكنها متاحة لاطلاع المهتم). كما أقوم بتدريس مناهج البحث العلمي لطلاب الدراسات العليا في مصر وبريطانيا منذ سنوات طويلة. واعتبرت أن هذا الكتاب يحقق لي إضافة علمية في مجال البحث العلمي. كما لم أفهم عبارة “الباحث أو المؤرخ” التي كررها. حيث أن المؤرخ هو باحث في علم التاريخ. وكنت أتمنى لو أن الأستاذ حلمي قد شرح لنا مفهومه لعين الباحث. هل يقصد “أهداف البحث العلمي” أم “منهجية البحث العلمي”، أم يقصد أنني لم أكن محايداً في عرض موضوع الكتاب. وهنا تثور مشكلة العرض التاريخي لسير الشخصيات التاريخية بين الحياد (أي الموضوعية) وبين الإعجاب بالشخصية. للبحث العلمي في العلوم الاجتماعية (مثل علم التاريخ وعلم المحاسبة) أهدافاً معروفة ومنهجية معروفة أيضاً توضحها المراجع العلمية المعروفة والمتوافرة بجميع اللغات. وللبحث العلمي مجموعة من الشروط ينبغي توافرها ومن بينها الحياد (الموضوعية). وأعتقد أن هذا ما يقصده أستاذنا حلمي النمنم. فهل ينبغي على المؤرخ الذي يتصدى لسير بعض الشخصيات الساحرة ألا يتأثر بهذا السحر؟ حتى يمكننا الإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن نعرف: هل هذا السحر هو سحر حقيقي ومعروض بطريقة موضوعية سليمة؟ فإذا كان السحر حقيقياً ومعروضاً بطريقة صحيحة وموضوعية.. تكون الإجابة أن البحث قد توافر لديه شرط الحياد، وإلا كان البحث متحيزاً. وأضرب مثالاً لذلك بالأبحاث التاريخية لمؤرخ الوطنية المصرية الأعظم عبدالرحمن الرافعي وقد كتب كتابين تاريخيين رائعين عن سيرتي حياة عظيمين من أروع عظماء التاريخ المصري الحديث هما “مصطفى كامل” و”محمد فريد”. ولم يمنعه انبهاره بهاتين الشخصيتين من توفير مرجعين تاريخيين من أهم المراجع التاريخية التي تتنول سيرتي حياتهما. وهل يملك باحث تاريخي أن يتناول شخصية مثل مصطفى كامل دون أن ينبهر. وكذلك نجد أن الرافعي ومحمد عمارة قد أرخا لساحر آخر هو “جمال الدين الأفغاني”. في حين كتب العقاد كتابه المعروف عن ساحر رابع هو سعد زغلول. وما يهمنا بطبيعة الحال هو ألا يبعدنا هذا السحر عن الموضوعية وأن نعلم أن هذه الشخصيات من البشر لهم أخطائهم فالكمال لله وحده. وأحب أن أؤكد للأستاذ حلمي أنني قد أعددت كتابي وراعيت الالتزام بالمنهجية العلمية السليمة المتعارف عليها في العلوم الاجتماعية. وحاولت ألا تؤثر عين الحب في الموضوعية حيث كان الكتاب موثقاً توثيقاً علمياً سليماً بأكثر من مائة مرجع. كما راعيت أن أذكر انتقادات البعض مثل فكري أباظة وعبدالعزيز البشرى لعبدالحميد في بعض المواقف التي أؤيدهم فيها وأضفت إليهم نقدي لموقفه من الاختلاط بين الجنسين. وإن كانت سلبيات مثل هذه الشخصيات قليلة، وأدعو الأستاذ حلمي لإعادة قراءة الكتاب بتأني لأني أعتقد أنه ظلمني بهذا الحكم ولذلك فإنني أرفعه للإستئناف. وثائق ناقصة ثانياً: مواضيع تحتاج للإطالة.. الشبان المسلمين ومفاوضات الجزيرة العربية. يرى الأستاذ حلمي أن هناك موضوعين يحتاجان إلى الإسهاب وزيادة الاهتمام نتناولهما في هذه الفقرة، في حين يرى أن هناك موضوعاً آخر قد أسهبت فيه أكثر من اللازم هو موضوع طه حسين وسأتناوله في الفقرة التالية. الموضوع الأول: مفاوضات الجزيرة العربية تطوع عبدالحميد سعيد في الجيش التركي في حرب البلقان (1912 ـ 1913) دفاعاً عن الإسلام وأصيب إصابة خطيرة وعولج ومنح وساماً وترقية استثنائية واعتبر من أبطال العرب. وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى عام 1914 سافر إلى الآستانة ولحق بالزعيم محمد فريد هناك وشاركه في إقناع الأتراك بإرسال حملة لتحرير مصر من الاستعمار البريطاني عن طريق قناة السويس. ثم سافر مع هذه الحملة وقاتل في معارك قناة السويس. وقد كلفته القيادة التركية بمفاوضة قيادات عرب الجزيرة العربية لتحقيق الوحدة بينهم بدلاً من الاقتتال وفي نفس الوقت محاولة إقناعهم بالانضمام إلى صفوف المسلمين في قتالهم ضد عدوهم المشترك الاستعمار البريطاني. ويرى الأستاذ حلمي أن هذه المفاوضات كانت بالغة الأهمية لتحديد مصير المنطقة. ولذلك فهو ينتقدني لأنني لم أخصص لهذا الموضوع البالغ الأهمية سوى صفحة واحدة. وأنا أوافقه تماماً على هذا الرأي. وإن كان عذري إنني التزمت بالمنهجية العلمية.. وبالرغم من طول البحث لم أجد المراجع اللازمة للأسف وقيل إنها يمكن أن تكون موجودة في الأرشيف التركي. وإنني أدعو الباحثين الذين يمكن أن تتوافر لديهم المراجع أن يوافوني بها مشكورين أو أن يكتبوا أبحاثاً عنها تفيد تاريخنا. وما سمعته من أقوال مرسلة يصلح موضوعاً لفيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني لأن خصمه كان الجاسوس الشهير لورانس. وكان كل منهما يطارد الآخر وقد سمعت عن مغامرات ومطاردات بين الطرفين بالغة الإثارة ثم اكتشاف عبدالحميد لرسائل مكماهون ومحاولاته لإقناع الشريف حسين بزيف الإدعاءات البريطانية التي يعرفها المصريون ويعرفها عبدالحميد بحكم خبرته السياسية ودراسته في باريس، وقد أثبتت الأيام صدق فراسته. ثم اتصالاته بعبدالعزيز بن عبالرحمن آل سعود (الملك فيما بعد) والصداقة الوثيقة التي ربطت بينهما حتى وفاة عبدالحميد الذي تمكن من إقناعه بعدم محاربة الأتراك والبقاء على الحياد. وكذلك إقناعه لمنطقة المدينة المنورة بالبقاء في صف الأتراك. الموضوع الثاني: جمعية الشبان المسلمين يرى الأستاذ حلمي أنني كان يجب أن أهتم اهتماماً أكبر بالجزء الخاص بجمعية الشبان المسلمين. لقد خصصت لجمعية الشبان المسلمين ثلاثون صفحة تناولت جوانب تأسيسها ومؤسسيها وأهدافها (مع مقارنتها بأهداف حياة عبدالحميد سعيد وجمال الدين الأفغاني) وأوجه نشاطها المختلفة وتحليلاً لعلاقتها بحسن البنا وبجمعية الإخوان المسلمين ثم موقفها من العمل السياسي. ونظراً لأن الكتاب كان يؤرخ لسيرة حياة عبدالحميد سعيد المتعددة الجوانب فقد اكتفيت بذلك. وأنا أوافق الأستاذ حلمي على أن جمعية الشبان المسلمين تحتاج إلى كتاب آخر مستقل. قضية طه حسين ثالثاً: طه حسين صاحب الخدعة الكبرى للعالم العربي كثير من القراء والمثقفين في العالم العربي يعلم أن طه حسين الذي ألقي عليه لقب عميد الأدب العربي قد بدأ حياته بسرقة علمية واضحة اعترف بها أمام النيابة وبأخطاء فاحشة في منهجية البحث العلمي اكتشفتها النيابة أيضاً، إضافة إلى كفر صريح.. وذلك كله في كتاب اسمه “في الشعر الجاهلي” أصدره عام 1926 وقام بتدريسه لطلبة كلية الآداب.. وأن النيابة قد أمرت بمصادرة الكتاب الجاهلي “أصدره عام 1926 وقام بتدريسه لطلبة كلية الآداب”. وأن النيابة قد أمرت بمصادر الكتاب وسحبه من الأسواق بسبب عبارات الكفر الصريح الواردة به. لذلك وجدت واجباً علي وقد ارتبط اسمه بإسم عبالحميد سعيد الذي قاد المعارضة ضد هذا الكتاب أن أعرض الموضوع كاملاً غير مبتور وبالوثائق وتحقيقات النيابة وأقوال طه حسين نفسه أمامها. وإذا كان الأستاذ حلمي يلومني في الإطالة وترديد أشياء معروفة فإنني أقول له إن الرأي العام العربي قد تعرض لخديعة كبرى ومن حقه أن يعرف الحقيقة كاملة، وقد عرضتها في 24 صفحة فقط.. وأعتقد أن هذا العرض كان مختصراً وكان معظمها مداخلات عبدالحميد في البرلمان ورد فعل طه ثم خلفيات العلاقة بينهما وتحليل لها وقد حل كلاهما على درجة الدكتوراه من نفس الجامعة (جامعة باريس). ولم تكن تحليلاتي لكتاب طه حسين في مجال بحث أدبي كما قيل ولكنها كانت تحليلات خاصة بأخلاقيات ومنهجية البحث العلمي. ولقد اعتبرت صحف ذلك العصر المعركة قائمة بين الرجلين خاصة بعد أن تولى عبدالحميد رئاسة جمعية الشبان المسلمين وكان من أهدافها الرئيسية محاربة الاتجاهات الإلحادية. صحيح أن عبدالحميد لم يبدأ المعركة كما يقول الأستاذ حلمي ولكنه تولى قيادتها بعد ذلك. وقد تعرض الرأي العام لحملة تضليل من بعض الذين لا يعرفون الموضوع أو المغرضين. من بينهم على سبيل المثال محقق الطبعة الثانية من ديوان حافظ ابراهيم. حيث نسب ذلك المحقق إلى شاعر النيل بيتين ركيكين من الشعر معتبراً أن عبدالحميد سعيد هو قائد الهجوم يقول فيهما: إن صح ما قالوا وما أرجفوا وألصقوا زورا بدين العميد فكفر طه عند ديانه أحب من إسلام عبدالحميد وأشك في أن هذين البيتين من نظم شاعر النيل لركاكتهما وخبث معناهما. ويقول نفس المحقق إن جامدي الفكر قد شنوا حملة على عميده طه حسين ومنهم من طالب بإهدار دمه مما دعا حافظ ابراهيم لكتابة هذين البيتين. ولا يعرف هذا المحقق (المخدوع أو المخادع) أن مصر بأكملها بقيادة الزعيم سعد زغلول هي التي هاجمت طه حسين بسبب هذا الكتاب. فقد أخرجت المطابع يومئذ عشرات الرسائل والمقالات الصحفية في الرد عليه ودحض آرائه. كما بلغ عدد الكتب التي صدرت في الرد عليه أكثر من أربعين كتاباً أظهرها كتب “تحت راية القرآن” لمصطفى صادق الرافعي و”الشباب الراصد” لمحمد لطفي جمعة و”نقد الشعر الجاهلي” لمحمد فريد أبو حديد و”نقض الشعر الجاهلي” للغمراوي. ومن أبرز من كتبوا مهاجمين هذا الكتاب محمد عبدالمطلب وعبد ربه مفتاح وعبدالمتعال الصعيدي. وقامت المظاهرات الهادرة تهاجم الكتاب ومؤلفه وتوجهت إلى دار البرلمان تطالبه باتخاذ إجراء ضد طه حسين. وخرج الزعيم سعد زغلول رئيس مجلس النواب يومئذ ليقول للمتظاهرين: “إن مسألة كهذه لا يمكن أن تؤثر في هذه الأمة المتمسكة بدينها. هبوا أن رجلاً مجنوناً يهذي في الطريق فهل يضير العقلاء شيئاً من ذلك. إن هذا الدين متين والذي لاشك فيه أن هذا الرجل ليس زعيماً ولا إماماً حتى نخشى من شكه على العامة. فليشك ما شاء.. ماذا علينا إذا لم يفهم البقر”. وأخيراً فإنني أكرر شكري للأستاذ الكبير حلمي النمنم على عرضه القيِّم ونقذه البنَّاء للكتاب الذي سيكون هادياً لي في الطبعة الثانية بإذن الله.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©