الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الوصيفة.. سيدة البلاطات

الوصيفة.. سيدة البلاطات
20 ديسمبر 2012
كثيرا ما يتساءل المرء عن التاريخ الحقيقي، التاريخ الذي وقع بالفعل: هل هو ما تضمه المخطوطات وما خطه المؤرخين؟ هل هو ما تكتبه كتب التاريخ؟ سواء لمؤلفين أفرادا أم للجان متكاملة، تبحث في الوثائق والمخطوطات والوقائع بل وأحيانا في الحفريات بحثا عن الحقائق التي تكتبها اللجنة كتاريخ منزه عن الهوى؟ أم أنه التاريخ المكتوب في روايات لمؤلفين مغرمين بتحويل الوقائع التاريخية إلى روايات بغض النظر عن انحراف المؤلف وليّ عنق الوقائع التاريخية لتنطق بما يريد المؤلف من تلك الوقائع، أو تقديم رؤيته الخاصة التي يمكن ان تكون مناقضة لوقائع التاريخ؟ بل ولها هدف آخر: التشويق لجذب القارئ ليتابع حكاية مصبوغة بالتاريخ ولكنها في الحقيقة لا علاقة لها بالتاريخ الحقيقي ووقائعه سوى ما تشي به أسماء تاريخية علقت بالذهن تكرارا في كتب مدرسية أو في حكايات أسطورية ملفقة. مؤكد أن بعض تلك الكتابات أكثر تشويقا من الأخرى، ولكن لتشويق من؟ بالطبع تشويق قارئ يود قضاء وقت ممتع أو قتل وقت الفراغ في أوقات راحته أو خلال إجازاته على احد الشواطئ او حتى جالسا على كرسيه في صالون مريح مكيف الهواء. إلا أن هذا لا يمنع أن تكون هناك كتابات إبداعية تستلهم التاريخ بحثا عن وقائع مطموسة لسبب ما لا نعرفه، قد يعتبر البعض وقائعها صغيرة ولا أهمية لها، ولكنها في الحقيقة لها دلالات مهمة ليقدمها لقارئ اليوم له يفهم بعضا من تاريخه وتاريخ أجداده المطموس الذي لم تقدمه لا كتب المدارس بمراحلها التعليمية المختلفة ولا كتب التاريخ. والروائية الإسبانية انخليس كاسو أجادت تلك الكتابة التي تبحث بين صفحات التاريخ عن مثل تلك الوقائع الصغيرة أو الأسماء الهامشية، أو لنقل همشها كتاب التاريخ باعتبارها غير مؤثرة، إلا أن بعض ما بحثت عنه تلك الكاتبة الحائزة على العديد من الجوائز كانت له أهمية تاريخية، أو انطلقت من وقائع صغيرة او استخدمت أسماء مجهولة إلى حد ما لتكشف عن معان كبيرة، ربما كان يمكنها أن تغير مجرى التاريخ. الرواية التاريخية الأخيرة للكاتبة انخليس كاسو والتي صدرت قبل أسابيع عن دار بلانيتا بعنوان “حيث ترتفع العروش” مع عنوان فرعي “الوصيفة التي أرادت ان تكون ملكا”، وتدور أحداثها في القرن الثامن عشر عندما كانت عروش الحكم في أوروبا متشابكة فيما بينها، والمصاهرة تتم بين عائلاتها الملكية كنوع من الحرص على السلطة، دون أهمية لرأي الشعوب، تلك الرواية قامت على وقائع تاريخية حقيقية وبطلتها الأولى تاريخية بالفعل. بطلة الرواية الأميرة “ماريانا دي ترايمول” الملقبة “أميرة اورسينوس”، شخصية تاريخية حقيقية فرنسية الأصل اختارها الملك لويس الرابع عشر ملك فرنسا الملقب في ذلك الوقت بلقب “الملك الشمس”، لتكون عينا له على حفيده الذي ارسله لحكم اسبانيا تحت اسم “فيليب الخامس”، من خلال عملها كوصيفة لزوجة ملك اسبانيا، وذلك حرصا من لويس الرابع عشر على أهم شركة للتجارة في الرقيق الافريقي التي انشأها وأدارها بنفسه، وكانت تدر عليه دخلا ضخما ووضع الملك الاسباني الشاب شريكا له في تلك الشركة. وأهمية وجود تلك الأميرة كوصيفة في ذلك الوقت ان الشركة الفرنسية الاسبانية كانت تحتكر تجارة الرقيق الافريقي في العالم كله، وظهر لها منافسون من بريطانيا العظمى والبرتغال وهولندا وغيرها من القوى الصاعدة مما كان يهدد هذه التجارة الرابحة في ذلك الوقت بغض النظر عن أخلاقية تلك التجارة وانضوائها تحت لواء أخلاقيات الدين المسيحي السائدة في تلك الحقبة، لأن تجارة الرقيق الافريقي كانت تتم تحت شعار “تسكين الأفارقة في أمريكا اللاتينية” أي الارتقاء بهم الى حياة أوروبية أو شبه أوروبية (؟؟!!) إنقاذا لهم من حياة الغابات الدائية. وتذكر كتب التاريخ ووقائعه في تلك الفترة ان تلك الأميرة كانت من أذكى شخصيات عصرها، ودخولها بلاط الملك فيليب الخامس ملك اسبانيا جاء في لحظة كانت تحاك فيها المؤامرات حو تغييرات في الجالسين على العروش ولذك كان عليها ان تكون واعية الى وضعها كوصيفة وعينا على الملك وزوجته، لكن نجاحها في الإمساك بخيوط الحياة في القصور التي تنقلت بينها جعلها تطمح الى الجلوس على العرش بدلا من الحفاظ عليه لصالح ملك فرنسا، وهنا كان مقتلها، او كما يقال في النظرية الارسطية “العقدة” او “كعب أخيل” الذي أدى بها إلى نهايتها. وحسب الوقائع التي تضمها الرواية والتي تؤكد المؤلفة أنها مستقاة من الواقع وليس خيالا انها استخدمت كل إمكانياتها وأدواتها في الحفاظ على مكانها بل وتحقيق الكثير من طموحاتها، فقد استخدمت جمالها وسريرها للإيقاع برجال البلاط، والحصول على الأسرار التي تريدها لاستخدامها لخدمة مصالحها الشخصة، لانها كانت شخصية “ميكافيلية” من الدرجة الأولى، وكثيرا ما تدفع الوقائع في الرواية القارئ الى الاعتقاد انه يطالع رواية واقعية معاصرة من شدة الشبه بين الوقائع الروائية ووقائع الحياة السياسية المعاصرة في اسبانيا، مع اختلاف طفيف، ان وقائع الماضي كانت تجري في القصور بينما وقائع الحياة السياسية المعاصرة تجري في مقار الاحزاب السياسية. من هنا فقد امضت حياتها كلها في تفكير وتخطيط استراتيجي لتصل الى حيث تريد. وتحريك شخصيات رواية “حيث ترتفع العروش” لم يكن هدفه لدى الكاتبة مجرد سرد حكايات تشويقية لجذب القارئ لقضاء بعض الوقت مع خيالها، بل استخدمت الكاتبة تلك الشخصيات لتطرح العديد من التساؤلات حول السياسة ومؤامراتها قديما وحديثا للوصول الى أهداف ربما لا تحقق هدفا عاما او وطنيا، بل لتحقيق أهداف شخصية بحتة بغض النظر عن ضحايا تلك السياسة للوصول الى تلك الأهداف، فشخصية تلك الأميرة تعكس رؤية معاصرة وكانت تستخدم تفكيرا ينتمي الى القرن العشرين منه الى القرن الثامن عشر، لأنها كانت تفهم السياسة بشكل خاص بها ولا يقف أمامها حاجز لانها كانت على استعداد دائما استخدام ما تملك من أسلحة. واضافة الى تقديم رواية تكشف عن شخصية تاريخية تجاهلها المؤرخون كل له أسبابه الخاصة في تجاهلها، فان الكاتبة في بحثها عن تلك الشخصية وتتبع دورها في الحياة السياسية في تلك الفترة اكتشفت أيضا تجارة الرقيق الافريقي وحاولت وضعه امام القارئ المعاصر، وهو موضوع قليلا ما يتم طرحه عند الحديث عن التاريخ الأوروبي، ويتجاهله المؤرخون عادة ولكن الحقيقة تؤكد ان الملك لويس الرابع عشر كان أكبر تاجر رقيق، وعندما بعث بحيفده فيليب الخامس لحكم اسبانيا بسط نفوذه إلى مستعمرات اسبانيا في أمريكا اللاتينية لتزداد أرباحه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©