الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أفكار قيد الاختبار

أفكار قيد الاختبار
20 ديسمبر 2012
هل هناك اليوم من يقيم اعتبارا للتفكير كنشاط إنساني مجاني ومنبع للذّة والمتعة، كما يقول الفيلسوف الفرنسي دنيس ديدرو؟ وما الذي يقوله الكاتب النمساوي/ الفرنسي الكهل بيتر هاندكه عن صوت الريح في اللغة العربية؟ وما هي الأفكار التي تتفاعل في ساحة اليسار الفرنسي بعد وصوله إلى الحكم؟ الإجابات عن هذه الأسئلة في هذه المتابعة: جاك أتالي وديدرو لا يحبّ الفرنسيّ جاك أتّالي المولود في الجزائر عام 1943 أن يغيب عن أي مجال من المجالات المهمة التي تتطلب الحنكة والذكاء، وبُعْدَ النظر، والثقافة الواسعة، والمعرفة الدقيقة بالماضي والحاضر، وربّما المستقبل. فهو سياسي بارع اختاره ميتران مستشارا له في الثمانينات من القرن الماضي ليكون الى جانبه في قصر “الإليزيه” على مدى سنوات طويلة. وهو روائي غزير الإنتاج، وناقد مرموق، وكاتب سير لشخصيّات تاريخية كبيرة، وموسيقيّ متقن لفنّه. واعتمادا على مواهبه المتعدّدة هذه هو يرغب دائما في مفاجأة أحبائه في المجالات المذكورة بما ينفعهم، ويفيدهم، ويمتعهم أيضا. وفي خريف هذا العام 2012، أصدر جاك أتّالي كتابا جديدا عن الفيلسوف، والكاتب الفرنسي الكبير دنيس ديدرو الذي ستحتفل فرنسا العام المقبل بمرور ثلاثة قرون على ميلاده. عنوان الكتاب: “ديدرو أو السّعادة في أن نفكّر”. ومقارنا بينه وبين المعاصرين له، أي فولتير وروسو، يقول جاد أتّالي: “بالنسبة لي هو الأهم في حلقة فلاسفة الأنوار. فهو رجل ذكيّ بشكل هائل، انتقائي، مؤثّر، لا يكلّ ولا يملّ من العمل. وهو بحر من العلم أسّس اعتمادا على “الأنسيكلوبيديا” قاعدة الثّورة السياسية، والفلسفيّة، والاقتصاديّة في أوروبا. بالإضافة إلى كلّ هذا أجد نفسي مفتونا بطريقته في كتابة رسائل الحبّ. وأنا أرى أنه ليس باستطاعتنا اليوم أن نكتب اليوم رسائل حبّ من دون أن نستوحي من آلاف من الابتكارت التي يستخدمها بهدف ختم رسائله بطريقة عذبة، رقيقة، أنيقة، ساخرة، وسامية، جاعلا من كلّ جملة عملا فنيا بديعا. وفي النّهاية تغطّي حياة ديدرو بشكل أفضل من حياة فولتير وروسّو اللّذين تركا فرنسا في فترات معيّنة، تاريخ القرن الثّامن عشر. فمن نهاية لويس الرابع عشر، وحتى السنوات القليلة التي سبقت الثّورة الفرنسيّة، كان ديدرو قد شاهد كلّ شيء، وفهم كلّ شيء بخصوص عالم كان على وشك أن يرحل، وعالم كان على وشك أن يولد. لقد كان رائيا، ورائدا، ومساجلا بارعا، وصارما، ومتحرّرا من الاتفاقيات، كان ديدرو يرفض التسويات، ويتحدّى كبار الشخصيّات في عصره. وقد سُجن بسبب حريته في التفكير. وختاما أقول بأنه كان بفضل “الأنسيكلوبيديا” آخر رجل استوعب علوم عصره. فعل كلّ هذا مع المحافظة على نبل قلبه. وكنت أتمنى أن يكون لي صديق مثله، جدّ متواضع، وجدّ طريف وله سعة علمه ومعارفه”. ويرى جاك أتّالي أنّ أعمال ديدرو الفلسفيّة والرّوائيّة وغيرها تعكس جيّدا أحداث القرن الثامن عشر، وما تميّز به في العديد من المجالات السّياسيّة والاقتصادية والاجتماعيّة. فقد كانت فرنسا في ذلك الوقت بلدا غنيّا لكنه لم يكن قادرا على تنفيذ إصلاحات. لذا كانت مشلولة. وكان الوضع الماليّ كارثيّا. أمّا على المستوى العالمي، فقد كانت الصّين قوّة ديمغرافيّة كبرى، وفيها كانت هناك انتفاضات من أجل الحريّة مثلما هو الحال اليوم في العالم العربي. وبفضل اكتشافات بوغنفيل وكوك، بدأ يتشكّل نوع من العولمة. وكان ديدرو يرى أن حقوق الإنسان مرتبطة بواجباته أيضا. ففي القديم، في العالم الذي يتحكّم فيه الدّين، مثلا، لم يكن للنّاس غير الواجبات. ثم أصبح الوضع معكوسا ولم يعد يؤخذ بعين الاعتبار غير الحقوق. والحقيقة أنه لا بدّ من احترام الحقوق والواجبات معا. وهذا ما أدركه ديدرو بحسب جاك أتّالي، لذا كان محرّكا للتّاريخ. وهذا ما تدلّ عليه الرسالة التي بعث بها إلى الملك لويس السادس عشر، حيث كتب له يقول: “إذا ما أنتم غير قادرين على الفصل في مصلحة الشّعب، فإنّ الشّعب سيستعمل نفس السكّين لكي يقطعكم إلى نصفين”. وعن السّعادة في التفكير عند ديدرو، يقول جاك أتّالي: “هناك اليوم مفكّرون كبار في أنحاء مختلفة من العالم. والفلسفة نشطة جدّا كما لم يحدث ذلك من قبل. فقط يجدر بنا ألاّ نستسلم لعبث التسلية، وألاّ نهمل ضرورة التفكير، مثلما هو الشأن في العديد من الحالات. في حين أن التّفكير نشاط مجانيّ، ومنبع للذّة والمتعة. أن نفكّر يعني أن نتعلّم كيف تكون لنا حياة داخليّة. التّفكير هو السّعادة. وهو الشّكل الأقصى للتحرّر والتّفتّح. وهو نشاط أساسي يميّزنا عن الحيوان. والتفكير هو أيضا نشاط سياسيّ، والحقّ والواجب في التّفكير هما من جملة الحقوق والواجبات بالنّسبة للإنسان”. زيارة إلى بيتر هاندكه في عددها الصّادر يوم الجمعة 9 نوفمبر 2012، نشرت جريدة “لوموند” الفرنسيّة ضمن ملحقها الثّقافي الأسبوعي مقابلة مع الكاتب النّمساوي الكبير بيتر هاندكه المولود عام 1942، والذي كان قد أعلن قبل بضع سنوات أنه سينقطع عن الكتابة، غير أنّه سرعان ما عاد اليها بلهفة، وحمّى العاشق المتيّم ليصدر العديد من الأعمال المهمّة والملفتة للانتباه لقصرها، وكثافتها التعبيريّة، وعمقها الوجودي، والفلسفي. وبيتر هانكه من المبدعين الذي يحبّون الأسفار. وأكثر من مرّة اختار العيش بعيدا عن بلاده، مفضّلا فرنسا مقرّا لإقامته. ومنذ سنوات هو يعيش في ضواحي باريس. وفي بداية المقابلة التي حملت عنوان: “الحالم اليقظ”، كتبت الصّحفيّة كريستين لوسيف تقول: “تهبّ الرّيح. نحن في ضاحية في الجنوب الغربي على مسافة عشرين كيلومترا من باريس. بيتر هاندكه عاد للتوّ من جولة في الغابة. باب مدخل البيت تحت الأشجار مفتوح قليلا. وبيتر هاندكه الذي بلغ السّبعين من عمره دون أن يفقد ملامحه الطفوليّة يبدو شارد الذهن وهو يتأمّل الكمأ، والقواقع، وثمار القسطل التي وضعها على الطاولة في الحديقة”. وكان بيتر هاندكه قد استقرّ في هذه الضاحية الباريسية عام 1990. وهو يحبّ أن يقول: “وطني هو الخيال المتسائل دائما”. وهو لا يزال يستعمل القلم في الكتابة، وفي اللّيل، كما في النّهار يكتب في دفاتره الصّغيرة ما يدور بخاطره من أفكار، ومن هواجس، وكل ما يعيشه من أحلام سواء في اليقظة، أم في المنام.. وهو يقول: “كافكا غيّر أحلامه. ولو لم يفعل ذلك لكان الأمر سخيفا وسطحيّا. لهذا كانت أحلامه من الأدب العظيم. أنا أسمع أصواتا في أحلامي. وأنا لا أدري من أين تأتي، ولا أدري من الذي يتكلّم. أنا بالأحرى مدوّن أحلام. وأنا كائن قادم من الحلم”. وهذه جملة من التي كتبها في دفاتره: “علم النّفس كما لو أنه الرّغبة في بناء برج بابل معكوسا. فعوض أن يبنى باتجاه السماء، أراد علم النفس أن يبنيه باتجاه الرّوح، في قلب الإنسان، وهذا يحطّم كلّ شيء”. وفي مسرحيته الجديدة التي حملت عنوان “العاصفة” تماما مثل مسرحيّة شكسبير هو يعود من جديد الى طفولته على الحدود بين النّمسا ويوغسلافيا، والتي تحضر في العديد من أعماله. وهي تغوص في تاريخ العائلة الملحمي والدرامي. والبطل في المسرحيّة هو بيتر هاندكه نفسه وقد شاخ، وتعب. وها هو جالس على كرسي يستعرض ملامح من حياة عائلته في الفترة الفاصلة بين 1936 و1955. ومن الماضي البعيد تبرز وجوه الأجداد والجدّات والأعمام والعمّات. كما تبرز صور الحروب المرعبة. ويقول بيتر هاندكه: “غصت بهدوء في عالم أجدادي. وهو موضوع يشغلني منذ كتابي الأوّل. إنّه حقل السّلام بالنسبة لي. وهو حلم، أو هو بالأحرى لعبة حلم مثلما هو الحال عند ستراندبارغ. في نفس الوقت هو يوميّ، ودقيق. فالأمر يتعلّق بتاريخ السلوفينيين في كورنثيا”. ويواصل بيتر هاندكه حديثه قائلا: “كان لي عمّ قيل إنه اختفى في أميركا، مثل كارل روسمان في رواية كافكا. وعندما كنت طفلا كنت دائما أتصوّر أنه سيعود. غير أنه لم يعد أبدا. وفي المسرحيّة يعود الأموات ليزوروا الأحياء. غير أن بيتر هاندكه لا يكتب الأحداث كما وقعت، بل هو يُحدث فيها الكثير من التغيرات لأن الأدب هو الخيال بامتياز بحسب رأيه. ومن ابتكارته الخياليّة مثلا أنّ غويغور، أخ والدته يكون من المقاومين للنازيّة. والحقيقة أن خاله قتل على الجبهة الرّوسية، وهو في زي جندي ألماني، ولم يكن مقاوما. ويعلّق بيتر هاندكه قائلا: “واقع الأدب هو أوسع ما يمكن أن يكون. وهو أحيانا أكثر واقعيّة من الواقع نفسه. والمقاومة في كورنثيا حيث ولدتّ كانت حركة المقاومة المسلّحة الوحيدة التي وجدت على أرض الرّايخ الثالث. كثير من الشبّان غادروا ضيعاتهم، وانطلقوا الى الجبال، والى الغابات. وكانوا سلوفينييّن”. غير أن بيتر هاندكه لا يروي هذه الأحداث المأساويّة بطرقة حزينة، بل بكثير من البهجة، وبسخرية. لذا يحضر الرّقص، وتحضر الدعابة والطّرفة الخفيفة كما هو الحال في أفلام جون فورد. وفي نهاية اللّقاء مع جريدة “لوموند”، قال بيتر هاندكة: “عندما كنت صغيرا تركت البيت، وركضت نحو الغابة لكي أسمع صوت الرّيح. وتلك كانت قفزتي الأولى في الحياة. وأنا أحبّ كلمة “الرّيح” في اللغة العربيّة لأنها تجعلنا نسمع الريح وهي تعصف، والعاصفة وهي تمرّ”. حروب اليسار الفرنسي مع عودة اليساريين الى الحكم بعد غياب استمرّ قرابة العقدين، أصدر الكاتب والصحفي المرموق جاك جوليار كتابا جديدا حمل عنوان: “قوى اليسار الفرنسيّة 1762 ـ 2012: التّاريخ السّياسي والتّاريخ المتخيّل”، وفيه يقدّم صورة واضحة ومفصّلة عن الفترات المهّمة في تاريخ القوى والأحزاب اليساريّة الفرنسيّة منذ الفترة التي سبقت الثورة الفرنسيّة وحتى السّنة التي انتخب فيها الفرنسيون الاشتراكي فرانسوا هولاّند رئيسا للجمهوريّة. ويقول جاك جوليار إنّ اليسار الفرنسيّ نشأ انطلاقا من مبدأين اثنين هما: التقدّم والعدالة، ومن غير هذين المبدأين لم يكن بالإمكان بروزه في المشهد السياسي.. ولكن هل لا يزال التقدّم مبدأ أساسيّا لدى اليسار؟ عن هذا السّؤال يجيب قائلا: “نعم، التقدّم لا يزال عنصرا أساسيّا وجوهريّا في أطروحات اليسار. وصحيح أنه يواجه صعوبات، وأن هناك “تفاعلات ثانويّة” مثلما يقال في اللّغة الطبيّة، وهي سيّئة غير أن ذلك لم يمنع من أننا لا زلنا نعيش فكرة التقدّم. ولا أعتقد أنه علينا ان ندفع بالتّشاؤم التكنولوجي والعلمي بعيدا إلى درجة أننا ننكر أننا نعيش فترة المعلوماتيّة، والبيولوجيا الجزئيّة. وهذا يغيّر علاقتنا بالعالم تماما. وبالعكس نحن نعاين أن التقدّم يشهد تصاعدا. مقابل ذلك، الفكرة التي لم نعد نقبل بالاعتقاد فيها، وهذه هي الصعوبة التي يواجهها اليسار، هي فكرة المرور التلقائي من التقدّم العلمي والتّقني إلى التقدم الأخلاقيّ. فمنذ النازيّة، لم يعد بإمكاننا أن نتصّوّر ان التقدّم في مجال العلم والتكنولوجيا يولّد التقدّم الأخلاقي بصورة آليّة”. ومتحدّثا عن الأدوار التي لعبها زعماء اليسار الفرنسي الكبار: كوندورسي، وبرودون، وجان جوريس، يقول جاك جوليار: “اليسار بالضّرورة متعددّ. وكل واحد من الزّعماء الثلاثة الكبار، ومن الممكن ان نضيف لهم كليمنصو، يمثّل تعبيرا يساريّا مختلفا عن الآخر. فكوندورسي هو الأكثر مثاليّة وعقلانيّة في اليسار. إنه اليسار الوريث لفلسفة الأنوار.. وهذه الفلسفة ليست من اليسار، وإنّما اليسار هو الذي يحاول أن ينتسب اليها.. وأنا أعتقد أن فلسفة الأنوار مع الحكم المستنير، وليس مع الديمقراطيّة. كوندورسي هو اليسار مُتخيَّلا. وجوريس مثل كوندورسي، مع تجربة نضاليّة في الحركة العمّاليّة والشعبيّة. وجوريس هو أيضا المعبّر عن الفكرة التي تقول إنّ الديمقراطيّة السياسيّة تفضي بطبيعتها للديمقراطيّة الاجتماعيّة. لذا لم يكن يكفّ عن مخاطبة الرّاديكالييّن قائلا لهم: أنتم في الطريق السّليم، لكن إذا ما أنتم تعتقدون أن الثورة هي في الحقيقة كتلة فإنه يتوجّب عليكم أن تكونوا اشتراكيين. وبالنسبّة لبرودون يمكن القول إنه كان حالة خاصّة، مختلفة عن الحالات الاشتراكيّة الأخرى. فهو الاشتراكيّ الوحيد من الطبقة الشعبية. ومثل سان سيمون، لم تكن السياسة مثالا، وإنّما هي السبيل الوحيد الذي تبقّى. وهو يقول: “إنّي من صنف الذين يريدون أن يُحْكَمُوا. لذا أنا خجل من هذا الصّنف الذي أنتمي اليه”. بردون هو الرّفض المطلق للسّلطة، وهو المعبّر عن إحساس اليسار بالخطأ، وهو شرفه أيضا”. ويقول جاك جوليار إن اليسار الاشتراكي يحمل في أطروحاته، وفي أفكاره بعض المبادئ المسيحيّة. وقد سمع الرئيس ميتران يقول: “انا لست مسيحيّا من اليسار، وإنّما اشتراكيّ متديّن”. وعن الرئيس فرانسوا هولاّند يقول جاك جوليار: “بالتّأكيد هولاّند هو من بين كل السياسييّن الذين على رأس اليسار، الذي يمثّل مع ليون بلوم الصّورة الأفضل للإشتراكي الديمقراطي في زمننا الحالي. ومهمّته عسيرة بطبيعة الحال لأنّه مجبر على ابتداع نموذج جديد. ذلك أن النماذج القديمة لم تعد صالحة، خصوصا النّموذج الإشتراكي الديمقراطي الكلاسيكي”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©