السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دولة الطباخين والوشاة

دولة الطباخين والوشاة
20 ديسمبر 2012
جاء في كتاب “خدعة الاستبداد الناعم في تونس: 23 سنة من حكم بن علي” للمؤلف الهادي التيمومي ان إقالة الرئيس الحبيب بورقيبة “العاجز صحيّا” (حسب البند 57 من دستور 1959) عن الحكم يوم 7 نوفمبر 1987 من قبل الوزير الأوّل زين العابدين بن علي ـ بمساعدة من المخابرات الجزائريّة والليبيّة وخاصة الإيطاليّة ـ كانت حدثا مزلزلا فاجأ الرأي العام التونسي والدولي، إذ من يجرؤ على المساس بــ”المجاهد الأكبر”! إلاّ أنّ تلك الإقالة كانت ـ كما يؤكد المؤلف ـ استجابة ضمنيّة لرغبة عميقة كانت تحدو أغلب قطاعات الشعب التونسي، إذ كانت الأوضاع بالبلاد قبيل ذلك “التحوّل المبارك” ـ كما سمّاه بن علي ـ على شفير الهاوية. الاشكاليات المطروحة ويطرح المؤلف في كتابه الصادر حديثا في تونس جملة من الاشكاليات حول نظام بن علي من أهمها: ? لماذا نجح بن علي في فرض الاستبداد السياسي طيلة ما يقارب الربع قرن، رغم أنّ البلاد كانت مهيأة لممارسة الديمقراطيّة؟ ? ماهي العوامل التي سيّرت نظام بن علي طيلة 23 سنة وحكمت صيرورة إنهياره؟ هل هي السياسة؟ أم الاقتصاد؟ أم الدين؟ ? لماذا عمّ الوهن والسطحيّة كلّ شيء تقريبا زمن بن علي إلاّ الثقافة، وخاصة السينما والمسرح والدراسات اللّغويّة والدينيّة؟ فهل اضطلعت الثقافة بدور “المربع الأخير لواترلو” بالنسبة إلى شعب مقهور سياسيّا؟ أم أنّ ذلك الإبداع الثقافي الذي بدأ في أواخر عهد بورقيبة، وإنّ كانت له علاقة بالسياسة، فإنّه يعود كذلك إلى أسباب أخرى؟ يجيب المؤلف الهادي التيمومي عن كل هذه الاشكاليات مستدلا بالأمثلة والشواهد، مبينا موقفه ووجهة نظره التي لا تخلو من خلفية فكرية وقناعات اديولوجية. فالمؤلف لا يقدم شهادة مجردة بل انه يكسوها بقناعاته ويثريها بمواقفه كمفكر ومحلل. وكموطن وشاهد عيان. رئيس بلا ذنوب ومن أهم ما جاء في الكتاب “البورتريه” الذي قدمه المؤلف عن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، فقد وفق الكاتب بشكل كبير في رسم شخصية الرجل الذي حكم تونس طيلة 23 عاما. وهو يقول عنه انه ولد يوم الثالث من سبتمبر 1936 ببلدة “حمام سوسة” (السّاحل التونسي) من عائلة نزحت من قرية “عرّام” قرب مدينة “قابس” بالحنوب الشرقي التونسي، ولم تتجاوز دراسته بعض السنوات في التعليم الثانوي، وهو ليس حاصلا على الباكالوريا (الثانوية العامة)، وقد طرد من المعهد الثانوي بمدينة “سوسة” نتيجة لسوء نتائجه الدراسية. وكشف الكتاب ان عائلة الرئيس المخلوع عائلة متواضعة الإمكانيات الماديّة، إذ كان أبوه يشتغل عاملا في ميناء مدينة “سوسة”، أمّا عمّه، فقتله الوطنيون التونسيّون لأنه كان مخبرا للفرنسيين، وظلت ثقافة زين العابدين محدودة إذ لم يعمل على إثرائها. ولم يعرف عن بن علي أنه كان صاحب أخلاق رفيعة (مغامراته النسائيّة)، وكانت آخر امرأة ـ وقد تعمد المؤلف استخدام تعبير غير لائق لوصفها عن قصد ـ ارتبط بها عام 1984 وهي ليلى الطرابلسي التي سيتزوجها عام 1992 وستكون من أسباب هلاكه السياسي. وأبرز الكاتب حبّ الرئيس المخلوع للمال حبّا جمّا وإستعماله أحيانا وسائل خسيسة للحصول عليه. ومن الطرائف الكثيرة التي طرز بها المؤلف كتابه طرفة واقعية تقول ان أحد الصّحفيين “السّذج” من المتزلفين كتب مقالا لتهنئة بن علي بأدائه مناسك العمرة يوم 11 مارس 1988، مرددّا “حج مبرور وذنب مغفور” فعوقب المسكين، لأن الرئيس ليس له ذنوب! ويشرح المؤلف بدقة كيف نجح بن علي في احتكار كلّ وسائل الإعلام وسخرها لتمجيده، وكان يحرص على الظهور في التلفزيون وهو يتكلّم بحماس أمام الوزراء وكبار المسؤولين، وهم واجمون وكأنّ على رؤوسهم الطير، لا يجرؤ الواحد منهم على تحريك أرنبة أنفه، وكان بن علي يتصنّع خلع نظاراته وإعادة تثبيتها العديد من المرّات تقليدا لكبار المثقّفين والعلماء. كره المثقفين والحقيقة المعروفة والتي أظهرها الكاتب هي ان بن علي غير قادر على دحرجة أكثر من جملة واحدة سليمة سواء بالعربيّة الفصحى أو بالفرنسيّة أو بالإنجليزيّة أو حتّى بالعاميّة التونسيّة، وكان لا يكاد ينطق جملة واحدة دون أن ينساق بعدها إلى الكلام السوقي الذي تتقزز منه النفس وينأى عنه الذوق. وكان يحرص منذ أن بدأ يلقي خطبه على الجمهور ـ والتي تكتب له طبعا ـ على التكلّم بلغة عربيّة فصيحة تنهل من بلاغة القدم، وذلك حتّى يقال إنّه رئيس مثقّف! بينما كان سلفه الحبيب بورقيبة المثقف الكبير والبارع في اللغتين العربيّة والفرنسيّة يخاطب الجماهير باللغة العاميّة! وكان بن علي يكره المثقّفين وحملة الشهادات العليا لأنّه لم يكن هو حاصلا حتّى على الباكالوريا (الثانوية العامة)، وكان يسعى إلى إهانة كبار التكنوكراط. وأكد الكتاب ما كان يعلمه التونسيون من ان بن علي كان قليل الكلام لأنّه لا يتقن الكلام، وكان يرفض التحدّث مباشرة إلى الصحفيّين حتّى لا يفتضح أمره، وقد تساءل كبار الزوار الأجانب الذّين قابلوه عن سرّ اقتصاره على الإستماع وترديد بعض الكلمات مثل: نعم، حسنا، فعلا.. وكانوا يشعرون بالحرج كثيرا لأنّه لا يجود عليهم بأكثر من جملة أو جملتين، واستنتج المؤلف بعد أن أورد كل ملامح شخصية الرئيس المخلوع ان بن علي كان خبيثا ولم يكن داهية. وأشار الهادي التيمومي إلى أن بن علي كان يفرض مراقبة لصيقة على المثقفين وأصنافا شتى من المضايقات عليهم كحجز الكتب والإرشاء والتخويف والتهديد، وتلفيق قضايا ضدّهم أمام المحاكم. وقد أدى الاستبداد السياسي إلى تجفيف الكثير من ينابيع الإبداع الثقافي، وسادت ثقافة التسليّة التي لا طعم لها ولا رائحة والخالية من أيّ نقد مهما كان نوعه، وعمّ التصحّر الثقافي. وفكك المؤلف أسلوب بن علي في الحكم وإدارة وزارائه فقد كان يحرص على توريط معاونيه من وزراء وكبار التكنوكراط في قضايا أخلاقيّة أو غيرها حتّى يضغط عليهم بالنبش عن تلك القضايا في اللحظة المناسبة، وكان مكيافيليا يمزج بين القوّة والخبث، وساديّا يتلذّذ بترعيب الشخص الذي يريد، ثمّ بإرضائه، ثمّ بالإنقضاض عليه من جديد، وكان لا يتردّد في الإيعاز بقتل الخصم إذا ما أحسّ بالخطر. وينتهي الكاتب بعد أن أبرز مختلف ملامح بن علي وغاص في تحليل نفسيته الى القول بأن بن علي رئيس دولة للنسيان وحتّى ولو افترضنا جدلا أنّه لم يوجد، فيجب الإمتناع عن إختراعه. وزراء من ورق كان بن علي يسوس البلاد بواسطة جيش من المستشارين متحلّقين حوله بالقصر، أمّا الوزراء فكانوا مجرّد أبواق دعاية له، يكاد ينحصر دورهم في تمجيده في خطبهم، وكانوا ـ وفق ما جاء في الكتاب ـ لا يملكون أي سلطة ولا يستطعون القيام بأية مبادرة، والوزير الذي تطول مدّة وزارته هو الوزير الذي يقزّم نفسه ولا يقوم بأية مبادرة تجلب له الأنظار. ووضعيّة المستشار كانت أفضل من وضعيّة الوزير، والمستشار الذي يلفظه بن علي يعيّنه وزيرا، فيصبح عرضة للخطأ، وآنذاك يعزل أو يعيّن سفيرا في مكان ناء، فينساه الناس. ويذهب الهادي التيمومي الى حد الجزم بأن لطباخ الرئيس أو حارسه أو مدربه الرياضي نفوذ أكبر من نفوذ الوزير أحيانا، لأنّ أولئك الأعوان كانوا على صلة يوميّة بالرئيس ويستطعون إستغلال تلك العلاقة لقضاء مآربهم ومآرب أصدقائهم. ومن غرائب أسلوب بن علي في تعامله مع بعض وزرائه أنه كان يرسل أحيانا من يعتدي بالعنف الشديد على وزير لأن مخابراته أعلمته بأنه تفوّه بكلام غير لائق ضدّ الرئيس أو ضدّ زوجته في حفل أو في جلسة خلانيّة، وعندما يشتكي الوزير للرئيس بالجناة مجهولي الهويّة، يطمئنه بأنه سيفتح تحقيقا وسيوقف المعتدين ويقتص منهم شديد الإقتصاص! وقدم المؤلف في كتابه تحليلا لحياة التونسيين أيام الحكم الغاشم لبن علي مبينا تفنّن الناس في إيجاد مسكنات ومهدئات أعصاب لتحمل الجوّ الخانق الذي فرضه بن علي، فهناك الذين أغرقوا أنفسهم في تعاطي المسكرات، وهناك من أغرقوا أنفسهم في مواكبة كرة القدم، وهناك الذين أغرقوا أنفسهم في المخدرات... وهناك الذين تذرعوا بالصبر وبالصلاة في إنتظار فرج قد يأتي وقد لا يأتي، لكن حتّى الصلاة أصبحت تهمة! ومن المؤشرات التي ابرزها الكتاب للاستدلال على تردّي الأوضاع الحياتيّة للكثير من التونسيّين، ازدياد العنف والجرائم والأمراض النفسيّة وحالات الإنتحار، كما إستفحلت البذاءة اللغويّة. وكشف الكتاب عن أساليب الثراء الفاحش غير المشروع لبن علي وزوجته ليلى الطرابلسي وأسرتها، وقد مارس الرئيس التونسي المخلوع سياسة مافيوزيّة سافرة، وكان “العرّاب” الأكبر، وكان أفراد عائلته وعائلة زوجته يتمعشون من عرق الناس، وقد أثروا أيما إثراء، وكان “قانون الصمت” سيّد المواقف، إذ عندما يجرؤ مواطن على التقدّم بشكوى ضدّ أحد أحناش العائلتين الحاكمتين، فإنّ جلسة المحكمة تلتئم حتى يقال إن القضاء مستقل، لكن القاضي لا يجد أي شاهد، لأنّ الشاهد المحتمل يقع تهديده، فيمتنع عن الإدلاء بشهادته للمحكمة ويقبع في بيته. ولقد تعممّت ممارسة الرشوة وشملت أغلب السكّان بدءا من بن علي نفسه الذي كان المرتشي الأكبر إلى آخر مواطن في التراتبيّة الإجتماعيّة. ولأنه كما يقال تقطع أعناق الرجال المطامع، فان الرشوة كانت تتمثل في الحصول على خدمة أو خدمات مقابل تقديم هبة أو هبات ذات طابع مالي للذين يتحكمون في صيرورة منح تلك الخدمات. وكان بعض أعضاء عائلة بن علي وخاصة عائلة زوجته ليلى الطرابلسي كواسر بأتمّ معنى الكلمة، عاثوا في البلاد فسادا وإفسادا وترعيبا وعنفا وصل أحيانا حدّ إغتصاب الفتيات والتصفيّة الجسديّة، ويقول المؤلف ان أحد أولئك السّفلة الأوغاد الذي كان يعتبر نفسه وسيما أكثر من اللزوم، وضع داخل إحدى سيارته الفاخرة لافتة مكتوبة عليها “لا تصمد أمامي أية فتاة”.. هكذا!! والكتاب وثق لمعلومات كانت تتردد بالحاح في الشارع التونسي، من ذلك ان عائلة بن علي وعائلة زوجته تتحمل مسؤولية ترويج المخدرات في أوساط الشباب. ثقافة الشعوذة وقد خصص المؤلف جزءا من كتابه لاستعراض وتحليل ما قامت به زوجة المخلوع التي أطلقت منذ زواجها ببن علي عام 1992 العنان لعائلتها وخاصة لأحد أخوتها، للإثراء الفاحش والسّريع على حساب قوت الشعب، وقد نجحت هذه المرأة المشعوذة في استعباد بن علي وإخضاعه لكلّ نزواتها اللصوصيّة بعد أن ولدت له ابنا ذكرا عن طريق جراحة الأنبوب في 20 فبراير 2005، وكان هو في سنّ 68 سنة وهي في سنّ 48 سنة. وأكث ما إستفزّ التونسيّين هو نمط عيش عائلة بن علي وعائلة زوجته، القائم على التبذير الذي لا يصدّق وعلى التباهي الصبياني بالثروة وبالسلطة. وعمل بن علي على إبعاد أكثر ما يمكن من التونسيّين عن السياسة، وكان يدعي نشر التعليم وتكنولوجيا المعلوماتيّة، ومع ذلك فتح الباب على مصراعيه أمام العرّافين والمشعوذين والسحرة، ومنحهم التراخيص القانونيّة لكي يعيثوا في البلاد إفسادا لعقول الناس، في حين كان سلفه الحبيب بورقيبة لا يتردّد في محاكمتهم وحماية المجتمع منهم، وكانت زوجة بن علي ليلى الطرابلسي معروفة بشغفها بالسّحر.. المستبد غير العادل ويستخلص المؤلف الهادي التيمومي ان بن علي كان إستبداديّا صميميّا، فقد عاش في بيئة جعلته يحقد على المجتمع، فأبوه وعمه كانا متعاونين مع الإستعمار الفرنسي كما أنه لم ينخرط في النشاط الوطني مثل الكثيرين من أبناء جيله في السّاحل التونسي ـ معقل الحزب القائد للحركة الوطنيّة التونسيّة: الحزب الحر الدستوري الجديد. ويستنتج الهادي التيمومي انه من هنا جاء حقد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي على القيم النبيلة مثل الوطنيّة والديمقراطيّة والحوار وحق الاختلاف والتسامح. وقد عاش بن علي فقيرا، لذلك كان يحب المال والنساء والجاه، وهي الأشياء التي حرم منها في صباه وشبابه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©