الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ضريبة كراء الأسنان

ضريبة كراء الأسنان
20 ديسمبر 2012
درس التاريخ مهم لفهم الحاضر بالكثير من أبعاده، وفي مصر كان الفلاح دائما هو عماد الاقتصاد والتنمية ولكن الحكام من أمراء ومماليك في معظم فترات التاريخ المصري لم يدركوا ذلك، اهتموا بالزراعة من دون اهتمام بالفلاح، حتى صارت الكلمة لها دلالة ليست طيبة وتعني الازدراء في العصر العثماني، على النحو الذي يرصده د. جمال كمال محمود في كتابه “حكاية الفلاح المصري في العصر العثماني”. يلخص حال الفلاح في ذلك العصر قول عبدالرحمن الجبرتي إن الفلاح وصل إلى حال اقل من حال العبيد، حيث كان الفلاح يلزم بالسخرة في الأعمال العامة وأعمال الملتزم أو الباشا وفرضت عليه أنواع غريبة من الضرائب واذا كان المصريون يتندرون منذ سنوات على ضريبة المبيعات وغيرها من الضرائب الهزلية التي لا معنى لها سوى مزيد من الجباية على المواطنين فإن الأمر كان أفدح بكثير في العصر العثماني حيث فرضت ضريبة اسمها “كراء الأسنان”. جنود المماليك وكان جنود المماليك وغيرهم إذا مروا بقرية لأي سبب التزم أهل القرية بتقديم الطعام لهم واستضافتهم ولم تكن تلك الاستضافة من باب الكرم أو الترحيب، بل كانت ضريبة ملزمة وإذا لم يقم بها أهل القرية عوقبت القرية بالكامل، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أضيف اليها “ضريبة الكراء” اي يدفع الأهالي لهم ضريبة أخرى مقابل الجهد الذي تبذله أسنانهم في مضع الطعام وكانت تدفع مقدما اي قبل تناولهم الطعام، وحدث ان أحد مباشري الأوقاف ويدعى عبدالرحمن السلموني أقام حفلا لزواج ابنته وكان رجلا غنيا فأقام سماطا للطعام على عادة أغنياء اهل الريف في ذلك الزمان، ثم طلب المماليك والمباشرون ان يمد لهم سماطا هم ايضا، ففعل الرجل لكنهم جلسوا الى الطعام ورفضوا تناوله، وتصور صاحب الدعوة ان الأكل لا يعجبهم أو ان هناك شيئا ما ناقص وراح يسألهم عن السبب فقالوا له نحن لا نأكل حتى نأخذها ولما سألهم عنها قالوا له انها ضريبة كراء الأسنان وحددوا له قيمتها فدفعها فورا ليصون نفسه من البهدلة بتعبير أحد المؤرخين. أخطر الضرائب هي ضريبة الالتزام والتي كان يدفعها الفلاح للملتزم مقابل قيامه بزراعة الأرض وهنا نكتشف انه لم يكن من حق الفلاح تملك الأراضي الزراعية، كانت الأراضي توزع أو تقطع لاحد الملتزمين مقابل مبلغ يدفعه للدولة وكان هو يتولى تحصيله بطريقته من الفلاحين وبالأرقام والنسب التي يحددها هو حتى لوكانت أضعاف ما يدفعه للباشا في القاهرة، وكان للفلاح ان يزرع الارض ما دام يدفع الحصة المقررة فإذا لم يدفع صار من حق الملتزم ان ينتزعها منه ويسلمها الى شخص آخر، ولما كان الفقر عاما وساريا فإن الفلاح حين كان يعجز عن الدفع كان يترك القرية كلها ويهرب ليلا باسرته فيما عرف بظاهرة التسحب من الأراضي وكانت قرى بأكملها تفعل ذلك، خاصة مع جفاف النيل الذي كان متكررا وكان الملتزم يبعث بجنوده ورجاله للقبض على الفلاح وإعادته ثانية الى الأرض مع حبسه وجلده، وحين كان الفلاح يتأخر في الدفع كان يقوم برهن ولده لدى الملتزم أو شقيقه إن لم يكن لديه اولاد وكان الملتزم يقوم بتسخير الرهينة في العمل لديه حتى يتمكن الفلاح من الدفع. ويرصد الباحث ان بعض الفلاحين كانوا يتباهون بعدد ضربات الكرباج على أجسامهم قبل ان يقوموا بدفع ما عليهم من ضرائب، مما يعني أن الأمر بات عاديا ومقبولا عند هؤلاء. ولم يكن الحال يمضي بسهولة على هذا النحو دائما، فبين حين وآخر كانت تحدث انتفاضات أو تمردات للفلاحين على ما يتعرضون له من ظلم وإجحاف وحدث ذلك كثيرا في مناطق الدلتا وفي بعض مناطق الصعيد، ويرصد لنا الجبرتي وغيره بعض هذه الحالات ففي عام 1778 امتنع الفلاحون في طنطا وعدد من القرى المجاورة عن دفع ما عليهم من ضرائب واعلنوا العصيان الامر الذي فرض ان يجتمع الملتزمون والمماليك ويوحدوا قوتهم في مواجهة الفلاحين ولكن أمكن للفلاحين الانتصار في هذه المرة مما رفع روحهم المعنوية وشجعهم على المطالبة بحقوقهم وفي تلك الفترة، نهاية القرن الثامن عشر، كانت قوة المماليك تضعف وكذلك الدولة العثمانية، مما فتح الباب لتطورات كبيرة من أهمها الغزو الفرنسي لمصر فيما يعرف باسم حملة نابليون. نتائج سلبية ضربت كثرة الضرائب وشدتها الإنتاج الزراعي وزاد على ذلك ان الدولة الحاكمة في مصر لم تهتم بشق الترع ولا بناء الجسور ولا تطوير نظام الري ولا إدخال محاصيل جديدة، ولم تلزم الفلاح بزراعة محصول بعينه، كان كل ما يعنيها المبلغ الذي يتم تحصيله سنويا من الفلاحين والضرائب الأخرى التي تفرض وقت اللزوم كلما احتاجت الدولة الى المال. ولم تكن الضرائب وحدها هي التي ترهق الفلاح، كانت هناك هجمات البدو والعربان على القرى ونهب البيوت والمحاصيل، وكانت المناطق التي على حافة الصحراء،حيث يعيش البدو، هي المعرضة اكثر لهجماتهم وكثيرا ما كان الفلاحون يتصدون لهم وتقع المعارك بين الجانبين، وامتلأت النفوس شكا، سواء من الفلاحين أو من العربان، ويعود هؤلاء العربان الى القبائل العربية التي كانت تهاجر الى مصر منذ الفتح العربي وتواصلت هجراتهم حتى دولة الفاطميين، وتوقفت هذه الهجرات مع صعود دولة المماليك، وحاول سلاطينها إقطاع بعض هؤلاء العربان أراضي زراعية يتعيشون منها، ويزرعونها، واستعان المماليك ببعضهم في حماية بعض المناطق ومن كان يقوم بهذه المهمة نال لقب “شيخ العرب” ولم يكن سهلا على هؤلاء العربان الانخراط في الزراعة والحياة الريفية لذا ظلوا يغيرون على القرى ويقطعون الترع والجسور من دون مراعاة لمصالح الفلاحين وظلوا هكذا حتى جاء محمد علي وابنه إبراهيم. وربما يكون أفضل تصوير لحال الفلاح في ذلك العصر قصيدة “هز القحوف لأبي شادوف”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©