السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مهنة التأريخ..

مهنة التأريخ..
20 ديسمبر 2012
صدر مؤخراً ضمن سلسلة “المعرفة التاريخية” التي تصدرها دار توبقال في المغرب كتاب: “الكتابة التاريخية” لمؤلفه الباحث الأكاديمي خالد طحطح. والكتاب يٌعمِّق البحث في الكتابة التاريخية، حيث إن الباحث عالج في كتابه هذا موضوع الكتابة التاريخية في الفترة المعاصرة من خلال ملامسة مستويات استمرار النسق التقليدي ومستويات التطور والتجديد في مناهج الكتابة التاريخية ما بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، والكشف عن طفرات تطور الوعي التاريخي في هذه الحقبة المتميزة من تاريخ التاريخ. معتبراً أن تناول هذه القضايا فرضت عليه تتبع مسار الإنتاج التاريخي لهذه الفترة من حيث طبيعته ومميزاته، وكذا رصد مختلف التحولات التي راكمها هذا الإنتاج من حيث المناهج المتبعة والمواضيع المدروسة. خصائص الكتابة التاريخية وتركزت دراسات الباحث في هذا المؤلف القيّم على خصائص الكتابة التاريخية لا على فلسفة التاريخ، ومع ذلك يقول المؤلف، فإننا نهمل هذا المجال، بل خصصنا له الباب الأول من هذه الدراسة بغية فهم الترابط الموجود بين القضايا التاريخية. ويرى المؤلف أن الأبحاث التاريخية “لم تصل إلى درجة من التطور في أوروبا من حيث المناهج وطرق البحث كما وصلت خلال القرن التاسع عشر، فقد أحرز التاريخ في هذا القرن إنجازات هائلة، إذ صار الفكر التاريخي مبحثاً مستقلاً عن الأدب، قائماً بذاته على المستوى الأكاديمي، وقد أطلق على هذا القرن بامتياز قرن التاريخ، ففيه انتعش هذا الفرع المعرفي أكثر من أي وقت مضى، وفيه وضعت قواعد صارمة للتعامل مع المستندات والوثائق”. وبحسب المؤلف فإن “أشياء أخرى تغيرت في المسار الطويل من البحث التاريخي حسب المؤرخ بيير نورا، فالتحولات التي يشهدها العالم من حولنا اليوم أدّت إلى بروز تحول عميق في المفهوم التقليدي لمهمة المؤرخ. قد تغير دور المؤرخ هو وعمله وفكره خلال هذه العقود. لم يكن يعد في السابق مؤرخاً من كان يتناول العالم المعاصر وأحداث الراهن، أما اليوم فيُنظر إلى وظيفة المؤرخ على أنها معالجة لمواضيع هذا العصر بالذات، وهو ليس وحده في السّاحة لرصد الماضي القريب، بل عليه العمل في عالم يوجد فيه الصحفي والشاهد والناجي والقاضي شركاء له في فكّ ألغاز هذا الماضي القريب”. وبالتالي فإن صعود تاريخ الزمن الحاضر في زمن الثورة الرقمية والمعلوماتية، وفي مجتمع يُكرس أكثر وقته للإعلام، هو أحد التغييرات المهمة التي تلقي بظلالها اليوم على مشهد الكتابة التاريخية. المدرسة التاريخية الفرنسية وفي توطئته العميقة لهذا الكتاب يقول المؤلف: “إن مهنة التأريخ حققت طفرات متعددة أثناء مسيرتها، تكيّفت خلالها مع الأوضاع المُتغيرة واستطاعت أن تُبلور خطابات ونماذج جديدة في كل مرحلة وإلى غاية أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، لقد مرّت المدرسة التاريخية الفرنسية “الحوليات” منذ تأسيسها وإلى الآن بمراحل كبرى عرف فيها التاريخ لحظات قوية حتى العصر الذي أطلق عليه المراقبون من مؤرخين وغيرهم إسم “الأزمة”، مما جعل الحديث يدور عن “تاريخ مجزأ” بل عن “تاريخ مفتت”. كما يرى المؤلف أنه تمّت إزاحة الحدث إلى المركز الأخير بعد البنية والظرف، وكان هناك رفض شامل للتّفرد، تفّرد الحدث، تفّرد الأفراد لذلك تمثل عودة هذه المواضيع اليوم إلى الواجهة معاكسة ضمنية لكتابة التاريخ كما كانت سائدة في العصر الذهبي للحوليات وتحديا أمام جيل التاريخ الجديد”. ويؤكد المؤلف على أن مهنة المؤرخ “عاشت سنوات من “التشظي” و”التفتت” وجد خلالها الجيل الجديد من المؤرخين أنفسهم أمام أزمة حقيقية، إنها أزمة الهوّية والمُمارسة التي بدأ يشعر بها فريق إدارة الحوليات، والتي نلمسها بوضوح في المناقشات الحادة التي برزت للوجود من اجل إعادة صياغة مجالات التاريخ وتوجيهاته الجديدة في ظل صعوبة تحديد الهوية مستقرة للتاريخ. إنه “زمن الشكوك” و”الفوضى الابستمولوجية” التي عرفتها الكتابة التاريخية في ما بين سنوات 1980 ـ 1990 بفرنسا، والتي أدت لاحقا إلى تطعيم هيئة مجلة الحوليات بأعضاء جدد، بالإضافة إلى تغيير العنوان الفرعي للمجلة سنة 1994 قصد التكيّف مع الوضع المتغير. كما حققت الكتابة التاريخية في مسارها إنجازات هائلة في ميدان المعرفة التاريخية، ولعل المساهمة الفرنسية في هذا المضمار منذ القرن التاسع عشر وإلى الآن، ستبقى الأكثر تميزا في هذا المجال. لقد عرفت المدرسة التاريخية الفرنسية ثورتين على مستوى المنهج، الأولى تمت مباشرة بعد هزيمة فرنسا في المواجهة العسكرية أمام ألمانيا سنة 1871، إذ أطلق أساتذة جامعيون تأثروا بشكل كبير بالمدرسة التاريخية الألمانية المجلة التاريخية سنة 1876. أما الثورة الثانية فقد قادها من جامعة ستراسبورج سنة 1929 المؤرخان مارك بلوك ولوسيان فيفر اللذان دشنا قطيعة نهائية مع النموذج الألماني الذي مثلته المدرسة المنهجية. امتد تأثير الاسطوغرافيا الفرنسية خلال الفترة المعاصرة إلى أبعد الحدود، فمدرسة “الحوليات” ومن بعدها “التاريخ الجديد” هي مدرسة فرنسية النشأة والتطور بالدرجة الأولى، استطاعت من خلال إشعاعها الامتداد إلى باقي دول أوروبا وأميركا، وبنسبة أقل إلى الدول العربية. لقد برز في أواخر الثمانينيات جيل من المؤرخين الباحثين ينتمون إلى دول أوروبية مجاورة، ونخص بالذكر دول ايطاليا وألمانيا وبولندا، ساهموا إلى جانب بعض المؤرخين الفرنسيين في ضخ نفس جديد في حقل الاسطوغرافيا من خلال تجاوز مقاربات التاريخ الجديد وتأثيرات التيار البنيوي. قضايا وفصول من هذا المنطلق يركز المؤلف على هذه التجربة المتميزة في الكتابة التاريخية من خلال تتبع دقيق لخصائصها ورصد لتغيراتها وتحولاتها، مع الانفتاح على تأثير التيارات الألمانية والانجلوساكيونية والايطالية التي ظلت حاضرة في سياقات أخرى إما بشكل مواز أو مختلف حسب الفترات التاريخية. ولذلك اختار المؤلف أن يتناول في الكتاب في بابه الأول وفي فصله الأول نماذج من فلسفات التاريخ الكبرى التي انتعشت بالخصوص في نهاية القرن التاسع عشر وطيلة مرحلة القرن العشرين. في حين يعرج الفصل الثاني على الكتابات المشككة في أفكارها ونظرياتها. فقد انتقدت فكرة غائية التاريخ وموضوعية المؤرخ وفلسفات التاريخ والتاريخانية بصفة عامة، وأصبحت فكرة علمية التاريخ وقوانين التاريخ والقدرة على المعرفة العلمية للوقائع مصدر قلق وإزعاج للكثير من المؤرخين الذين ابتعدوا عن كرونوزوفيات فلسفات التاريخ الموروثة عن عصر الأنوار بمقدار ما ابتعدوا عن الأصنام الثلاثة لقبيلة المؤرخين المنهجيين. الباب الثاني: تتبع خصائص الكتابة التاريخية لدى المدرسة التاريخية المنهجية في فرنسا، والتي تأثرت بمفاهيم المدرسة التاريخية الألمانية الرانكية التي لم تتخلص بشكل نهائي من الآثار السلبية لكرزنوزوفيات فلسفات التاريخ. إن هذه المدرسة المنهجية التي رعتها الجمهورية الثالثة في فرنسا (1870 ـ 1940) فرضت نفسها على الساحة الأكاديمية من خلال المجلة التاريخية التي أنشأتها سنة 1876، ومن خلال كتاب المدخل إلى الدراسات التاريخية الذي ألفه المؤرخان شارل لانغلوا وشارل سينوبوس لفائدة الطلبة الجامعيين، ولقد استمر تأثير هذه المدرسة التي ربطت الحقيقة التاريخية بالوثائق المكتوبة إلى أواخر الأربعينيات من القرن الماضي. الباب الثالث من الكتاب تطرق إلى التطورات الاسطوغرافيا الجديدة التي عرفتها الكتابة التاريخية مع صعود نجم مدرسة الحوليات. ما سيميز أعمال مؤرخي هذه المدرسة الرائدة منذ نشأتها في ثلاثينيات القرن العشرين هو رفض التاريخ الحدثي والسياسي والعسكري والفردي، وسيتعزز هذا الرفض أكثر فأكثر مع الجيلين الثاني والثالث لهذه المدرسة التاريخية. وقد واكب هذا الرفض للتاريخ السياسي رفض للتاريخ الوطني بمفهومه الضيق، وتم الإعلان عن إفلاس التاريخ العسكري وتاريخ الحروب خصوصا بعد صدمة الحرب العالمية الأولى التي خلفت استياء كبيرا لدى الفلاسفة والمفكرين، لوحشيتها ونتائجها السيئة، ولأضرارها الوخيمة على البشرية اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. واعتبر المؤلف أن “اتجاها جديدا في الكتابة التاريخية تخّلص من وصاية التاريخ الرسمي الذي فرضته الحكومات والدول على البرامج والمقررات في المدارس والجامعات، وتمرّد على اللعبة السياسية وعلى الأحزاب السياسية بإيديولوجياتها المختلفة، إنه اختيار مختلف انحاز بشكل واضح نحو قضايا الاقتصاد والمجتمع”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©