الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أفغانستان ·· الحلم المستحيل

أفغانستان ·· الحلم المستحيل
8 يوليو 2007 03:41
تسرع سيارات إسعاف على طرق شبه مرصوفة، رجال الشرطة يرتدون أزياء رسمية حال لونها فلم تعد تسطيع أن تميز أهو أزرق أم رمادي، بقع دم وزجاج سيارات مهشم، طفل يبكي، وجوه غربية في الزي الرسمي للجيوش الأجنبية تمنع الدخول إلى موقع الانفجار، صورة مشبعة بالتراب والغبار الذي يزيد من عصبية رجال الشرطة في موقع الانفجار· يتكرر هذا المشهد بصورة شبه يومية في أفغانستان في الصيف الساخن الذي توعدت ''طالبان'' بأن تشن فيه أكبر كم من الهجمات النوعية التي تستهدف حكومة الرئيس حامد كرزاي وقوات حلف شمال الأطلسي ''الناتو''· تخريج الانتحاريين نقلت وكالات الأنباء مؤخرا صور حفل للخريجين في أفغانستان، أولئك ليسوا خريجي جامعات أو مدارس عليا، بل هم عشرات الانتحاريين الذين أصبحوا مستعدين للانتشار في أنحاء أفغانستان جاهزين لتفجير أنفسهم في أي سوق أو مكان عام اذا شعروا فقط بأنهم تحت المراقبة، فضلا عن محاولات استهداف القوات الحكومية والدولية في العاصمة كابول والمدن الكبرى· وهي الهجمات التي غالبا لا يسقط فيها قتلى إلا من المدنيين الأفغان الذي يسعون إلى الرزق في الأسواق فساقهم حظهم إلى الزمان والمكان الذي قرر فيه شاب لم يتعد مرحلة الطفولة المتأخرة أن يفجر نفسه· هذا المشهد الدموي بدأ في الظهور على الساحة الأفغانية منتصف ،2005 عندما استهدف انتحاري مقهى للانترنت في منطقة شهرناو (المدينة الجديدة) وسط الحي التجاري في كابول· علامة فارقة شكل هذا الهجوم علامة فارقة في تاريخ الصراعات المسلحة في أفغانستان، فربما لا يعي الكثيرون أن الأفغان بشكل عام يرفضون الهجمات الانتحارية، وكان الخلاف الفقهي حول ''الاستشهاديين'' هو أحد أهم الأسباب التي دفعت بالشاب السعودي أسامة بن لادن إلى تكوين ما عرف باسم معسكر قاعدة الجهاد وما عرفه الأفغان في إقليم باكتيا باسم (كامب جديد)· فقد اختلف الأفغان والعرب أثناء حربهما المشتركة ضد الاتحاد السوفيتي، وفي الوقت الذي كان المقاتلون العرب يرغبون في الاستشهاد رفض الأفغان ذلك الفكر فقهيا واجتماعيا، بل كان الأفغان يطلقون النكات على المقاتلين العرب قائلين (عربان شهيدان، أفغانان غازيان) وتعني العرب سيستشهدون والأفغان سينتصرون· كما وقعت حوادث تسبب اندفاع العرب فيها إلى افشال هجمات أعدها أفغان لمهاجمة القوات السوفيتية، مما ترتب عليه استياء في أوساط الأفغان من العرب القادمين للاستشهاد بتهور مما يمكن أن يفسد الحرب التي يعتمدون فيها على الكر والفر وحرب العصابات نظرا للفرق في العدد والعتاد بينهم وبين الروس· وهنا أدرك بن لادن أهمية جمع المقاتلين العرب تحت راية حزب أو قائد واحد يؤمن بنفس أيدلوجياتهم· من الواضح أن تاريخ الأفغان وحتى ''طالبان'' كان ضد ثقافة الانتحار أو ما عرف بالعمليات الاستشهادية، إذا كيف وفي وقت قصير جدا هو ثلاثة أعوام منذ سقوط حكومة طالبان في 2002 إلى أن تم تنفيذ أول عملية انتحارية في ،2005 كيف تم تغيير تلك الأفكار والأيدلوجية الأفغانية المحبة للحياة الرافضة للانتحار· توريط واشنطن من خلال بعض ما تم تسريبه إلى وسائل الاعلام من قبل حركة ''طالبان'' ومن خلال ما خبرته بنفسي من القادة الميدانيين لحركة ''طالبان''، فإن جميع القرائن تقود إلى أن هناك تغيرا نوعيا ساهم فيه الوضع العالمي بعد الحادي عشر من سبتمبر، واستياء بعض الأنظمة الإقليمية والدولية من السياسات الأميركية، كما أن التورط الأميركي في العراق، أعطى أفكارا خلاقة لكل من يريد أن يورط واشنطن في أكثر من مكان، فبعد أن كانت أميركا متورطة فقط في العراق ولا تعرف سبيلا للخروج من ورطتها هناك، فإن أطرافا ودولا تجاور أفغانستان قامت بعمل صفقات مع بقايا ''طالبان''، على أن تمد تلك الدول مقاتلي ''طالبان'' بالسلاح والأموال وربما أيضا بعض المعلومات الاستخباراتية، في مقابل أن تعتمد ''طالبان'' على نفس الأساليب التي أثبتت نجاحا ضد الجيش الأميركي في العراق وأهمها بالطبع هو العمليات الانتحارية والسيارات المفخخة· فملالي ''طالبان'' وبضغط من القادة الميدانيين قرروا اعتماد فتاوى تشرع العمليات الانتحارية وتحث عليها باعتبارها السبيل الوحيد للجهاد ضد الأميركيين·· فكيف؟ مراحل الصفقة جرت الصفقة بين من يرغبون في توريط الولايات المتحدة الأميركية في أفغانستان وبين القيادات المتناثرة من حركة ''طالبان'' على مراحل: المرحلة الأولى كانت بتدفق الأموال على بعض القيادات الميدانية، وطلب منهم تكثيف الهجمات والشروع في اكتساب رجال الدين· ثم أتت المرحلة الثانية، والتي وصلت فيها دفعات من الأسلحة تسلمها المقاتلون، واستمر التمويل لتجنيد مقاتلين جدد بالإضافة إلى إغداق الأموال على المقاتلين القدامى في الحركة· والمرحلة الثالثة وهي التدريب والمعلومات الاستخباراتية، فقد لوحظ أن هجمات ''طالبان''، والتي كانت في السابق لا تحدث ضررا نظرا لأن الصواريخ تسقط على بعد كبير من الأهداف المرجوة بالإضافة إلى ضعف تلك الصواريخ وضآلة تأثير رؤوسها المتفجرة· هكذا فإن هجمات ''طالبان'' حدث فيها اختلاف جذري، بحيث أصبحت أكثر كثافة وتصيب أهدافها بقوة بالإضافة إلى تدمير قوي تحدثه الصواريخ أو المتفجرات· وبدا من الواضح أن مقاتلي الحركة تسلموا أسلحة جديدة وتلقوا تدريبا عليها بالإضافة إلى حصولهم على معلومات عن إحداثيات الأهداف وكيفية إصابتها بالأسلحة الجديدة· بوادر التغير وأسوق هنا بعض الأدلة، فقد أصيب المعسكر المركزي لقوة المساعدة الأمنية الدولية في أفغانستان المعروف باسم بر ةسءئ بتسعة صواريخ سقطت جميعها داخل المعسكر الواقع أمام السفارة الأميركية في كابل وبجوار وزارة الدفاع وخلف القصر الرئاسي، وطلبت الدخول إلى المعسكر ليلة الهجوم في صيف ،2005 للحصول على تصريح إعلامي من الناطق باسم الآيساف، لكنهم بالطبع رفضوا لأسباب أمنية واضحة، وفي الصباح أنكر المتحدث باسم ''الآيساف'' وقوع أية اصابات بشرية وقال إن المعسكر تعرض لهجوم بأربعة صواريخ في حين أن كل الصحفيين قد أحصوا 9 صواريخ· والدليل الثاني أن ''طالبان'' استطاعت في خلال ثلاثة أشهر تقريبا إسقاط ست مروحيات في ،2005 بعضها تابع للأيساف وحلف شمال الأطلسي الناتو والأخرى تابعة للقوات الأمريكية مباشرة، وبدا واضحا للجميع أن ''طالبا''ن حصلت على صواريخ متقدمة مضادة للطائرات العمودية· سلسة الأخطاء بعد هذا النجاح النوعي الذي أحدثته الحركة في عمليات استهداف الجنود الأجانب في أفغانستان، فإن تلك القوات الدولية وتحديدا الأميركية وقعت في سلسة من الأخطاء تضاف إلى قائمة طويلة من الأخطاء التي أضاعت فرصة تكوين أفغانستان جديدة ومختلفة· فقد بدأت القوات الدولية في عمليات مداهمات وتفتيش وحملات على القرى والمدنيين، وبالطبع أثارت نتائج هذه الحملات غير المدروسة استياء قطاع عريض من القبائل الأفغانية وامتلأ قصر غل خانة بوفود القبائل المتجهة إلى الرئيس الأفغاني حامد كرزاي تطالبه بالتدخل الفوري لوقف تلك الأفعال المشينة ثم التعويض، وبالفعل خرج الرئيس كرزاي عن صمته وبدأ في توجيه العتاب إلى القوات الدولية ودعوتها إلى اشراك الأفغان في التخطيط قبل تنفيذ العمليات العسكرية· استصدار الفتوى لم تستجب القوات الدولية لدعوات حكومة كرزاي فهي لا تثق بالقيادات الأفغانية نظرا لفسادها، وهو ما منح القادة الميدانيين من ''طالبان'' فرصة ذهبية· فقد جابوا القرى والمدن ينددون بـ''الكفار الغزاة'' والحكومة ''العميلة'' الذين لا يحترمون العادات والتقاليد المحلية ولا يحترمون حتى مبادئهم المتعلقة بحقوق الإنسان ومراعاة المدنيين في زمن الحرب· وشدد هؤلاء القادة على هوان المسلمين وتأسد الغرب ضدهم ضاربين المثل بفلسطين والعراق وكشمير، وشنوا هجوماً عنيفاً على فشل الحكومة في تنمية الجنوب والشرق في حين شهد الغرب والشمال الأفغانيين (حيث ينتمي تحالف الشمال الذي انضم إلى الأميركيين في حربهم ضد طالبان) تنمية وازدهاراً، رغم أن الجنوب والشرق هما من دعما كرزاي في الانتخابات ووصل إلى كرسي الرئاسة بسبب التصويت له في تلك المناطق ذات الأغلبية البشتونية· وفي الوقت نفسه، توجه قادة طالبان إلى رجال الدين وطلبوا الفتوى بتشريع العمليات الانتحارية، وساقوا الأدلة الشرعية مثل أن الضرورات تبيح المحظورات، وأنهم قلة مستضعفة في العتد والعدد أمام جحافل القوات الغازية، وأنه لا سبيل للنصر سوى الاستشهاد· وأخيرا القياس على الوضع في العراق· جميع تلك الأدلة والأخطاء الفادحة للقوات الدولية بالإضافة إلى تحيز الحكومة والدول المانحة إلى مناطق الطاجيك وبقية العرقيات، ورغبة الجيل الجديد من الشباب في الحصول على مجد حصل عليه الجيل السابق عند انسحاب الاتحاد السوفيتي، كل ذلك أوجد ضغطا شعبيا حتى ضد الرافضين لفكرة الانتحار· إذا فبكل بساطة منح الأميركيون ''طالبان'' أقصى ما تحلم به على طبق من ذهب، فبسبب الجهل بالعادات والتقاليد وبسبب مراهقة المجندين الأميركيين وتعاملهم الصلف مع القبائل، بهذه التصرفات وغيرها كثيرة أبسط ما توصف به هو الحمق، استطاع قادة ''طالبان'' الميدانيين انتزاع فتوى الاستشهاد وتحليل العمليات الانتحارية بل والحث عليها من قبل فقهاء أفغان دائما ما رفضوا فتاوى الانتحار والاستشهاد حتى في أحلك ظروف القتال ضد الاتحاد السوفيتي السابق· لتنطلق افغانستان سريعا في قطار العمليات الانتحارية الذي لم يقف إلى اليوم ولا يبدو أن محطة وصوله اقتربت والضحية دائماً هم الأفغان البسطاء·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©