الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مداخلة شخصية في المسألة الكلبية

مداخلة شخصية في المسألة الكلبية
8 يوليو 2007 04:22
السيدة ''ب·ب·'' زعلانة من المصريين جميعا، ابتداء من رأس الهرم وصولا إلى العم عبد الموجود البواب· وهذه السيدة ـ لمن لا يعرفها ـ ملأت عقدي الحرب الباردة سحرا ودلالا وإغراء، ما خفف تجهم القيادة السوفييتية وفرمل اندفاعات الإدارات الأميركية ومنح الجمهورية الفرنسية الخامسة عذوبة أنثوية طاغية· وإن تمكنت تجاعيد السنوات السبعين من تغطية البريق الذي كان، لكنها بالتأكيد لن تمحو ''مشاهد'' استقرت في الذاكرة الجمعية والفردية لملايين الذكور حول العالم· ويبدو أن كل تلك السيرة المشعة لم تشفع للسيدة ''ب·ب·'' أو بريجيت باردو عند أبناء الكنانة، فأهملوا مطالبتها الرسمية والشخصية لهم بإبداء روح من التسامح مع الكلاب الضالة في الشوارع، وعدم إعدامها رميا بالرصاص، فزعلت وتغضنت وجنتاها، وألصقت بنا ـ نحن العرب ـ صفات لا يمكن الاعتزاز بها· وفي الحقيقة كنت أريد أن أعلن تضامني مع بريجيت باردو التي احتلت صورتها ذاكرتي منذ أن قامت بغسل يدي الكاهن بالماء والصابون بعد مشهد نزق في فيلم روجيه فاديم ''وخلق الله المرأة''، لكن ما صنعه الحداد بيني وبين الكلاب جعلني أشد على أيدي الإخوة المصريين وهم يردون كلابهم على نواصي الشوارع· وقد يكون من حق بريجيت باردو وغيرها أن يصموا الاعتداء على الكلاب بالتصرف الهمجي، ولكن لماذا لا يطلقون الوصف نفسه على الكلاب حينما تكشر عن أنيابها وتتصرف كما يتصرف أولاد الكلاب؟ أطرح هذا السؤال بدافع شخصي عمره بضعة عقود· ففي بداية البدايات، كنت أقوم بمهمة شبه يومية، هي توصيل وجبة الغداء إلى الوالد حيث يؤدي خدمته العسكرية· كانت متعة هذا المشوار تتضاعف في أجواء الجيش وبين أنواع الأسلحة والآليات، وخصوصا حينما تكتمل بالإطاحة بنصف الوجبة المخصصة لصاحبها· ذات مرة أعدت الوالدة الوجبة، ووضعتها في الوعاء المخصص لها (يسمونه في بلاد الشام المطبقية وفي مصر العامود)، ولغاية سببتها غريزة الجوع قررت اختصار الطريق بالمرور من اتجاه كنت أتجنبه بسبب مرابطة ''عنتر'' عليه بشكل دائم· تسلحت بشجاعة مصطنعة وبرائحة أخاذة تفوح مما أحمله وعبرت من ذلك الطريق الوعر· وكما كانت الرائحة الزكية تفعل فعلها بمعدتي، فإنها أيضا استفزت ''عنتر''، الذي زمجر وحار ودار وانقض متلهفا للفوز بقطعة من اللحم المطبوخ· وحرصا على ما أحمل وليت ظهري للكلب المهاجم وأطلقت ساقيّ للريح، لكن ''عنتر'' كان أسرع مني، وتمكن فعلا بالفوز بقطعة من اللحم، لكنها كانت نيئة ولا تنفع للشواء أو الطبخ، ما منعني من الجلوس لمدة أسبوعين، وتناول دواء مضاد لمرض ''الكَلَب'' المعدي لمدة 21 يوما، وإشهار العداء مع جنس الكلاب بكل فصائلها حتى نهاية النهايات· وكنت أظن أن هذه النهاية قد حانت لحظتها ''الكلبية'' في ليلة حالكة من صيف بيروت عام ·1982 يومها سقطت بيروت تحت نير دبابات شارون، التي قطعت أوصال العاصمة وفرضت عليها حظر تجول ومنعت عن سكانها الماء والغذاء والكهرباء· ولسبب يبدو أنه تافه لأنني لا أتذكره، قررت الانتقال من حيث كنت (منطقة المزرعة) إلى حيث لا ينبغي أن أكون (منطقة الحمراء)· وقبل منتصف الليل بقليل تحركت سيرا على الأقدام مستفيدا من ستار الظلام· اخترت عبور الشوارع الداخلية، باعتبار أنها أكثر أمنا، وهكذا بلغت شارع مار الياس، فعبرته باتجاه تلة الخياط من جهة مبنى إدارة كلية الآداب وما أن وصلت إلى أول شارع عائشة بكار فوجئت برتل من الدبابات الإسرائيلية قادم من جهة مبنى التلفزيون· ربضت بجانب إحدى العمارات حابس الأنفاس، أرقب عبور الدبابات وأعدها وأعزي نفسي بأنني لا أستطيع حيالها شيئا لكونني لا أملك غير يدي العاريتين· المهم عبرت الدبابات فانزلقت خلف آخرها لأواصل سيري باتجاه شارع فردان بدلا من شارع عائشة بكار، وهو أشد خطرا بكل تأكيد، لكن لدهشتي لم أصادف فيه أي وجود إسرائيلي ظاهر· فسلكت الجانب الأيسر من الشارع الأكثر كثافة بالعمارات· وسار الأمر بسلاسة حتى بلغت الساحة المثلثة أمام مبنى سينما الكونكورد· هناك في وسط الساحة تقريبا كان بانتظاري وجود ظاهر لقوات لم أحسب حسابها: كتيبة كاملة العدد مدججة بأسلحة مدربة على النهش· عصابة مكونة من 15 كلبا، من كلاب الشوارع التي تحبها بريجيت باردو، تقف بشكل نصف دائرة وتترصد حركتي التي لم يبق منها غير نفس متقطع· وجدت نفسي محاصرا من كل جانب، فالنكوص إلى الخلف يعني المخاطرة مجددا بالالتقاء مع كلاب شارون، والكلاب الواقفة تسد الطريق إلى الحمراء فلا يمكن الإنحراف يمينا باتجاه الصنائع، ولا التقدم أماما من ناحية فندق البريستول·· والكلاب لا تتحرك ولا تهادن، ثم انتبهت إلى أنه يمكنني سلوك الطريق عن يساري المؤدي إلى ساقية الجنزير ومنها أصعد إلى الحمراء، وهكذا كان وما أن وصلت إلى محلة الصنوبرة حتى أيقنت من أنني كنت مرصودا من جهاز مخابراتي قادر، فالكلاب إياها كانت بانتظاري· كنت كالذي حوصر وسط النيران ولا سبيل للخلاص منها إلا بعبورها· حبست أنفاسي وسرت بتؤدة وسط الكلاب التي بدت كقطيع غنم بسبب ضيق الطريق، وبالغت في التحرك ببطء كي لا أثيرها· خطوات ووجدت أن كتيبة الكلاب تستدير واحدا إثر واحد، لترافقني من اليمين واليسار والخلف· كنت فعلا أشبه براعي غنم على الرغم من أن ضربات قلبي بدت أشد هولا من أصوات الانفجارات التي يتردد صداها في أجواء المدينة· وصلت إلى وجهتي برفقة الكلاب التي يبدو أنها استأنست بوجود واحد من بني البشر بينها بعدما اضطرت للتعايش مع قوات شارون· لم تنفع هذه التجربة في تليين موقفي من الكلاب· وفي أوروبا حيث تتمتع الكلاب هناك بامتيازات لم تنتبه لها شرعة حقوق الإنسان، كنت دائما أظهر عداء سافرا نحو ذوات الأنياب· وأذكر أنني أبديت إعجابا بإحدى الجارات الجديدات وهي تتحدث عن ''أطفالها'' وتشرح كيفية اهتمامها بهم، في بلاد تتفسخ فيها مؤسسة العائلة باضطراد، فسألتها عن أسماء الأطفال ودراســــــتهم وكانــــــــوا على التوالي: ''جينكي'' و''مونزو'' و''بوتش'' فعرفت على الفور أنهم ينتمـــــــون إلى مدرسة النهش، التي لا يمكن تجنبـــــها إلا بإغلاق الباب في وجه الجارة و''أطفالها''· وعندما أتيت إلى أبو ظبي اتصل بي أحد الأصدقاء من لندن يسألني انطباعي الأولي عن المدينة· فقلت له ''إنها مدينة بلا كلاب''، وأنا أقصد المعنيين الضمني والفعلي· وظللت أعتقد أن أبو ظبي مدينة بلا كلاب إلى أن التقيت بـ ''لوسي'' ذات مساء على الكورنيش· أبدت لوسي الرافلة بالفرو والدلال مودة غير متوقعة نحوي، فاضطررت إلى مجاراتها معللا النفس بأن تنتقل المودة إلى تلك التي ترافقها· تحدثت إلي المرافقة بحنان فائض عن لوسي وعاداتها ومزاجها ولطفها وحبها للصداقات وانفعالها مع ما يدور حولها·· ما جعلني أطلب من المرافقة رقم هاتف لوسي، لكنها فاجأتني عندما قالت: (آسفة، لديها صديق)· Sorry she has a boy friend صمت لكي أسجل علامة أخرى غير مضيئة في سجلي مع الكلاب، وهو سجل لا ينتهي لكن هذه الصفحة امتلأت· ملاحظة أخيرة: كنت أريد أن أوقع هذا المقال باسم ''ع·ع·'' لكني خشيت أن يسيء التفسير أولئك الذين لم يستمعوا إلى شكاوى ''ب·ب''· عــــــادل علــــــي adelk85@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©