الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أفلت الكبار وسقط الصغار

أفلت الكبار وسقط الصغار
21 ديسمبر 2012
(القاهرة) - الرجل يخفي عينيه خلف نظارات سوداء كبيرة تكاد تغطي معظم وجهه الصغير المستدير، الذي لا يتناسب مع أنفه الكبير وشاربه الكث، التقى على «الكوفي شوب» الذي يقع وسط المدينة بالموظف الذي يعمل في أحد المطارات الإقليمية، الحوار يحلو مع تناول المشروبات والعصائر التي بالغ في طلبها لضيفه، يريد أن يجذبه ويأسره بكرمه، وهو يقصد أن يلقي شباكه حوله ويطوقه بالمعروف الذي في ظاهره الرحمة وفي باطنه العذاب، وظروف الرجل المادية تجعله مهيأ لقبول أي عرض. الطلب بسيط وليس فيه عناء ولا مجهود، مجرد استبدال ورقة بأخرى ولصقها مكانها، لا ضرر يقع على أحد من هذا التصرف الذي لا يرقى ليوصف بأنه تزوير في أوراق، خاصة أن هذه الأوراق غير رسمية، المقابل مبلغ صغير، لكن يبدو العرض في عينيه مثل الحلم الجميل. لكن ذلك يحتاج إلى توسيع دائرة المشاركين لأن هذه الطرود كبيرة وفي عدة «كراتين»، ولا بد من الإسراع بذلك حتى لا يلفت انتباه أحد من العاملين الكثيرين في المنطقة الجمركية، وهناك مراقبون ومفتشون وعيون رجال الشرطة، فهم الرجل الغامض المتخفي وراء النظارة الرسالة، وابتسم ابتسامة صفراء ذات مغزى، وأكد له أنه يستجيب لكل مطالبه، وعليه أن يستعين بمن يراهم مناسبين لإتمام المهمة التي تبدو في غاية البساطة. الموظف عاد ليسأل وماذا بداخل هذه الطرود؟، وكان السؤال لمعرفة مدى المخاطر في العملية التي تبدو يسيرة جداً، فأعاد الرجل ابتسامته وطمأنه بأنها مجرد ملابس مستوردة، والهدف توفير بضع مئات من الدولارات، ولم يفته أن يحاول إقناعه بأن المسألة برمتها لا تدعو إلى القلق أو الخوف، ولا ترقى لأن تصل إلى حد المخالفة، وحاول أن يلمح له بنبرة واضحة أن هناك الكثيرين الذين لا يمكن إحصاؤهم مستعدون للقيام بالمهمة وإذا كان متردداً فعليه الانسحاب بهدوء، فعاد الموظف مسرعاً ليمسك بخيط الحديث ويؤكد موافقته. تم الاتفاق المبدئي، لكن من دون أن يقدم له أي معلومات حول مواعيد الرحلة والمكان الذي ستأتي منه، ذلك لمزيد من الحيطة إلى أن يتم التأكد من صدق الموظف وأنه لن يبلغ الشرطة، رغم أنه حصل على جزء من «العمولة» التي سيحصل عليها هو وشركاؤه، وتم ضرب موعد جديد للقاء من غير تحديده بالضبط ولا مكانه وأيضاً من باب الحذر، مع منع الاتصالات الهاتفية بينهما خشية مراقبة الهواتف، وبعد اقتراب العملية تم الاتفاق على كل الخطوات والتفاصيل. بعدما توقفت «ترانزيت» في دولة أخرى، حطت الطائرة القادمة من إحدى الدول العربية في أرض المطار، توقفت المحركات وتلقى الموظفون والفنيون التعليمات المعتادة المتبعة في مثل هذه الحالات التي تتكرر عند قدوم أي طائرة، اقتربوا من الطائرة التي بدأت تفتح أبوابها من الأسفل لإنزال البضائع والطرود والحقائب سواء التي تخص الركاب الذين على متنها أو التي تم شحنها لصالح أشخاص أو شركات استيراد، تم السماح لعمال النقل أو الحمالين بوضع الطرود في الأماكن المخصصة لكل نوع منها، فهنا جانب الحقائب وهناك البضائع التي سيتم الإفراج عنها الآن، وذاك التي سيتم نقلها إلى قرية البضائع حتى يأتي أصحابها لاستلامها. وفي الوقت المحدد لإنهاء إجراءات الرحلة رقم مئة وثلاثة وستين تبين لرجال الشرطة المكلفين بمراقبة الطرود والتأمين العام لهذه الأماكن وجود ست «كراتين» ضمن حقائب وأمتعة الرحلة ولاحظوا عليها أوراق شحن بها آثار إضافة وحذف وعبث في البيانات الخاصة بالمرسل والمستقبل والمحتوى والوزن والتاريخ، وهذه كلها في غاية الأهمية، ومن الطبيعي أن تجذب الانتباه لأنها مخالفات واضحة وتشير إلى تلاعب ظاهر، من المؤكد أنه يقصد من ورائه شيء مهم يرقى لأن يمثل جريمة ما، لا يمكن الحكم على نوعها إلا بعد الفحص والتأكد من حقيقة وأصل كل المعلومات. هنا بدأت الإجراءات القانونية، ومعها جاءت المفاجآت المدوية وربما غير المسبوقة. لأنها تحدث للمرة الأولى، مشهد ذهب بالعقول ويأخذ الألباب، فقد تبين أن تلك الكراتين بداخلها مجوهرات ومشغولات ذهبية عبارة عن مئة وثمانين كيلو جراماً من الذهب الخالص ومجموعة من الأقلام الذهبية وعدد كبير من الساعات من ماركات عالمية مشهورة ومعروفة بأثمانها الباهظة لما تحتويه من مصوغات وأحجار كريمة في تكوينها وصناعتها، وثلاثمئة وخمسين قيراطاً من الألماس، وكل هذه الكنوز رغم قيمتها كانت من دون مرافق وهذا ما يؤكد الشكوك بأن وراءها جريمة، بل هناك عصابة تعمل بذكاء وتخطيط ولابد أن تكون هناك مافيا دولية. الموضوع أكبر من قدرة العقل والتفكير، فهذه المضبوطات تبدو أكبر من كنز على بابا، فقد قدر المثمنون وخبراء المجوهرات والمصوغات قيمتها بأكثر من خمسين مليون دولار، تم التحفظ على المضبوطات بأرض المطار، وبدأ التحقيق وجمع التحريات وإخطار المسؤولين والنيابة وتم التوصل إلى تورط خمسة متهمين اتفق معهم هذا الرجل الغامض الذي تبين أنه مندوب مبيعات ومعه تاجرة أدوات كهربائية مع الموظف المسؤول عن الإشراف على نقل الطرود في أرضية المطار على القيام بتغيير أوراق الشحن الدولية الموجودة على الكراتين واستبدالها بأوراق شحن داخلية بدلاً من التي تدل على أنها آتية من الخارج وذلك فور استلامها من الطائرة بهدف التهرب من الجمارك والرسوم التي ربما تصل إلى مثل قيمة تلك المضبوطات، لذلك حاول المتهمون نقلها من المطار الدولي إلى صالة الرحلات الداخلية بقصد التهرب من الرسوم. وجاءت المفاجآت تتوالى مثل العاصفة في المعلومات التي كشفت عنها التحريات والتحقيقات، فقد تبين أن مندوب المبيعات وشريكته تاجرة الأدوات الكهربائية، قد تم التعارف بينهما أثناء العمل وتكرار اللقاءات في الخارج وتمكن كل منهما على حده من تهريب كميات قليلة من الذهب على مراحل خلال أسفارهما في كل مرة، وقد وجدا أن المسألة أكثر ربحاً من تجارة المخدرات وحتى الأسلحة، مع قلة المخاطر وضعف العقوبات، فالحسابات محسوبة ويسيرة وليست معقدة على الإطلاق والمخارج جاهزة ومفتوحة، فإذا مرت الصفقة بسلام كان بها وإن تم اشتمام رائحة خطر أو احتمال كشف الملعوب يتم تسديد المبالغ المستحقة ومع ذلك لا تكون هناك خسائر، فقط ضياع المكاسب الكبيرة ويتم تعويضها في صفقة أخرى. لم تقف المفاجآت عند هذا الحد بل تخطته بكثير، فقد كشفت مستندات مصلحة الجوازات عن أن الرجل والمرأة قد سافرا أكثر من مئة وستين مرة خلال عامين فقط بما يؤكد أنها لم تكن خالية من التجاوزات، بل وكشفت المعلومات أيضاً عن أن كلا منهما يملك أموالاً وبنايات وشركات مختلفة الأنشطة رغم أنهما لم يكونا من قبل يملكان شيئاً، وقد اتجها إلى تهريب الذهب من خلال المطارات الفرعية، وليس الكبرى معتقدين أن الإجراءات بهما أقل، لكن تم كشف أكبر الألاعيب في مطار في مدينة قاصية، لكنه دولي ويستقبل جميع أنواع الرحلات. هذا السقوط الأخير جاء بعد أن تم الاتفاق بين الرجل والمرأة على التخطيط للجريمة الكبرى لا على اعتبار أنها جريمة وإنما على أنها نوع من الشطارة والذكاء والفهلوة وخفة اليد والحركة والتصرف، لأنهما يعتبران الجريمة فقط في القتل والسرقة والنصب والاحتيال، وإن كانت النفوس الضعيفة بكل أشكالها هي التي ترتكب الجرائم بتنوعها واختلافها، ليس هذا فحسب، ولكن كان لهما شريك خفي كبير رجل أعمال ينتمي لجنسية عربية حاول تهريب هذه الكمية من المجوهرات في عملية غسل أموال، وقد قام مندوب المبيعات بتولي إنهاء العملية. وبعد اللقاء مع الوسيط اختار هذا الأخير خمسة عمال من جانبه يثق بهم وأعد الملصقات الجديدة المطلوب وضعها على الطرود، وعند وصول الطائرة وضع الأوراق الجديدة المزورة وهي تغيير البيانات لتظهر الطرود وكأنها قادمة من رحلة داخلية ومتجهة إلى مطار داخلي آخر وليست قادمة من الخارج. أحيل المتهمون إلى محكمة الجنايات التي عاقبتهم بالسجن عشر سنوات، بينما نجت الرؤوس الكبيرة واختفت ولم يعثر لأي منهم على أثر ولم يتم التوصل إلى حقيقة الشخصيات التي ورد ذكرها في التحقيق، فلم يكن هناك دليل على أي منهم ولم تعرف أسماؤهم أصلاً، ودفع الصغار الثمن، وإن كانوا يستحقون، وأصبح جزء من الواقعة لغزاً يبحث عن حل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©