الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«غزة».. بقيت الصور وضاعت البوصلة!

2 فبراير 2015 22:44
تفيض على غزة وقطاعها حرب النكبة بلاجئيها فترتبك في استقبالهم ومعهم مستقبلها الغامض. لم تتوقع يوماً أن تهبط عليها في أيام قليلة أضعاف سكانها. تشرع أبوابها وتصير، كما رفح وخان يونس وكل القطاع، محطة لاجئين. يرتمي أصحاب البيارات الواسعة والبيوتات الوديعة في خيام ضيقة سرعان ما تحيط بها قنوات المجاري الوسخة. هو بالتأكيد حلم عابر، بل كابوس مزعج سينتهي سريعاً كما جاء. القادمون الجدد ما عادوا ضيوفاً عابرين. تحولوا إلى ناس غزة وقِطاعها. مشطورون بين حلم العودة الذي يسري كالدم في عروقهم، ومواجهة إكراهات الحياة اليومية. فتحوا دكاكين صغيرة، وأخذوا أولادهم إلى مدارس الوكالة. في كل صباح يعبون هواءً قادماً من البحر، يملأ صدورهم ويهمس لقلوبهم ببعض الأشياء عن الأمكنة هناك. حمل شبابهم بنادق ولثموا وجوههم بكوفيات، قبلوا أيادي الجدات على مصاطب بيوت المخيمات وغابوا. من لم يغب انخرط في النضال ضد الحياة الباطشة والطائشة. تحولت الحياة مع زمن غزة المختلف والمُشتت إلى نضال دائم. من يمارس الحياة هنا، يمارس بطولة مفروضة عليه. لم يخترها، وربما لا يحب أن يُنعت بها أو تلصق به. هذا هو حال نعيم صاحب المطبعة الوحيدة في المخيم، الذي وجد نفسه بطلاً رغم أنفه، كما يصور ببراعة عاطف أبو سيف في روايته الجديدة «حياة معلقة». قبل أن تنطلق الانتفاضة الأولى في أواخر ثمانينيات القرن الماضي كان نعيم يطبع بيانات المقاومة. عرض نفسه وعائلته الصغيرة لخطر كبير، لكن نداءً داخلياً كان يلح عليه. لما تلاحقت الانتفاضات صارت صور الشهداء المتلاحقين تلتقي في مطبعة نعيم، ومن هناك تخرج في «بوسترات» كبيرة تتزين بها أزقة المخيمات وشوارع المدن وواجهات المحال. ازدحمت غزة ومدن القطاع بصور الشهداء. نعيم يحتفظ بالصور الأصلية لكل شهيد. يتصفحها في بعض الليالي ويحدق في عيون الشباب الغضة كما الورد. يسيل دمع صامت من عينيه وهو يقرأ في عيونهم أحلامهم. يدفع بالصور في الدرج السفلي لطاولة قديمة، ويمسح دمعته قبل أن يغادر المطبعة إلى بيته. هناك تأتيه صورة آمنة. زوجته التي رحلت مبكراً وتركت له ثلاثة أولاد وبنتاً. آلى على نفسه ألا يتزوج وأن يرعى أولاده. قال للمختار الذي ضغط عليه أن يتزوج لو كنت أنا من مات لما تزوجت آمنة ولأصرّت على البقاء مع الأولاد لتربيتهم. يكبر الأولاد وتتفرق بهم سبل غزة: سالم في السجن محكوم بخمسة مؤبدات، سليم حالم دائم بالسفر وإكمال الدراسة في الخارج ويغادر، سها تتزوج وتذهب مع زوجها إلى السعودية، سمر تبقى مع أبيها تكمل دراستها الثانوية. لا يزعم نعيم أية بطولة ويرفض أن تؤخذ له صور. يقتل فجأة بطلقة قناص إسرائيلي صبيحة يوم عادي وهو يهم بفتح باب المطبعة. تنخلع قلوب أهل المخيم على نعيم الذي أحبه الجميع: المختار وصفي، والحاج خليل، ويوسف مجايلوه في العمر، ونصر وآخرون من الشباب الذين طوق نعيم أعناقهم بخدماته النضالية. يعود سليم على وجه السرعة من إيطاليا كي يحضر جنازة أبيه الذي تاق لعودته تلك، ويرفض أن يُعمل لأبيه «بوستر» كي يوزع في أنحاء المخيم كبقية الشهداء. لا يريد لأبيه أن يُختزل في «بوستر»، ثم إنه ليس بطلاً، يقول، بل ضحية. يختار عاطف أبو سيف أن تكون هناك «تلة المخيم» التي تختصر تاريخه: هنا بنى الإنجليز نقطة لهم بسبب ارتفاع التلة وإطلالتها على الجوار ومدى الرؤية الذي تمنحه. هنا وصل أوائل اللاجئين، احترقت خيامهم. وهنا أقامت إسرائيل ما كان أقامه الإنجليز من نقاط سيطرة عسكرية. وفيها أقام نعيم مطبعته، وعليها سكن الحاج خليل وابنته يافا. يافا التي يعشقها سليم، ابن نعيم، ولكنه يقدم طموحه، وأنانيته، بالسفر ومتابعة أحلامه على العشق الرهيف الذي كسر قلب يافا. ظلت التلة متعمدة بقصص بطولة تفاقمت المبالغة حولها حتى صارت أساطير، إلى أن جاء العميد صبحي بقرار من حكومة غزة يقضي بهدم البيوت على التلة واستثمار الأرض في مشاريع تفيد المخيم: مركز تجاري كبير «مول»، ومسجد كبير، ومركز شرطة كبير. المشروع كله المستفيد الأكبر منه هو خميس، ابن الحكومة، الذي صار «البزنس» جزءاً من حياته. وبعد أن كان مناضلاً مغواراً صار يناضل في تجارة الأنفاق، والآن يريد فتح «مول» فوق التلة. صمدت «التلة» في وجه إسرائيل لأن الناس كانت تعرف أنها تواجه عدواً واضحاً، سقطت «التلة» يوم ضاعت البوصلة بين «المول» و«المسجد» و«المخفر»، وما عاد أحد يواجه عدواً واضحاً. د. خالد الحروب * * باحث وأكاديمي عربي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©