الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ضد أبيون ·· رواية تاريخ اليهود بلغة الحوار في زمن ضعفهم

ضد أبيون ·· رواية تاريخ اليهود بلغة الحوار في زمن ضعفهم
15 مارس 2008 01:10
حين يقترب القارئ من عنوان كتاب ''ضد أبيون ـ آثار اليهود القديمة'' للمؤرخ اليهودي فلافيوس يوسيفوس ثم يتصفّح صفحاته الأولى، من دون المرور عبر المقدمة وقراءة الكتابة حتى النهاية، يجد نفسه في مواجهة السؤال التالي: ما جدوى ترجمة كتاب عن الآثار اليهودية القادمة من اليونانية القديمة إلى اللغة العربية، تولى فيه صاحبه الّدفاع عن شعبه اليهودي في زمن الانكسار والتراجع والهزيمة؟ السؤال يطرح هنا لثلاثة أسباب جوهريّة: أولها أن حركة الترجمة في دولنا العربيّة تتجه نحو الغرب بلغاته المختلفة خصوصاً الإنجليزية وكأن العالم في ماضيه وحاضره لا يمكن له الحركة إلا في هذا المجال· وثانيها: أن الذهاب بعيداً إلى عمق الحضارات القديمة ـ باستثناء الفرعونية، وحتى هذه لكون مصر ودول أخرى مهتمة بها ـ يعد نوعاً من المجازفة أو المغامرة التي قد تؤدي إلى عدم رواج الكتاب، إلا ببن المختصين وأولئك عددهم قليل· وثالثها: إن الكتاب يتناول تاريخ اليهود القديم، الأمر الذي يجعل الحاضر مؤرقاً للباحث والمترجم وحتى الناشر، لأن الطاغي على المشترك بيننا وبين اليهود في الوقت الراهن هو جرائم الدولة العبرية في فلسطين· مغامرة مترجم·· وناشر للأسباب السابقة ولغيرها، يمكن لنا القول: إن ترجمة الدكتور محمد حمدي إبراهيم لكتاب ''محاورة ضد أبيون'' يبدو عملاً ضد السياق العام للترجمة في الوطن العربي، خصوصاً أن هناك خلطاً بين تاريخ الأمم وحاضرها في التعامل معنا، فهذه الترجمة ما كان لها أن تمر هكذا من دون متابعة لو نحن في زمن الانتصارات، بل إن الناشر ''المكتب المصري للمطبوعات'' كان سينظر إليه من زاوية المهتم بتراث الإنسانية، غير أنه لا يكمن لنا أن نظل عاكفين على رؤية واحدة لجهة الخوف من الحاضر وجر ذلك على التاريخ المشترك للبشر، لأن ذلك لا يخرج فقط من دائرة الأحداث لجهة صناعة التاريخ أو المشاركة فيه لو سلباً، ولكن يقضي علينا بالفناء، وما كان لأمتنا أن تخرج من التاريخ وهي صاحبة رسالة نورانية غيّرت مشاعر الناس وأفعالهم وأعطت معنى لوجودهم· لنعد إلى هذا الكتاب الذي تلتقي فيه العقول والثقافات واللغات أيضاً، فحسناً فعل المترجم والناشر، حين جعلا النص الأصلي باليونانية مقابلاً لترجمته بالعربيّة، وذلك لمن أراد أن يستفيد أو يبحث أو حتى يصحح ـ إن كانت هناك وجهة نظر أخرى بخصوص الترجمة ـ عند الضرورة· نوع من التحدي إذن هذا الذي نراه في هذا الكتاب، إذ في زمن الحروب والدماء وقوة اليهود يقدّم تاريخهم في زمن الضعف من طرف الباحثين العرب، ليقولون لهم: هذا تاريخكم فخذوه عنّا، لأننا لا نخشى الفكرة المضادة، بل نحن قادرون على أن نميّز بين إنجازكم الحضاري والثقافي في الماضي البعيد حين كنتم تخافون أن يتخطّفكم الناس وبين أعمالكم الإجرامية في الوقت الرّاهن· يهود الإسكندرية وحتى لا تسيطر علينا المقارنة، وما يختلج في الصدور أكبر مما قيل، لنعد إلى الكتاب حيث يقول المترجم في مقدّمته: ''إن العمل الأعظم الذي كرّس المؤرخ فلافيوس يوسيفوس (يوسف) كل جهده لإنجازه طوال حياته كان عمله المشهور عن الآثار اليهودية·· والتي تشمل كافة الوثائق والدلائل المدوّنة وكافة مظاهر الإنتاج الثقافي من أدب وفن وقانون ودين وتاريخ وفلسفة وعلم، فقد كان المؤرخ يوسف يشعر دوماً ـ شأنه في ذلك شأن معاصريه من اليهود ـ بوطأة التحامل على جنسه من قبل الشعوب والأمم الأخرى، سواء أكانت أمماً ذات حضارة أقدم من حضارة اليهود مثل حضارة مصر أو فينيقيا، أو شعوباً أخرى ذات حضارات أحدث مثل حضارة اليونان أو الرومان''· ويتجلى لنا من البداية رسالة المؤرخ يوسف، فهي محدّدة بالّدفاع عن شعبه وعلينا ألا ننسى أن هذا يتم في زمن ضعف اليهود وقهرهم، الذي كان يرد على أبيون ـ وهو مؤرخ مصري كان يتمتع بالجنسية السكندريّة ويناصب يهود الإسكندرية العداء، الذي ألّف كتاباً أنحى فيه على اليهود باللائمة واتهمهم في دينهم وسفّه أحلامهم، وأرجع سبب ذلك كلّه إلى ضحالة أفكارهم وحداثة وجودهم، واتخذ أبيون من كراهيته ليهود الإسكندريّة إتكأة لكي يبغض اليهود جميعاً، ويروج ضدهم الشائعات والافتراءات من دون تدقيق ولا تمحيص، وكان أبيون قد سافر إلى روما على رأس وفد سكندري ليشكو للإمبراطور تجاوزات اليهود كجالية سكندريّة، وخروجهم على القوانين، وشغبهم وسوء مسلكهم، وكرد فعل على هذا جاء كتاب المؤرخ يوسف بمثابة خطبة دفاع بليغة ضد جميع الكتاب الإغريق والمصريين الذين هاجموا اليهود في كتاباتهم · في هذا الكتاب يصب المؤرّخ يوسف جام غضبه أولاً على ما جاء من افتراءات في ثنايا كتابات المؤرخ المصري الشهير ''مانيثون''، ثم شن الهجوم من بعده على خصمه الدود أبيون، ويفرد لذلك مساحة كبيرة، ثم يوّجه هجومه من بعد ذلك إلى المؤرخين الإغريق كافة، ويخص في الختام بهجومه الحاد مؤرخين إغريقيين، هما: ليسيماخوس وأبوللونيوس مولون· لقد التزم المؤرخ يوسف في كتابه ـ كما يشير المترجم ـ بتفنيد المزاعم التي ساقها خصومه كافة، ثم انبرى بعد التفنيد العقلاني الهادئ إلى دحض هذه المزاعم وإظهار تهافتها وبطلانها وتردّيها في الكذب وضعفها أمام القرائن العقليّة، وفي ذلك كله لم يفقد اتزانه العقلي طول قيامه بالتفنيد والدّحض إلا في مواضع معيّنة، جعلته يلجأ أحياناً لأسلوب التهكم السّاخر، وأحياناً لأسلوب التقريع القارص، أو التوبيخ المؤلم المقترن بتوجيه نوع من السباب الهادئ، وهو الأمر الذي يتناسب في رأيه مع الأسلوب الهجومي الواضح الذي ساد الكتابات المعادية لليهود· رأس حمار·· ولحم إغريق لقد اعتمد المؤرخ يوسف في رده على الوثائق والكتب والمراجع القديمة ونقل عنها بالتزام وأمانة وتطرق إلى عدد من المواضيع، اختصرها المترجم على النحو التالي: 1 ـ تفنيد ما كتب عن اليهود من جانب المؤرخين الأجانب، وما اتهموا به من حداثة تاريخهم كأمة، خاصة وأن معظم من اتهموهم بهذا الاتهام كانوا من الكتاّب الإغريق، ولقد ردّ يوسف بأن تاريخ الإغريق يرجع إلى الأمس أو ما قبل الأمس بقليل، بينما تاريخ اليهود يرجع إلى ما يقرب من ألفي سنة، منذ عهد موسى عليه السلام· 2 ـ تفنيد ما ذهب إليه المؤرخ المصري مانيثون من أن اليهود كانوا مدنسين، ومصابين بالجذام والبرص وبأمراض أخرى، وأنّهم طردوا من مصر على يد أحد الفراعنة بعد أن هددّوا المصريين بالحرب واحتلال بلادهم· 3 ـ تفنيد ما ذهب إليه المؤرخ المصري أبيون ومعه نفر من المؤرخين الإغريق من أن اليهود كانوا يخفون داخل معابدهم رأس حمار يعبدونها، وان طقوس عبادتهم كانت تدعو إلى الازدراء· 4 ـ تفنيد ما ذهب إليه بعض المؤرخين من أن اليهود كانوا يلتهمون لحوم البشر بوجه عام ولحوم الإغريق بوجه خاص، وأنهم كانوا يكنّون العداوة والبغضاء للشعوب الأخرى وعلى رأسها الإغريق· 5 ـ الرد بقوة على الافتراءات التي هاجمت ناموس اليهود ومعتقداتهم الدينية وشككت فيها أو أساءت إليها· ويرى المترجم الدكتور محمد حمدي إبراهيم: أنه لا يمكننا القول بثقة إن المؤرخ يوسف قد التزم بالموضوعية على طول الخط في كل ما دوٌنه أو أعلنه في كتابه هذا· فقد جنح أحياناً إلى المبالغة، ووقع أحياناً في التناقض، كما ارتكب في القليل النادر بعض الأخطاء الجسيمة'' وقد بين المترجم ذلك في الحواشي، ومع ذلك فهو يعترف بأن فضائل الرجل في مؤلفه تفوق بكثير ما بدا فيه من مثالب وعيوب· وعلى العموم فإن المترجم لم يكتف بترجمة الكتاب إلى اللغة العربية بل قدّم لنا إضافة ساهمت في معرفتنا للكثير من القضايا والحق أن هذا الكتاب يساعدنا ـ إذا توافرت لدينا قوة الحجة والوثائق والصبر ـ على الرد على جور الآخرين وحربهم معنا في عالم اليوم·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©